ونحن في أمس الحاجة إلي شفاعتك في هذه الأيام الجسام تأتينا ذكري مولدك يا رسول الله.. يا من جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ.. يا من قدست الوجود كله, ورعيت قضية الإنسان.. يا من زكيت سياسة العقل, ورفضت همجية القطيع.. يامن هيأك تفوقك لتكون سيدا فوق الجميع فعشت واحدا بين الجميع.. يا من أعطيت القدوة وضربت المثل وعبدت الطريق.. يا من عظمتك لبثت أكثر من ألف وأربعمائة عام لتظل دوما ترسل ضياءها وتبث في ضمير الزمن رشدها, ونهاها.. يا أيها العابد الأواب الذي تقف في صلاتك تتلو سورة طويلة من القرآن فيانتشاء لا تقايض عليها بملء الأرض تيجانا وذهبا, ثم لا تلبث أن تسمع بكاء طفل رضيع تصلي أمه من خلفك في المسجد فتضحي بغبطتك الكبري وتنهي صلاتك علي عجل رحمة بالرضيع الذي يبكي وينادي أمه ببكائه!.. يا من وقف أمامك صاغرين الذين شنوا عليك الحرب والبغضاء, ومثلوا بجثمان عمك الشهيد حمزة ومضغوا كبده في وحشية, فتقول لهم: اذهبوا, فأنتم الطلقاء!.. يا من جمعت الحطب لأصحابك في أسفارهم ليستوقدوه نارا تنضج لهم الطعام!.. يا من ترتجف حين تبصر دابة تحمل علي ظهرها أكثر مما تطيق!!.. يا من تحلب شاتك, وتخيط ثوبك, وتخصف نعلك!.. يا من وقفت بين الناس خطيبا لتقول: من كنت جلدت له ظهرا, فهذا ظهري فليقتد منه.. يا من ناديت باليسر علي المعسر بقولك: من أراد أن تستجاب دعوته, وأن تكشف كربته, فليفرج عن معسر.. يا من ناديت ببر الأم بإحسان عشرتها, وتوقيرها, وخفض الجناح لها, وطاعتها في غير المعصية, والتماس رضاها في كل أمر, حتي الجهاد إذا كان فرضا لا يجوز إلا بإذنها فإن برها ضرب من الجهاد, وقد جاء الرجل يقول: يا رسول الله أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك, فقلت: هل لك من أم؟ قال: نعم.. قلت: فإلزمها فإن الجنة عند رجليها.. ويسألك الذي يطوف البيت الحرام حاملا أمه: هل أديت حقها؟! فتقول: ولا بزفرة واحدة وتقصد أيا من زفرات آلام الطلق والوضع ولم توص بالأم فقط بل بالأخوال والخالات والأعمام والعمات, فجاء الرجل يسألك: إني أذنبت, فهل لي من توبة؟ فقلت: هل لك من خالة؟ قال: نعم, قلت: فبرها, وأي شعور غامر كان يملأ قلبك حين قلت لمن سألك عن أحق الناس بإكرامه فقلت: أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك.. ويا من قلت وأنت سيد العالمين: إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد.. وكلما دار عام القمر دورته, لشهر ربيع الأول لتأتي ذكري الليلة الخالدة علي الدهر التي وضعت فيها السيدة آمنة ولدها محمدا نرتل قصة المولد النبوي الشريف وما حف به من خوارق وما ترنمت به المرويات التي تناقلت عبر الأجيال وأضافت إليها الليالي والأيام جديدا من رؤي المحبين ومواجد العاشقين وملهمات الشعراء:في يوم مولده رجمت الجن, وتدلت إلي المولود الأنجم الزهرية, واستنارت بنورها وهاد الحرم ورباه, وخرج معه نور أضاء قصور الشام, فرآها سكان مكة, وتصدع إيوان كسري, وسقطت أربع عشرة من شرفاته العلوية, وخمدت رغم جهود عبادها نار الفرس المقدسة بعد أن ظلت مضطرمة أكثر من ألف عام, وشوهدت الأصنام في جميع بقاع العالم منكسة الرءوس, وغاضت مياه بحيرة ساوة, وشوهدت إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها, ورغم تلك الظواهر جميعها وما تنبأ بها الموبذان خادم النار الكبير عند الفرس والذي كان قد رأي رؤيا تدل علي قيام انقلاب عام في العالم بسبب أمر يقع في جزيرة العرب, وبرغم تنبؤاته تلك مر الأمر الجلل دون أن يشعر أحد. ذلك الأمر هو: ميلاد طفل قرشي في مكة, تلك المدينة التائهة وسط القفار التي لم يسمع بها أكابر الملوك والأمراء في الشرق والغرب.. هذا وإن كانت الكتب السماوية كلها تشتمل علي نبوءات عن مجيء الرسول فمنها ما جاء علي لسان موسي عليه السلام في سفر الاشتراع( أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك, واجعل كلامي في فمه, فيكلمهم بكل ما أوصيه به) ومعناها أن النبي الموعود لن يجيء من بين الإسرائيليين أنفسهم, بل من بين إخوتهم من ذرية إسماعيل.. وتقول النبوءة علي لسان السيد المسيح في سفر يوحنا: إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم.. ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن.. وأما حين يأتي ذاك.. روح الحق.. فهو يرشدكم إليالحق.. ويسألون يوحنا المعمدان كما يروي سفر يوحنا من أنت؟ المسيح أنت؟ قال: لست أنا.. إيليا أنت؟.. قال: لست أنا. ذلك النبي أنت؟ فأجاب: لا!! وهذا يظهر في يقين أن اليهود كانوا يرتقبون ثلاثة أنبياء مختلفين أولهم إيليا وثانيهم المسيح وثالثهم نبي كي لا يصفونه بوصف مميز.. ويقول المسيح: إن كنتم تحبونني, فاحفظوا وصاياي, وأنا أطلب من الآب, فيعطيكم( معزيا) آخر, ليمكث معكم إليالأبد وقول النبوءة عن الرسول القادم ليمكث إلي الأبد دلالة علي أنه لن يكون هناك بعد النبي الموعود أي آخر, فمحمد آخر الأنبياء. ومن إرهاصات مولد الحبيب المصطفي أنه كان في عام الفيل عندما جاء جده عبدالمطلب يطلب من آمنة التي قاربت الوضع التهيؤ للخروج في الغد من مكة مع أهل قريش للاختباء في شعاب الجبال هربا من جيش إبرهة الحبشي القادم من اليمن بهدف هدم البيت العتيق مستخدما الفيل.. ويأتي الصباح وترتفع شمس الضحي ولم يبعث عبدالمطلب برسوله إليها, حتي إذا آذنت شمس المغيب جاءتها البشري تروي أن إبرهة عندما وجه الفيل من معسكره خارج البلدة من ناحية الجنوب, برك وأبي أن يتحرك, فضربوه في رأسه بآلة من حديد, ووخزوه أسفل بطنه فأبي التحرك, فوجهوه إلي اليمن فقام يهرول, ووجهوه نحو الشام ففعل مثل ذلك, ووجهوه تجاه المشرق فتهيأ بالانطلاق, ولما عادوا يوجهونه نحو مكة برك!.. ثم كان أن سلط الله نقمته علي أصحاب الفيل فانتشر بينهم وباء فتاك قضي عليهم وهم مدبرون هاربون ومعهم إبرهة تتساقط أعضاؤه تباعا: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل, ألم يجعل كيدهم في تضليل, وأرسل عليهم طيرا أبابيل, ترميهم بحجارة من سجيل, فجعلهم كعصف مأكول.. وقد حدد البعض مثل السهيلي في عيون الأثر مولد الرسول بعد حادث الفيل بخمسين يوما, وعن ابن عباس أن المولد كان في يوم معركة الفيل بالذات, واكتفي البعض كالبخاري بأنه كان في سنة الفيل لينشد المنشدون بقصائد الشعر من وحي الذكري الغراء لقدوم ذاك اليتيم الخالد: بك بشر الله السماء فزينت وتضوعت مسكا بك الغبراء يوم يتيه علي الزمان صباحه ومساؤه بمحمد