رغم سريان مهلة التسعين يومًا، بوقف قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب بشأن التعريفات الجمركية الواسعة النطاق عالميًا، إلا أن لا أحد يعلم ما تريده الولاياتالمتحدة بشأن التجارة، أو حتي إذا كانت هناك استراتيجية علي الإطلاق، حيث يكافح مسؤولو ترامب بتقديم تفسيرات معقولة عن أفعاله وتراجعه فيها. ووسط كل هذه الفوضي، لا توجد غير الصين التي تعرف هدفها من الحرب التجارية التي بدأتها الولاياتالمتحدة، إذ نشرت مجلة فورين بوليسي في تحليل لها، أن الصين حذرت في 21 أبريل الحالي ، الحكومات الأخري من إبرام أي صفقات تجارية مع الولاياتالمتحدة من شأنها الإضرار بمصالحها، إذ اتضح صحة فرضيتها، بأن استراتيجية ترامب هي إجبار الدول الأخرى على الانفصال عن الصين، محذرةً بأن نهج واشنطن قد يكون محفوف بالمخاطر وقد يأتي بنتائج عكسية وفقًا للمجلة. اقرأ أيضًا| حرب الرسوم الجمركية.. ما الذي ينتظر أمريكاوالصين في صراعهم الاقتصادي؟ وما بين الترهيب والترغيب، يوضح التحليل، أن فكرة دونالد ترامب تتمحور حول إجبار الحكومات في جميع أنحاء العالم على فرض حواجز تجارية خاصة بها على الصين، أو مواجهة إعادة فرض تعريفات جمركية باهظة في نهاية فترة السماح البالغة 90 يومًا. حيث تعطي التصريحات الأخيرة للمسؤولين الأمريكيين مصداقية للفكرة، أن واشنطن تحاول بناء تحالف عالمي ضد بكين، وهو ما ظهر فى تصريح وزير الخزانة سكوت بيسنت قائلا "أنه بمجرد أن تتوصل الولاياتالمتحدة وحلفاؤها إلى اتفاق اقتصادي، فسنكون قادرين على التعامل مع الصين كمجموعة". وفي سياق دلائل مصداقية الاستراتيجية، حصرت المجلة الأمريكية مخاطرها في ثلاث نقاط، وهي: 1.خطة الفصل تضر واشنطن أكثر من بكين حيث يعتقد صندوق النقد الدولي أن الحروب التجارية ستخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بنحو0.9 نقطة مئوية هذا العام، مقارنة بنحو ب 0.6 نقطة مئوية فقط على الصين. وهو ما يظهر في حجم واردات السلع الأمريكية من الصين أكبر بثلاث أضعاف من واردات الصين من الولاياتالمتحدة، ما يعني أن الشركات الأمريكية ستضطر إلى دفع رسوم جمركية أكبر بكثير من الشركات الصينية. كما تشير بيانات التجارة بين الولاياتالمتحدةوالصين دليلاً إضافيًا على سبب معاناة الاقتصاد الأمريكي أكثر من الاقتصاد الصيني، إذ توفر الصين ما يقرب من ثلاثة أرباع واردات الولاياتالمتحدة من بعض الأجهزة الإلكترونية عالية التقنية والتي يصعب استبدالها، مثل الهواتف الذكية وشاشات الكمبيوتر. ومع تضاءل الانتاج وقلة وجود فرص بديلة، من المتوقع أن يواجه المستهلكون الأمريكيون قريبًا ارتفاعات حادة في أسعار السلع الإلكترونية. على النقيض، يمكن للصين أن تحقق أداءً جيدًا بشكل معقول بدون واردات الولاياتالمتحدة؛ حيث تستورد البلاد في الغالب سلعًا منخفضة الجودة وسهلة الاستبدال من الولاياتالمتحدة، مثل النفط وفول الصويا. تمتلك بكين أيضًا بعض الأوراق الرابحة في جعبتها والتي يمكنها من خلالها إلحاق الألم بواشنطن - وأصدقائها