لم ينقطع الحديث عن المصالحة الوطنية فى مصر منذ سنوات.. وليس خلال الشهور الأخيرة فقط.. فمصر تعيش فى أزمات متلاحقة.. بل فى ثورات متصاعدة ومتفاعلة.. تجعل من المصالحة أمراً شبه مستبعد حتى يهدأ بركان الغضب داخل النفوس.. قبل أن يهدأ على أرض الواقع.. وفى الشوارع ! فنحن بحاجة إلى مصالحة مع النفس أولاً.. ومصالحة مع المجتمع ثانياً.. ومع الوطن ثالثاً.. بل مصالحة مع الكون الذى يمثل الوعاء الأكبر والأضخم بما يحتويه من كائنات. ويجب أن ندرك أن تصاعد مبادرات المصالحة أو الحديث عنها – سلباً وإيجاباً – يعكس مدى الحاجة إلى استقرار الوطن.. كما يعكس تباينات القوى السياسية وتنوع ثقلها وموازينها، كما أن المصالحة تدخل فى إطار لعبة المفاوضات التى يجيدها البعض ويجهلها الكثيرون.. وتتفوق فيها قوى إقليمية بارزة.. ومنها إيران وإسرائيل.. على سبيل المثال! ولعل السؤال الذى يفرض نفسه أولاً ما هى احتمالات المصالحة.. وهل يمكن الوصول إلى صيغة مشتركة لها.. وهل حان الوقت لقبولها وتنفيذها فعلاً.. أم أنها مجرد «دخان فى الهواء» كما كان اسم مقال أستاذى جلال الدين الحمامصى رحمه الله؟! بداية يجب أن ندرك أن تزايد الحديث عن المصالحة وطرح مبادرات عديدة.. وإطلاق تصريحات متباينة يشير إلى أن هناك بوادر وربما اتصالات تجرى من وراء الكواليس.. حتى إنه لم يعد من الممكن إخفاؤها أو التغطية عليها. صحيح أنها لم تصل إلى درجة الاتصالات الرسمية أو المباشرة.. كما أنها لم تصل إلى درجة مشروع مبادرة متكاملة يمكن البدء منها والبناء عليها.. ولكن النوايا قائمة.. والاتصالات كذلك.. حتى ولو من خلال أطراف أخرى.. داخلية أو خارجية! كما أن قراءة المبادرات المطروحة والتصريحات والتعليقات عليها تكشف أن هناك ثلاثة اتجاهات فى هذا الإطار: * الرفض لمبدأ المصالحة بصورة مطلقة.. حتى إن أصحاب هذا الاتجاه يعتبرون مجرد طرح فكرة المصالحة خيانة وتهديدًا لأمن الوطن ومستقبله.. وهذا التيار يضع شروطًا مستحيلة التطبيق.. ربما من باب المناورة والحصول على أقصى قدر من التنازلات من الطرف «الآخر»!! وهذه هى المشكلة أن هؤلاء يعتبرون أن منافسهم هو «الآخر» وليس جزءاً من نسيج الوطن بل إن بعض غلاة هذا التيار يعتبرون منافسهم عدواً يجب القضاء عليه.. بل والتخلص منه!! * تأييد المصالحة.. وهذا للعلم يمثل الأغلبية الصامتة أو ذات الصوت الخفيض غير المسموع.. وربما ينتمي بعض هؤلاء إلى الطرف «الآخر» ولكن أغلبهم من البسطاء والعقلاء والحكماء الذين يسعون للم الشمل ويتعاملون مع الأزمة الحالية بروح الأسرة الواحدة.. وبمنطق الأخوة والود والمحبة الصادقة. وهؤلاء أيضاً لا ينظرون إلى رافضى المصالحة على أنهم «طرف آخر» أو أعداء لهم.. بل هم أقرباء وأصدقاء وأشقاء وأخوة أحباء. * المتحفظون على السير فى طريق المصالحة.. وهؤلاء لا يرفضونها ولكنهم يضعون شروطاً وضمانات لقبول المبدأ.. ثم الاستمرار فيه.. حتى تنجح المبادرة وتخرج مصر من هذه الأزمة الكبرى وربما يكون هؤلاء هم الوسيط أو نقطة الالتقاء بين الرافضين والمؤيدين