وضاء ذعرت عروش الظالمين فزلزلت وعلت علي تيجانهم أصداء والنار خاوية الجوانب حولهم خمدت ذوائبها وغاض الماء والآي تتري, والخوارق جمه جبريل رواح بها غداء النور منها يخرج ليضئ الكون فتجلو بصيرتها بفضل إشعاعه القدسي حتي تري في كشفه النوراني قصور بصري في أرض الشام.. آمنة.. زهرة قريش وسيدة نساء قومها.. الرحم الطاهر الذي ضم المصطفي صلي الله عليه وسلم.. السكن والمقام لأشرف الخلق حتي يكتمل تخلقه في دمائها وتحت سقف قلبها.. الحبل السري لمن أرسله الرحمن رحمة للعالمين.. أم محمد صفوة الباري ورحمته الذي أعز البشرية بآيته العظمي قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا.. من اتصلت حياته بحياتها لتلده معتمدا علي يديه رافعا رأسه إلي السماء. دعوة إبراهيم وبشري عيسي الهادي الشفيع. آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة, وأمها برة بنت العزي بن عثمان بن عبدالدار بن قصي بن كلاب. من تتكرر رؤاها بين النوم واليقظة بأنها تحمل سيد هذه الأمة لتستعيذ بالواحد من شر كل حاسد.. سيدة الأمهات التي قالت عنها كاهنة قريش سوداء بنت زهرة الكلابية لقومها بني زهرة: إن فيكم نذيرة أو تلد نذيرا, فاعرضوا علي بناتكم, ففعلوا, فقالت لكل واحدة قولا تحقق بعد حين, حتي عرضت عليها آمنة فقالت: هذه النذيرة, أو تلد نذيرا.. آمنة التي لم تجد مشقة في حملها حتي وضعته.. المخاض يأتيها والنور يغمرها وفي محيط الإبهار لتلقي سيد المرسلين السراج المنير, وكانت هناك أطياف سارية ظنتها آمنة من نساء البيت الهاشمي لكنها كانت كوكبة العقد الفريد من مريم ابنة عمران وآسية امرأة فرعون وهاجر أم إسماعيل.. و.. في مكةالمكرمة وفي أشرف بيت من بيوتها طلع البدر علينا صبيحة يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من عام الفيل الموافق العشرين أو الثاني والعشرين من أبريل عام571م.. محمد أكرم الخلق وأفضل الرسل وخاتم الأنبياء وإمام المتقين الذي اصطفاه الله من بني هاشم, واصطفي بني هاشم من قريش, واصطفي قريشا من سائر العرب. قال صلي الله عليه وسلم: إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه, وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة, وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة, وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا, فأنا خيركم بيتا, وخيركم نفسا.. و.. ولد الهدي فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناء.. محمد.. الروح والملأ الملائك حوله للدين والدنيا به بشراء.. أحمد.. والعرش يزهو والحظيرة تزدهي والمنتهي والدرة العصماء.. محمد.. ما إن وضعته العروس الأرملة حتي حمله جده عبدالمطلب يدخل به الكعبة يدعو الله ويشكر عطيته: الحمد لله الذي أعطاني هذا الغلام الطيب الأردان, قد ساد في المهد علي الغلمان, أعيذه بالبيت ذي الأركان.. يسميه محمدا ليكون محمودا في الأرض وفي السماء, ولم يعرف أحد سمي بمحمد في الجاهلية سوي ثلاثة كان آباؤهم قد وفدوا علي أحد الملوك, وكان عنده علم من الكتاب فأخبرهم بمبعث النبي صلي الله عليه وسلم وباسمه, وكان كل منهم قد ترك زوجته حاملا, فنذر كل منهم إن جاء له ولد أن يسميه محمدا, وفعلوا