الحق أن النابغة لم يكن شاعرا مداحا للملوك وللأمراء لينال عطاياهم.. وإنما كان من سادة قومه.. ولعب دورا سياسيا فى حرب داحس والغبراء الشهيرة فى الجاهلية.. كما كان ملوك المناذرة والغساسنة وغيرهم من الأمراء وزعماء القبائل يقدرونه.. ويقبلون وساطته فى الإفراج عن الأسرى بين القبائل المتحاربة، ولكن كانت هذه عادة الشعراء فى الجاهلية أن يقصدوا الملوك ليصادقوهم وينادموهم لينالهم من نعيمهم نصيب.. ويتقوا شرهم ضد قومهم، فقد كان المناذرة والغساسنة فى حروب دائمة.. وكان الكثير من القبائل يحتمى بأحدهما ضد منافسيه.. بل الطريف أن المناذرة كانوا يحتمون بالفرس والغساسنة بالروم! ومن ثم كان للشعراء دور كبير فى هذا المعترك السياسى لحماية قبيلتهم أو الحصول على «أرض» إضافية كمرعى لإبل القبيلة.. وهو ما كانت تقوم الحروب بسببه.. فقد ذهب النابغة الذبيانى إلى الملك الغسانى الحارث بن أبى شمر ليكلمه فى أسرى بنى أسد وكانوا حلفاء غطفان وذبيان (قوم النابغة)، فأعطاه إياهم وأكرمه، ولكنه حذره من حصن زعيم الفزارين أصدقاءه.. فقد بلغه أنه يجمع عليه القبائل: وها هو النابغة يصف ذلك فى شعره: إنى كأنى لدى النعمان خبرة بعض الأود حديثا غير مكتوب بأن حصنا وحيا من بنى أسد قاموا فقالوا: حمانا غير مقروب ضلت حلومهم عنهم وغرهم سن المعيدى فى رعى وتعذيب ثم يصف أسرى بنى أسد الذين تمكن من فك أسرهم: لم يبق غير طريد غير منفلت وموثوق فى حبال القد مسلوب أو حرة كمهاة الرمل قد كبلت فوق المعاصم منها والعراقيب تدعو قعينا وقد عض الحديد بها عض الثقاف على صم الأنابيب فقد كانت نساء بنى أسد.. وهن كالمهاة فى حُسن عينيها مقيدة بحديد يوجعهن، وهن ينادين على قومهن: يالقعين.. طلبا للنجدة! ومرة أخرى يتدخل النابغة لدى الغساسنة من أجل قومه، فقد كان للغساسنة واد اسمه «أقر» مملوء عشب ومياه، فجارت عليه بنوذبيان، فنهاهم النابغة وحذرهم وخوفهم من إغارة الملك عليهم، فعيروه بخوفه.. وهو ما حدث فعلا: وفى ذلك يقول النابغة: لقد نبهت بنى ذبيان عن أقر وعن تربعهم فى كل أصفار وقلت: يا قوم إن الليث منقبض على براثنه لوثبة الضارى وعيرتنى بنو ذبيان خشيته وهل على بأن أخشاك من عار! وحين أغار النعمان بن وائل الكلبى على بنى ذبيان وهزمهم أخذ منهم النساء سبايا، ومنهن عقربًا ابنة النابغة.. فسألها: من أنت؟ فقالت: أنا بنت النابغة، فقال لها: والله ما أحد أكرم علينا من أبيك، ولا أنفع لنا عند الملوك، ثم جهزها وخلاها، ثم قال: والله ما أرى النابغة يرضى بهذا منا، فأطلق الأسرى كلهم. وفى هذا يقول النابغة: لعمرى لنعم الحى صبح سر بنا وأبياتنا يوما بذات المراود يقودهم النعمان منه بمحصف وكيد يعم الخارجى مناجد أصاب بنى غيظ فأضحوا عباده وجللها نعمى على غير واحد وللنابغة قصيدة جميلة يعدها النقاد إحدى معلقات الشعر العربى.. وقالها فى مدح عمرو ابن الحارث الغسانى بعدما هرب من عرب العراق (المناذرة) إلى عرب الشام.. وقد بدأها على نظم أمرئ القيس عندما خاطب الليل الذى لا ينجلى عن صبح ليس بأفضل منه، وهنا يخاطب النابغة أميم ابنته أن تتركه لهمه يقاس الليل الذى لا تتحرك كواكبه: كلينى لهَّم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطىء الكواكب تطاول حتى قلت: ليس بمنقض وليس الذى يرعى النجوم بآيب وصدر أراح الليل عازب همه تضاعف فيه الحزن من كل جانب وكما كان النابغة علاّمة فى المدح والاعتذار.. كان ذلك أيضا فى الرثاء.. فها هو يرثى صديقه حصن زعيم الفزارين بقوله: يقولون حصن، ثم تأتى نفوسهم وكيف بحصن والجبال جنوح ولم تلفظ الأرض القبور ولم تزل نجوم السماء والأديم صحيح فعمّا قليل ثم جاش نعيه فبات ندى القوم وهو ينوح كما قال أيضا يرثى أخاه وأمهما عاتكة بنت الأشجعى، وكان قد ذهب يستعيد إبلا له.. فمات: لا يهنئ الناس ما يرعون من كلاً وما يسوقون من أهل ومن مال بعد ابن عاتكة الثاوى لدى أبوى أمسى ببلدة لا عم ولا خال حسب الخليلين نأى الأرض بينهما هذا عليها وهذا تحتها بال ولم يخلو شعر النابغة أيضا من «الحكمة» وإن لم تكن فى شهرة حكمة المتبنّى.. لكن لا يمكن تجاهلها: من يطلب الدهر تدركه مخالبه والدهر بالوتر ناج غير مطلوب ما من أناس ذوى مجد ومكرمة إلا يشد عليهم شدة الذيب حتى يبيت على عمد سراتهم بالنافذات من النبل النصاصيب إنى وجدت سهام الموت معرضة.. بكل حتف من الآجال مكتوب