للمصالحة. أى أنهم يشكلون جسرًا للتواصل والعبور إلى المستقبل.. بمشيئة الله. ويجب أن يحظى هؤلاء بفرصة أكبر فى الإعلام ولدى صانعى القرار خاصة أن المعارضين أصحاب صوت عالٍ وسطوة ونفوذ واضح. *** وقبل هذا أو ذاك يجب أن نحدد أسس المصالحة المنشودة والمطلوبة.. على النحو التالى: أولاً: رفض العنف والإرهاب والتطرف بكل أشكاله ومن كل الأطراف والتيارات.. دون تمييز أو استثناء. وقد تكون الكلمة المسمومة أو الرأى الشاذ أشد خطراً على الوطن.. من الرصاص والقنابل والمدافع. فالأولى تصيب القلوب وتدمر العقول.. والثانية تصيب الأبدان وتهدم البنيان.. وما أسهل أن تبنى بنياناً.. وما أصعب أن تربى إنساناً!! ثانياً: الانخراط فى الأطر الدستورية والقانونية المشروعة وأيضاً ممارسة العمل السياسي الحزبى من خلال القنوات القائمة. نعم قد نختلف أو نتفق ولكن فى إطار رسمى ومشروع.. ومن منطلق الحرص على أرض الكنانة. ثالثاً: مصلحة مصر أولاً.. هذا هو الأساس المهم الذى كان يجب أن نبدأ به.. ولكننا جعلناه ثالثاً فى الترتيب حتى تكون الأمور واضحة ولا يزايد أو يناور أحد. ونحن على ثقة بأن جميع المصريين متساوون فى الحقوق والواجبات كما أنهم مستعدون لبذل الغالى والنفيس من أجل إنقاذ سفينة الوطن. ولعلنا نتذكر مشهد مباراة كرة القدم الأخيرة مع غانا. فرغم خروجنا من التصفيات.. إلا أننا جميعاً كنا نتمنى فوز مصر وتأهلها.. المعارضين قبل المؤيدين! رابعاً: توحيد الصفوف.. مطلب أساسى وحيوى وعاجل.. فلا يمكن أن يستمر مشهد التمزق الحالى بين أبناء الوطن الواحد ولا شىء أقسى من أن نرى أسرة واحدة مشتتة بين يسارى وإخوانى وسلفى وبين سياسى سابق ولاحق وحالم بالوصول إلى الكرسى!! إن العلاقة بين أبناء الأسرة الواحدة والوطن الواحد.. أغلى من أى منصب أو مغنم أو جاه.. فكل هذا زائل.. ولا تبقى سوى الكلمة الطيبة.. والعمل.. إن كان صالحاً!! أيضاً فإن للمصالحة أهدافاً وضرورات أساسية.. أهمها السعى للخروج من الأزمات المتلاحقة التى يعيشها الوطن ويدفع ثمنها البؤساء والفقراء.. وليس الكبار وعلية القوم! ولا يمكن أن نخرج من هذا النفق المظلم دون أن نتعاون جميعاً ونصبح يداً واحدة وعلى قلب رجل واحد. كما إننا يجب أن نجلس – بعد تحقيق المصالحة بمشيئة الله – كأسرة واحدة.. نبحث وضع استراتيجية متكاملة لبناء مستقبل بلادنا المهددة فعلاً فى أخطر ما لديها: النيل الذى تقتنصه إثيوبيا بخبث ودهاء بالتعاون مع قوى إقليمية ودولية عديدة.. وكذلك سيناء التى ينهش جسدها الإرهاب الأسود.. المرفوض والممقوت بكل المقاييس..إضافة إلى الحدود الطويلة المهددة من كل جانب.. هذه هى قضايانا الأساسية التى يحاربنا أعداؤنا من أجلها.. ونحن منشغلون بمناصب وكراسٍ زائلة وأحلام كاذبة وأوهام خادعة!! نعم نحن ندرك أن المصالحة «طبخة» شديدة التعقيد تحتاج إلى ظروف وتطورات وطبّاخ بارع لإنضاجها.. كما تتطلب تدخل الحكماء والعقلاء للدفع نحوها.. ولكن هذا المطلب الحيوى يجب ألا يشغلنا عن رأب الصدوع والشروخ التى تهدد سفينة أرض الكنانة.