لم يطب العيش للنابغة لدى الفسانيين بالشام بعد وفاة صديقه الملك الحارث.. فقد تبدلت الأحوال بالنسبة له.. فلكل دولة رجال.. وهو الشيب المجرب.. فحمل متاعه وعاد إلى قومه «بنى ذبيان» فى الحجاز، وعاوده الحنين إلى صديقه القديم الملك النعمان بن المنذر الذى غضب عليه بعد أن وشى به البعض عنده، فوسط أصدقاءه من الفزارين ليكلموا النعمان بشأنه، كما أخذ يعلن عن العديد من قصائده فى مدح النعمان وملوك المناذرة.. وهى التى سميت «بالاعتذاريات» لكثرتها وشهرتها. وقد بدأت المصالحة عندما استأذن الفزارين الملك النعمان لزيارته فأقام لهم خيمة كبيرة ليقيموا فيها ومعهم مغنية للترفيه عنهم ولم يكن يعلم أن النابغة معهم، وطلب الأخير من الجارية أن تتغنى ببعض أشعاره التى يقول فيها: نبئت أن أبا قابوس أوعدنى ولا قرار على زائر من الأسد مهلا فداء لك الأقوام كلهم وما أثمر من مال ومن ولد فلا لعمر الذى مسحت كعبته وما أريق على الأنصاب من جسد ما إن بدأت بشىء أنت تكرهه إذن فلا رفعت سوطى إلى بدنى فالشاعر يقسم بالكعبة التى حج إليها وبالدماء التى سالت على أجساد الأصنام، كما يدعو بشلل يده وعدم استطاعتها رفع سوطه إذا كان ما وصله عنه صحيح. المهم.. أنه عندما سمع النعمان ما تقوله الجارية أقسم أنه شعر النابغة، فسأل عنه وأخبروه بأنه مع الفزارين.. فعفا عنه.. وقربه منه.. فعادت سيرتهما الأولى. وكان النابغة كعادة شعراء الجاهلية يبدأ قصائده سواء كانت للمدح أو الاعتذار او الفخر بالبكاء على الأطلال، ثم يدخل إلى الموضوع الأساسى.. وهو هنا فى أول اعتذارياته للنعمان فى قصيدته الشهيرة «يا دار مية بالعلياء فالسند» يبكى على الأطلال التى كانت عزيزة بسبب ارتفاع مبانيها التى أقيمت على مكان عال.. فضلًا عن استنادها على الجبل المجاور لها.. ووقف بها قليلًا.. يسألها، ولم يجد أحدًا بالمكان يرد عليه. وبعدها يبدأ بالتعبير الذى اشتهر عنه والذى كرره فى أكثر من قصيدة «أتانى أبيت اللعن أنك لمتنى». حيث يقول فى تلك القصيدة: يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت، وطال عليها سالف الأمد وقفت بها أصيلانا أسائلها عييت جوابا، وما بالربع من أحد أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا أخنى عليها الذى أخنى على لبد وبعد العديد من الأبيات التى يصف بها حال المكان، وناقته، وعمليات الصيد بالكلاب.. إلخ.. يخاطب النعمان بقوله: فتلك تبلغنى النعمان، إن له فضلًا على الناس فى الأدنى وفى البعد ولا أرى فاعلا فى الناس يشبهه ولا أحاشى من الأقوام من أحد إلا سليمان إذ قال الإله له قم فى البرية فاحددها عن الفند ويواصل المدح.. مذكرا إياه بما أعطاه له وهو كثير.. من نوق وخيول.. ثم يصل إلى الاعتذار الصريح: هذا الثناء فإن تسمع به حسنا فلم أعرض - أبيت اللعن - بالصفد ها إن ذى عذرة إلا تكن نفعت فإن صاحبها مشارك النكد ثم يعاود الكرّة فى قصيدة أخرى.. فيشرح موقفه ويطلب العفو.. مذكرا إياه بعدالة الله فى الأرض! أتانى - أبيت اللعن - أنك لمتنى وتلك التى تستك منها المسامع مقالة أن قد قلت سوف أناله وذلك من تلقاء مثلك رائع أتاك امرؤ مستبطن لى بغضه له من عدو مثل ذلك شافع أتاك بقول لم أكن لا أقوله ولو كبلت فى ساعدى الجوامع حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وهل يأثمن ذو إمة وهو طائع فإن كنت لا ذو الضغن عنى مكذب ولا حلفى على البراءة نافع ولا أنا مأمون بشىء أقوله وأنت بأمر لا محالة واقع فإنك كالليل الذى هو مدركى وإن خلّت أن المنتأى عنك واسع أتوعد عبدا لم يخنك أمانة وتترك عبدا ظالما وهو ضالع وأنت ربيع ينعش الناس سيبه وسيف أعيرته المنية قاطع أبى الله إلا عدله ووفاءه فلا النكر معروف ولا العرف ضائع وعذرا للقراء على الإطالة.. فلم أجرؤ على اختصار الأبيات.. لحسن بيانها وقوة ألفاظها وجمال معانيها ونعومة موسيقاها.. فبعد التوضيح والاعتذار.. يصفه بالليل الذى يدرك الجميع (هيروح منه فين) وهو الربيع وهو السيف.. وكيف له أن يتوعد عبدًا لم يخنه ويترك الظالم.. أين عدل الله على الأرض.. فلماذا ننكر المعروف ونضيع العرف؟ وهذه قصيدة أخرى.. وصفت بأنها أجمل ما قيل فى الاعتذاريات: أتانى - أبيت اللعن - أنك لمتنى وتلك التى اهتم بها وأنصب فبت كأن العائدات فرشننى هراسا به يغلى فراشى ويقصب حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب فلا تتركنى بالوعيد كأننى إلى الناس مطلى به القار أجرب ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب كأنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب فإن آك مظلوما فعبد ظلمته وإن تك ذا عتبى فمثلك يعتب أنت كالشمس والملوك كواكب.. فكيف تظلمنى وأنا العبد، وإن يكن ذلك عتاب.. فمن غيرك يعاتبنى! ونختم بما يشبه الرثاء عندما علم بمرضه وشبه وفاته: أحاديث نفسى تشتكى ما يريبها وورد هموم لن يحدن مصادرا تكلفنى أن يغفل الدهر همها وهل وجدت قبلى على الدهر قادرا؟ ألم تر خير الناس أصبح نعشه على فتية قد جاوز الحى سائرا ونحن لديه نسأل الله خلوة يرد لنا ملكا وللأرض عامرا لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا وأصبح جد الناس يظلع عاثرا