عندما اقترب من مشارف الكعبة الشريفة ارتفع صوته مدويا: «لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك» وبدأ رجال قريش يسألون أنفسهم: ما هذا الذى يقال؟ ومن الذى يجرؤ أن يهتف بغير ما عهدنا من حجيج البيت. لم يتوقف الصوت عن التلبية.. ولم تتوقف الأسئلة بين رجال قريش وفتيانها فهبت غاضبة مذعورة وجهزت سيوفها ترد صاحب النداء عن ضلاله.. فهو لا ينشد لهبل وسائر الأصنام التى يتقربون إليها.. وما معنى كلامه الذى هز أسماعهم وقلوبهم وكانت المفاجأة عندما صاح أحد فتيان قريش: إنه ثمامة ملك اليمامة!! وعقدت الدهشة ألسنتهم وجوارحهم.. وهم أحد الفتيان أن يرمى بسهمه إلى قلب ثمامة.. لكن أحد كبار القوم صاح فيه: كف يدك!! أتعلم من هذا؟ والله إن أصابه سوء لقطع قومه علينا المؤونة ومتنا جوعا. واقترب رجل قريش الكبير من ثمامة يسأله فى مودة وتقدير وعجب: ماذا بك يا ثمامة.. أكفرت وتركت دينك ودين آبائك؟!. قال ثمامة: الكفر ما أنتم فيه.. وما كنت أنا أيضًا عليه.. لكنها هداية رب الأرض والسماء الواحد الأحد قد أشرقت فى روحى.. وأقسم برب هذا البيت.. رب المشارق والمغارب ألا يصلكم بعد يومكم هذا حبة قمح واحدة من خيرات اليمامة.. إلا أن تشهدوا بأنه لا إله إلا الله وأن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) رسول الله. كانوا لا يصدقون.. وأرسلوا منهم من يأتى بالخبر اليقين.. وكيف تحول هذا الملك الموصوف «بالقيال» صاحب القول المسموع والأمر المطاع والذى كان يفخر بين قومه بأنه أشد الناس بغضا على وجه البسيطة لمحمد وأتباعه.. وكم قتل منهم وكاد لهم وأعلن الحرب عليهم.. ومع ذلك كتب إليه النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) فى سلسلة رسائله إلى ملوك العرب والعجم يدعوه إلى الإسلام وكان ذلك فى العام السادس للهجرة النبوية المشرفة. وعندما تلقى ثمامة الرسالة أخذته العزة بالإثم ساخرًا ووقف وسط عشيرته قائلًا: أنا ثمامة بن أثال الحنفى سيد يمامة يريدونى أن أتخلى عن دين آبائى.. أتدرون ماذا سيكون ردى على رسالته تلك بسيفى هذا إنه الرد، اللائق حتى يفيق إلى رشده ويكف عن دعواه لقد قتلت ما قتلت من أصحابه. لكنه ما يزال على عناده.. ولأنه الرجل الذى يفعل ما يقول راح يتحين الفرصة للنيل من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وفى سبيل ذلك قتل العشرات من الأصحاب والأتباع.. وكاد أن يصل إلى هدفه لولا أن أحد أعمامه حال بينه وبين ذلك.. لكن قلبه الملعون المشحون بالبغضاء كان لا يزال فى عتمته. وخرج صوب مكةالمكرمة يريد الطواف حول الكعبة والذبح لاصنامها وتقديم قرابين التوسل والرجاء.. ولم يكن يدرى أنه واقع لا محالة فى فخ محمد (صلى الله عليه وسلم) وأن حياته كلها سوف تتبدل وتتحول من النقيض إلى النقيض. وفى ذلك يكشف لنا أبو هريرة أسرار ما جرى حيث قال: بعث النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) خيلًا قبل نجد فجاءت برجل من بنى حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سوارى المسجد فخرج إليه النبى محمد صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال:عندى خير يا محمد إن تقتلنى تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وان كنت تريد المال فسل منه ما شئت فتُرك حتى الغد ثم قال له: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال عندى ما قلت؟.. وفى اليوم الثالث تكرر ما جرى.. حتى أمر النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) قائلًا: اطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. ثم اتجه إلى حيث يجلس النبى محمد وقال له: يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلى من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلى والله ما كان من دين أبغض إلى من دينك فأصبح دينك أحب الدين إلى والله ما كان من بلد أبغض إلى من بلدك فأصبح بذلك أحب البلاد إلى وأن خيلك أخذتنى وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأمره أن يعتمر وفى رواية اغتسل وصلى ركعتين فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): لقد حسن إسلام صاحبكم واتجه به إلى مكة.. وسبحان من يقلب القلوب والأفئدة يهدى من يشاء ويضل من يشاء. كان يبغى السفر لأصنام مكة.. وأراد له الله سبحانه وتعالى أن يسافر إليها مسلما طاهرا وأن يكون أول من يدخل إلى الكعبة المشرفة ملبيا مهللًا رغم أنف أصنام قريش.. وهدأ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من روعه وهو يقر بما اقترفت يداه أيام الجاهلية: هون عليك يا ثمامة فإن الإسلام يجب ما قبله.. وزاد على ذلك أن بشره بالخير الذى ينتظره.. فتعهد أمام النبى أن يصيب من المشركين أضعاف، أصاب من أصحاب محمد وأن يضع نفسه وسيفه ومن معه لنصرة الدين. وقد نفذ حصاره ضد أهل قريش فى مكة حتى تفشى فيهم الجوع فلم يجدوا إلا مخاطبة رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) لكى يشفع لهم عند ثمامة.. ورغم عداوة قريش ومحاربتها لدين الإسلام إلا أن نبى الرحمة كتب إلى ثمامة يأمره بأن يطلق لهم مؤونتهم فلم يملك إلا السمع والطاعة.. ولما توفى الرسول المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وارتدت بعض قبائل العرب وقام مسيلمة الكذاب ينشر دعواه الباطلة وقف له ثمامة كالأسد الثائر وخطب فى قومه: يا بنى حنيفة إياكم وهذا الأمر المظلم الذى لا نور فيه إنه والله لشقاء كتبه الله عز وجل على من أخذ به منكم. يا بنى حنيفة إنه لا يجتمع نبيان فى وقت واحد وإن محمدا رسول الله ولا نبى بعده ولا نبى يُشرك معه ثم قرأ قول المولى سبحانه وتعالى: چ??ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ?چ چ چ چ چ (غافر 1-3). فأين كلام الله من كلام مسيلمة يا ضفدع نقى ما تنقين لا الشراب تمنعين ولا الماء تكدرين. وظل ثمامة على قوة إيمانه يحارب كل مرتد حتى لقى ربه راضيا مرضيا كما بشره النبى محمد (صلى الله عليه وسلم).