المحتملين في الانفصال - من خلال تسليح الوصول إلى الإمدادات الحيوية، أبرزها الأدوية حيث تنتج الشركات الصينية ما يقرب من نصف الإمدادات العالمية لمكونات المضادات الحيوية. أضف إلي ذلك وفقا للمجلة، نفوذ الصين الكبير في مجال المعادن النادرة؛ وهي مجموعة من 17 معدنًا ضرورية للتحول الأخضر والأجهزة الرقمية ومعدات الدفاع. ولمزيد من السيطرة علي مجال المعادن النادرة، فرضت الصين في 7 أبريل، على المنتجين الحصول على تصاريح تصدير لمبيعات سبعة من هذه العناصر إلى الولاياتالمتحدة. ونظرًا لأن الشركات الصينية تمتلك نحو 90% من القدرة العالمية على معالجة المعادن النادرة، تسبب القرار في إحداث صدمة عبر سلاسل التوريد العالمية، سيما وأن اثنان من المعادن المستهدفة - الديسبروسيوم والتيربيوم - ضروريان لبناء محركات الطائرات والمركبات الكهربائية، ويصعب استبدالهما. اقرأ أيضًا| تراجع نفوذ صقور السياسة الأمريكية تجاه الصين في إدارة ترامب 2.الغموض يكتنف موقف الدول من وقوفها بجانب الولاياتالمتحدة المشكلة الثانية في خطة دونالد ترامب، عدم اليقين بوقوف جميع الدول بجانبه، وتعد أوروبا أبرزها هنا، وذلك بالنسبة لمصنعي السيارات الأوروبيين إذ جعلت الإجراءات الأمريكية الأخيرة، التفكير في المخاطر المرتبطة بالصين مسألة ثانوية لا تدعي للقلق، وتوجيه البوصلة نحو كيفية التعامل مع سياسات ترامب. وبدورها، تشير التطورات الأخيرة إلى تزايد فرص التقارب بين بروكسلوبكين، ولو من نقطة انطلاق متدنية. على سبيل المثال، في أبريل، وافقت المفوضية الأوروبية على استئناف المحادثات مع الصين بشأن الرسوم الجمركية المفروضة على السيارات الكهربائية الصينية، وهو ملف يُعد مصدر توتر رئيسي في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وبكين. وفي إشارة أخري لتجاهل المسؤولين في أوروبا التصريحات الأمريكية، تجاهلت المفوضية الأوروبية تحذيرات وزير المالية سكوت بيسنت، من التقارب للصين، بل ما زاد الأمور تعقيدًا التعهدات الصينية بزيادة الاستثمار في أوروبا مقابل تنازلات الاتحاد الأوروبي بشأن تعريفة السيارات الكهربائية. كما يأتي الضغط لإبرام مثل هذه الصفقة من بعض القادة بالاتحاد الأوروبي؛ فقبل السفر إلى بكين في زيارة رسمية، دعا رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز إلى مراجعة العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين - وهو ما اعتبره العديد من الخبراء توبيخ واضح لواشنطن. وفي أماكن أخرى من العالم، لا تبدو الصورة أكثر إشراقًا لجهود الولاياتالمتحدة لفك الترابط. فالصين هي أكبر شريك تجاري لمعظم البلدان، ما قد يجعل حكوماتها تفكر مرتين قبل قطع العلاقات مع بكين، وتتجاوز البصمة الاقتصادية العالمية الضخمة للبلاد التجارة، فبينما تظل الشركات الأمريكية أكبر مورد للاستثمار الأجنبي المباشر في العالم بفارق كبير (404 مليار دولار في عام 2023)، فإن الشركات الصينية هي أيضًا من اللاعبين الرئيسيين؛ حيث تم استثمار 148 مليار دولار في عام 2023، في