وهم: محمد بن سفيان بن مجاشع جد الشاعر الفرزدق, ومحمد بن أحيحة بن الجلاح أخو عبدالمطلب لأمه, والثالث محمد بن حمران بن ربيعة, وجاء في الصحيحين أن رسول الله قال: إن لي خمسة أسماء, أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر, وأنا الحاشر الذي يحشر الناس علي قدمي, وأنا العاقب.. ومن أسمائه صلي الله عليه وسلم في القرآن: الشاهد والمبشر والنذير المبين والداعي إلي الله والسراج المنير.. آمنة.. أولي الأمهات.. أمه.. من تلقمه ثديها في دارها الصغيرة ذات الدرج الحجري الذي يوصل إلي باب يفتح من الشمال ويدخل منه إلي فناء يبلغ طوله نحو اثني عشر مترا في عرض ستة أمتار وفي جداره الأيمن باب يدخل منه إلي قبة, في وسطها بميل إلي الحائط الغربي مقصورة من الخشب كانت يوما مخدعا للعروسين: آمنة وعبدالله.. آمنة المخبأة من العيون حتي الرواة لم يعرفوا ملامحها, وقيل إن شذاها العطرة كانت تنبثق من دور بني زهرة لتنتشر في أرجاء مكة.. و.. عبدالله زينة قريش وأجمل شباب مكة وأكثرهم سحرا وذيوع صيت, ونعم الأب للنبي الكريم, ولكأنما كان عبدالله هبة من عالم الغيب أرسلت إلي هذه الدنيا لتعقب فيها نبيا وهي لا تراه, ثم تعود.. كان إنسانا من طينة الشهداء الذي اختير للفداء فقد نذر والده عبدالمطلب عندما منعته قريش من حفر زمزم ولم يكن معه إلا ولده الحارث إن رزقه الله عشر بنين ليذبحن أحدهم قربانا لله, وقد رزق هذا العدد, وعند الوفاء بالنذر جاءت القرعة علي عبدالله فجاشت له شفقة قومه حتي تركه لهم القدر إلي حين.. وهو الفتي الذي تحدثت الفتيات بوسامته وحيائه في الخدور, وودت العشرات منهن لو نعمن بقربه, لكنه كان زاهدا في الكل إلا آمنة التي ما إن خطبها حتي تحطمت القلوب, وأبدا لم يلق عبدالله بالا, ولم يعط أذنا إلي ما سمع من دواعي الإغراء من نساء قريش, اللاتي وقفن في طريقه بين الحرم ودار وهب يعرضن أنفسهن عليه عرضا صريحا, ومن بينهن: بنت نوفل بن أسد, وفاطمة بنت مر التي رد عليها بقوله أما الحرام فالممات دونه, والحل لا حل فأستبينه, فكيف بالأمر الذي تبغينه, يحمي الكريم عرضه ودينه, وقيل إن ليلي العدوية قد عرضت نفسها عليه يومئذ, فلم يستجب لها.. ولم يكن لعبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم وأمه فاطمة بنت عمرو بن عائذ المخزومية التي أنجبت لعبدالمطلب أبا طالب, والزبير, وعبدالله, وأم حليم البيضاء توءم عبدالله, وعاتكة, وبرة, وأميمة, وأروي أن يتقدم في البداية لخطبة آمنة زهرة قريش لما يعلمه من وقوع نذر والده عليه, لكنه ما إن افتدي من الذبح حتي اصطحب والده إليها يطلبها للزواج, ولم يكن ابن العم غريبا علي آمنة, فقد عرفته في طفولتها قبل أن ينضج صباها وتلاقت معه في زمن البراءة الأولي علي روابي مكة وبين ربوعها وفي ساحة الحرم وفي مجامع القبائل عندما كان عبدالمطلب سيد بني هاشم مع وهب سيد بني زهران يتزاوران علي ود, ويجتمعان للتشاور كلما اهتمت قريش بأمر, ثم حجبت آمنة حتي لاحت بواكير نضجها, في الوقت الذي كانت خطوات عبدالله تسرع به نحو أبواب الشباب. وتستغرق الأفراح ثلاثة أيام بلياليها, كان عبدالله فيها يقيم مع عروسه في دار أبيه علي سنة القوم لمدة ثلاثة أيام, انتقلا بعدها إلي بيتهما الصغير ليقيما معا مدة لم تتجاوز عند المؤرخين عشرة أيام إذ كان عليه اللحاق بقافلة التجارة إلي غزة والشام, فإذا هي الرحلة التي لا يؤوب منها الذاهبون وهو الفتي الذي مات وهو غريب, وولد له نسله الكريم وهو دفين.. ولا يواسي آمنة في وحدتها سوي جاريتها بركة أم أيمن وشعورها بأن كل يوم يمر بها يدنيها من اللقاء المنتظر, ومضت أيام من شهر الغياب الثاني قبل إياب القافلة وتناهي للسمع الضجيج, ويشاع خبر قدوم المسافرين, لكن بركة تعود متخاذلة, وعبدالمطلب يقول عن ابنه عبدالله خلفناه متوعكا عند أخواله بيثرب فبعثت إليه أخاه الحارث ليصحبه إلينا... وعاد الحارث وحده وكان عبدالله قد دفن قبل وصوله إليه هناك وكان عمره خمسا وعشرين سنة, وقيل ثماني عشرة سنة.. وترملت العروس الشابة ولم يزل في يدها خضاب العرس وفي رحمها سيد الخلق من نادي في الخلق: يا معشر المسلمين اتقوا الله, وصلوا أرحامكم فإنه ليس من ثواب أسرع من صلة الرحم. وقال الله عز وجل: أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من أسمائي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته... عاد الحارث بن عبدالمطلب وحده ينعي أخاه ووجمت آمنة للخبر وقست عيناها لم تسعفاها بالبكاء وأعفاها ذهولها من التصدع فلبثت أياما لا تصدق حتي إذا تيقنت قالت في رثائه كما جاء في الروض للسهيلي: عفا جانب البطحاء من زين هاشم وجاور لحدا خارجا في الغمائم دعته المنايا دعوة فأجابها وما تركت في الناس مثل ابن هاشم ويكتمل حمل آمنة ويري الجد في رؤياه ذكرها القيرواني في كتاب البستان كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره, لها طرف في السماء وطرف في الأرض, ثم عادت كأنها شجرة, علي كل ورقة فيها نور, وإذا أهل المشرق والمغرب يتعلقون بها, فقصها فعبرت له بمولود من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب ويحمده أهل السماء والأرض...وتأتي اللحظة الحاسمة وتضع آمنة وليدها كما تضع كل أنثي من البشر.. وتقول أم عثمان بن أبي العاص: فما من شيء أنظر إليه من البيت إلا نور, وإني لأنظر إلي النجوم تدنو مني حتي لأقول: لتقعن علي, وعن النبي قوله كما جاء في الطبقات الكبري لابن سعد: رأت أمي كأنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام. من الحزن جف لبن الرضيع في صدر آمنة حتي قيل إنها لم ترضعه سوي ثلاثة أيام فقط, لنظل لا نذكر من بعد أمومة صدرها سوي مرضعته حليمة السعدية مع أن علم التاريخ بأن أمهات الرسول اللاتي حملنه لصدورهن ليمتص رحيق الحياة قد بلغن خمسا كما جاء في كتب السيرة أولاهن أمه آمنة بنت وهب, وثانيتهن ثويبة الأسلمية مولاة أبي لهب, وثالثتهن أم أيمن, ورابعتهن خولة بنت المنذر, وخامستهن حليمة السعدية التي كانت أكثرهن إرضاعا للنبي, وفي بعض الأقوال الأخري: إن مرضعات النبي صلي الله عليه وسلم ثمانية هن: أمه آمنة ثلاثة أيام, وثويبة الأسلمية, وخولة بنت المنذر, وأم أيمن, وامرأة سعدية أخري, وثلاثة نسوة اسم كل واحدة منهن عاتكة... وعن ثويبة التي دفعت به إليها آمنة لتكون أول مرضعة له بعد أمه وذلك بلبن ابنها مسروح, وقد ظل الرسول يكرمها ويبعث لها بكسوة ويصلها من المدينة, فلما