نفس مستوى الشركات من اليابان والاتحاد الأوروبي. وبالمقابل، ستكون الاستراتيجية المنطقية لمعظم البلدان هي الحفاظ على العلاقات مع كل من الولاياتالمتحدةوالصين - على سبيل المثال، من خلال تقديم تنازلات لدونالد ترامب تبدو مثيرة على الورق ولكنها لا تعني الكثير في الممارسة العملية، فاليابان، على سبيل المثال، تتطلع إلى إجراء تغييرات تجميلية على قواعد سلامة السيارات الخاصة بها لإرضاء ترامب، الذي لطالما قدم ادعاءات غير صحيحة بشأن لوائح السيارات اليابانية والأوروبية، وهو ما يأخذنا إلي الإشكال الثالث. 3.ضبابية الرؤية الأمريكية يسلط التحليل الضوء، على أن طلب التخلص من الصين سيكون طلبًا ضخمًا في وقت يكون فيه عرض ترامب لبقية العالم غير واضح، إذ يعتبر العديد من صانعي السياسات بأن الولاياتالمتحدة - وليس الصين - التهديد الأكبر في العالم اليوم، وهو ما يظهر في الخطاب التحريضي لترامب لحلفائه بأوروبا، بأن الاتحاد الأوروبي تشكل لازعاج الولاياتالمتحدة، أو التهديدات بالاستيلاء على جزيرة جرينلاند، أو الأزمة مع الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي بالبيت الأبيض والذي أثر علي مصداقية الولاياتالمتحدة وفقًا للمجلة، وسط تساؤل العديد من الحلفاء أيضًا عن مزايا أي صفقة يمكن لترامب التراجع عنها لمجرد أنها "نزوة". وتقول المجلة، قد تكون فكرة أن الدول ستقف بسعادة إلى جانب الولاياتالمتحدة صحيحة إذا كانت البلاد لا تزال القوة المهيمنة العالمية الوحيدة دون وجود بديل قابل للتطبيق في الأفق. ومع ذلك، لم يعد هذا هو الحال، وبكين تنتهز الفرصة الذهبية لتظهر وكأنها الشخص البالغ في الغرفة وبديل قابل للتطبيق لواشنطن المعادية، بعد فترة وجيزة من ما يسمى بيوم التحرير لدونالد ترامب في 2 أبريل، عندما أعلن ما يسمى بالتعريفات الجمركية المتبادلة، أصدرت وزارة الخارجية الصينية مقطع فيديو عن التعريفات الجمركية الأمريكية، بصوت الراوي يسأل، "هل تريد أن تعيش في عالم مثل هذا؟" ويوضح التحليل، رغم أن السؤال يأتي من نظام ديكتاتوري، لكنه يكتسب زخمًا بسرعة في جميع أنحاء العالم. وفي هذا السياق، ومع استعداد الزعيم الصيني، شي جين بينج بالشروع في رحلة إلى جنوب شرق آسيا في وقت سابق من هذا الشهر، قال مسؤول كمبودي لمجلة الإيكونوميست إن بلاده التي تواجه ضغوطا من الولاياتالمتحدة، يأتي إليها شي جين بينج، بصفته زعيم ثاني أكبر اقتصاد، إلينا ما يدعم ثقتنا في أنفسنا، واصفًا بأنه يحمل بعدًا معنويًا مهمًا نظرًا لمكانة الصين الاقتصادية عالميًا. واستخلاصًا لما سبق، تستشهد المجلة الأمريكية، إلي الكاتب كارلو سيبولا في كتابه "القوانين الأساسية للغباء البشري" الصادر عام 1976، في وصف الغباء باستخدام بعض القواعد البسيطة، تقول أحدها "أن الأشخاص الأغبياء يتصرفون بطرق ضارة لأنفسهم وللآخرين، دون الحصول على أي فوائد من أفعالهم"، فهل من الممكن أن تنطبق علي المثال الأمريكي؟ اقرأ أيضًا| الرسوم الجمركية تشعل حربًا صامتة.. من يستقبل طوفان الصين الصناعي؟