فتحت مكة سأل عنها وعن ابنها مسروح فأخبروه بموتهما, فسأل عن أقربائهما فلم يجد أحدا منهم حيا, وكانت خديجة أم المؤمنين تكرمها في حياتها وطلبت من أبي لهب أن تبتاعها منه لتعتقها فرفض أبو لهب وقتها, وتوفيت ثويبة في السنة السابعة للهجرة بعد فتح خيبر, ومات ابنها مسروح من قبلها.. وكانت حليمة أشهر أمهات الرسول في الرضاعة, وأخوته منها في الرضاعة هم: عبدالله بن الحارث, وأنيسة بنت الحارث, وحذافة بنت الحارث وهي الشيماء.. وأبناؤها من الرضاعة هم محمد صلي الله عليه وسلم, وحمزة بن عبدالمطلب عم النبي, وأبوسفيان بن الحارث بن عبدالمطلب ابن عم الرسول, وقد اختلف في إسلام حليمة, والصحيح أنها أسلمت الزرقاني علي المواهب وكان النبي يكرمها بعد البعثة, ويقول أبوالطفيل: رأيت النبي يقسم لحما بالجعرانة, إذ أقبلت امرأة, حتي دنت إلي النبي, فبسط لها رداءه, فجلست عليه, فقلت: من هي؟ قالوا: هذه أمه التي أرضعته, وروي أنه قال لها: اشفعي تشفعي, وسلي تعطي فقالت: قومي, فقال: أما حقي وحق بني هاشم فهو لك, ثم وصلها بعدها, وأخدمها, ووهب لها سهمين بحنين فبيع ذلك من عثمان بن عفان بمائة ألف درهم الإحياء وكلم الرسول صلي الله عليه وسلم زوجته خديجة فيها فأعطتها أربعين شاة وبعيرا, وكان الرسول يقول لأصحابه: أنا أعربكم أنا قرشي واسترضعت في بني سعد بن بكر... وقد زارته حليمة مرتين إحداهما بعد زواجه بخديجة والثانية يوم حنين, وقد توفيت بالمدينةالمنورة ودفنت بالبقيع, ومما جاء عنها في طبقات ابن سعد قولها: أذكر يوم انطلقت بولدي محمد من مكة لأول مرة, فمر بي اليهود فسألتهم: ألا تحدثوني عن ابني هذا؟ وسردت لهم ما لقيت من بركته, فما راعني إلا أن قال بعضهم لبعض اقتلوه, ثم سألوني: أيتيم هو؟... قلت وأنا أشير إلي زوجي الحارث بن هوزان لا فهذا أبوه وأنا أمه, فقالوا: لو كان يتيما لقتلناه!.. ومن علامات النبوة عن أنس بن مالك أن محمد وهو لم يزل طفلا يلهو بين الغلمان لدي حليمة أن أتاه جبريل في رحاب بادية بني سعد فأخذه فشق عن قلبه فاستخرج منه علقة ثم أعاده, فجاء الغلمان إلي حليمة قائلين إن محمد قد قتل, فاستقبلوه وهو ممتقع اللون.. وقال أنس وقد كنت أري المخيط في صدره, ويأتي القرآن بالبينة في قوله تعالي: ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك.... وكانت الشيماء شقيقة الرسول في الرضاعة تحمله وتداعبه وليدا إذا ما اشتد الحر وطال الطريق, وتأخذه بين ذراعيها, وأحيانا تجلسه في الظل تلاعبه قائلة: يا ربنا إبقي لنا محمدا حتي أراه يافعا وأمردا ثم أراه سيدا مسودا واكبت أعاديه والحسدا!! ولم يتوقف إكرام الرسول للشيماء بل شمل ذلك بني سعد جمعاء, فبعد غزوة حنين وانتصار المسلمين أكرم أخواله وأنعم عليهم بشفاعة أخته الشيماء ورد إليهم أنعامهم وأموالهم وكان من بينهم بجاد السعدي زوج الشيماء.. وهناك من كان الرسول يقول لها: أنت أمي من بعد أمي وهي بركة الحبشية بنت ثعلبة بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن العثمان واشتهرت في التاريخ باسم أم أيمن وكانت لها منزلتها العالية في قلب الرسول, وكان قد أعتقها والده عبدالله, وقيل بل النبي هو الذي أعتقها عندما تزوج خديجة, وكانت من المهاجرات الأول, وقد تزوجها عبيد بن الحارث الخزرجي فأنجبت له أيمن واستشهد زوجها يوم حنين, ثم تزوجها زيد بن حارثة بعد قول الرسول في أم أيمن: من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن فأنجبت له أسامة بن زيد الذي سمي بحب رسول الله, ووقع أسامة طفلا أسيرا ليباع في سوق عكاظ لحكيم بن حزام الذي وهبه بعد أن اشتراه لعمته خديجة ولم يكن الوحي قد هبط علي النبي بعد أن وهبته خديجة بدورها لزوجها فأعتقه من فوره ونادي في فناء الكعبة اشهدوا أن زيدا ابني يرثني وأرثه ونزلت الآية الكريمة لتقرر إلغاء عادة التبني.... ويكفل الرسول في الثامنة عمه أبوطالب لتقوم زوجة العم وأم علي ابن أبي طالب, الصحابية فاطمة بنت أسد بدور الأم الحنون, وعندما تموت يكفنها الرسول بقميصه ويصلي عليها.. وكانت العواتك من أمهات الرسول, وقد جاء ذلك في قوله يوم حنين: أنا ابن العواتك من سليم, والعواتك جمع عاتكة وهي المتضمخة بالطيب, وعواتك سليم ثلاثة, والمراد بهن جداته وهن: الأولي: عاتكة بنت هلال أم عبد مناف بن قصي, والثانية: عاتكة بنت مرة أم وهب بن عبد مناف, والثالثة: عاتكة بنت الأوقصي بن مرة أم وهب بن عبد مناف جد رسول الله لأمه آمنة بنت وهب, وجميعهن من بني سليم التي شهدت فتح مكة, وعندما كان الرسول بحنين أصاب من أموالهم وسباياهم فقالوا يا رسول الله إنا أهل وعشيرة وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفي عليك فأمنن علينا, وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال: يا رسول الله إن ما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك.. ثم أنشد: أمنن علينا رسول الله في كرم فإنك الذي نرجوه وندخر أمنن علي نسوة قد كنت ترضعها إذ فوك يملؤه من محضها الدرر فألبس العفو من قد كنت ترضعه من أمهاتك إن العفو مشتهر فجاء رد الرسول صلي الله عليه وسلم: أما ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لله ولكم. وعندما نرجع إلي الرسالات السماوية نجد الأمهات ماثلات مضيئات في حياة الأنبياء الأربعة إسماعيل وموسي وعيسي ومحمد قد عهد بهم إليهن وحدهن دون مشاركة الآباء, فلم تقم الأم هنا بدورها الطبيعي فقط بل عوضت إلي جانبه فقد الأب أو غيابه.. ويبدو الأمر طبيعيا بلا غرابة ولا مصادفة ولا اتفاقية, فالأمومة في عاطفتها السخية وإيثارها الباذل أقرب إلي أن ترعي أصحاب الرسالات الدينية المصطفين لهداية البشرية... ومن توجهات القرآن أنه وضع أمثلة لأمهات صالحات كان لهن أثر ومكان في تاريخ الإيمان, فأم موسي تستجيب إلي وحي الله وإلهامه وتلقي ولدها وفلذة كبدها في اليم مطمئنة إلي وعد ربها: وأوحينا إلي أم موسي أن أرضعيه, فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني.. إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين.. وأم مريم التي نذرت ما في بطنها محررا لله خالصا من كل شرك أو عبودية لغيره, داعية الله أن يتقبل منها نذرها: فتقبل مني, إنك أنت السميع العليم.. ومريم ابنة عمران أم المسيح, جعلها القرآن آية في الطهر والقنوت لله, والتصديق بكلماته: ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين.. وكان افتخار كثير من قبائل العرب وملوكهم وعظمائهم وشعرائهم بنسبتهم إلي أمهاتهم ومنهم قبيلة: هذيل, وكنانة, وأسد, والهون, وجبيلة, وحبابة الخ.. ومن أشهر ملوك العرب اعترافا بانتسابهم لأمهاتهم: عمرو بن هند, وجميع ملوك المناذرة المعتزين بانتسابهم إلي أمهم ماوية بنت عوف المشهورة بماء السماء. و.. تظل آمنة الأم في عيون النبي الابن ما عاش يذكر رحلته معها في صباه, وجاء في قول ابن سعد: لما نظر النبي إلي( أطم) حصن بني عدي بن النجار عرفه وقال: كنت وأنا طفل في السادسة ألاعب أنيسة( جارية من الأنصار) علي هذا الأطم, وكنت مع غلمان أخوالي نطير طائرا يقع عليه.. ونظر إلي الدار فقال: ها هنا نزلت بي أمي, وفي هذه الدار قبر أبي عبدالله بن عبدالمطلب, وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار.. وفي عمرة الحديبية مر الرسول بالأبواء في طريقه فزار قبر أمه قائلا: إن الله قد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه و.. أصلح القبر وبكي عنده فبكي المسلمون لبكائه قائلا: أدركتني رحمتها فبكيت.. بكي عليها رجلا, وبكي طفلا بعدما عانقته وانهمرت دموعها لاستشعارها دنو أجلها, لتتراخي ذراعاها عنه, ويخفت صوتها لحشرجة الاحتضار ويذوب في سكون الفلاة في طريق العودة إلي مكة.. ويمزق الصمت الرهيب صوت الطفل المروع, ويلتفت إلي أم أيمن يسألها عن سر هذه الحياة التي انطفأت, والجسد الذي همد, والصوت الذي فني, فتضمه إلي صدرها ولا تملك سوي قولها: إنه الموت يا بني.. ويلتفت اليتيم حواليه حائرا فإذا الكون موحش فارغ فوالده هناك تحت الثري وأمه سرعان ما لحقت به, وتلوذ عيناه الضارعتان للسماء يجر قدميه الثقيلتين في الرمال من خلف أم أيمن التي تحمل الجسد الطاهر إلي قرية الأبواء من جديد لتوسد آمنة لضجعتها الأخيرة, حتي إذا أوشك الثري هناك تغييبها اندفع وحيدها بغية أن يستبقيها أو يبقي معها فيعلو نحيب القوم إشفاقا, وينعقد الاتفاق صامتا علي ترك محمد لأمه ساعة.. و..بعدها يسوون الرمال... صفوة الباري ورحمته محمد نبي الرحمة من أوصي ببر الخالة مثل الأم, وأمر برد الفراخ إلي عشها عندما رأي أمها تحوم من حولها, وروي من قوله صلي الله عليه وسلم عن ابن ماجة عن علي: إن السقط ليراغم ربه إذا دخل أبواه النار, فيقال: أيها السقط المراغم ربه, أدخل أبويك الجنة, فيجرهما بسرره حتي يدخلهما الجنة.. وعندما ولد للنبي محمد ابنه إبراهيم من مارية القبطية كانت مرضعته أم بردة بنت المنذر الأنصاري زوجة البراء بن أوس التي كانت تعود به إلي أمه بعد إرضاعه, وتوفي إبراهيم وعمره سبعون يوما, وقيل ستة عشر شهرا وثمانية أيام, فحمل علي سرير صغير من بيت مرضعته إلي البقيع ليصلي عليه النبي بعد أن علم قبره بعلامة وقام برشه قائلا: إن له مرضعا في الجنة.. مات الطفل الصغير ومات الأمل الكبير, وبكي نبي الله مستقبلا الجبل بوجهه قائلا له: يا جبل.. لو كان بك مثل ما بي لهدك ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون... المصطفي.. لكل من أمهاته بالرضاعة والرعاية والأصول والجذور تبجيل وإجلال وحب, فقد شب الحبيب نبيا خاتما للمرسلين يخبرنا أن أحب الناس إليه هم الذين يحبون ويألفون ويؤلفون... عليه صلاة الله وسلامه. المزيد من مقالات سناء البيسى