المبادرة التى أطلقتها التيارات الإسلامية - ومعها بعض القوى السياسية المدنية والتى تجسدت فى مظاهرات جامعة القاهرة تحت شعار «معاً ضد العنف» تستحق أن تلتف حولها كل الأحزاب والقوى السياسية.. فنحن أحوج ما نكون لنبذ العنف ورفض التخريب والتوحد فى هذا الوقت العصيب.. بل الخطير. فلا يمكن قبول الاعتداء على المنشآت العامة وقطع الطرق وتعطيل مصالح البلاد والعباد بواسطة فئة باغية لا تمثل سوى شريحة محدودة من المصريين ولكن الإعلام يُضخمها ويصورها كأنها الأغلبية للأسف الشديد. و قد شهدت ذلك بنفسى الجمعة قبل الماضية قرب ميدان روكسى نحو 200 شخص يتظاهرون ويطلقون شعارات حادة ويتحدثون علناً عن الاعتداء على قصر الاتحادية.. بل إنهم مارسوا ذلك فعلاً بقذف القصر بالطوب والمولوتوف وإشعال الحرائق، فالمطلوب هو إسقاط هيبة الرئاسة وإسقاط الرئيس.. وليس التعبير عن مطالب سلمية لجموع الشعب، ليس هذا فقط.. بل إن هذه المظاهرة «المئوية» كانت معها سيارتان للتصوير التليفزيونى لمتابعة المسيرة وتصويرها على الهواء، وتضخيمها من زوايا معينة حتى تبدو على الشاشة أنها مظاهرة «ألفية»! إذاً فالمؤامرة معدة سلفاً.. بدءاً من استجلاب الناس ومروراً بالإعلام والتصوير التليفزيونى على الهواء مباشرة، وهناك تنسيق وثيق مع القنوات الفضائية للوصول إلى الهدف المشترك: إسقاط النظام.. بل وإسقاط مصر كلها.. وهذا لن يحدث بمشيئة الله. وقد وصلنا فعلاً إلى مفترق طرق.. إما أن نسعى نحو المصالحة والوئام والوفاق بسرعة فائقة.. وإما أن ننزلق نحو مواجهة دامية مرفوضة بكل المقاييس.. ومن أغلب المصريين الحريصين على مصلحة الوطن وفى مقدمتهم المواطن البسيط الذى انقطع عمله وضاع قوت يومه ويبحث عن لقمة تسد رمقه وأمن توارى أو يكاد. وأولى خطوات المصالحة هى الاعتراف بالأخطاء.. نعم لقد أخطأنا جميعاً.. حكومة ومعارضة وشعباً، حتى هؤلاء الذين مارسوا السلبية وآثروا الابتعاد والانزواء عن الساحة.. إيثاراً للسلامة وخوفاً من المواجهة والانزلاق إلى دوامة العنف. وأول هذه الأخطاء الإصرار على استمرار حكومة هشام قنديل.. رغم الفشل الواضح الذى يؤكد أنها لا تستطيع معالجة الأزمات المتفاقمة وأن حجم المشاكل أكبر من قدراتها.. وتسارع الأحداث يفوق القدرة على ملاحقتها.. نعم كان يمكن لتغيير الحكومة أن يكون المدخل الأول للخروج من الأزمة.. شريطة اختيار شخصية قوية ذات كفاءة رفيعة وخبرات متراكمة. ورغم كل هذه الأزمات فإننى على ثقة بأن مصر حافلة بالكفاءات الممتازة والشابة أيضاً، وقد تأكدت من ذلك خلال جولاتى بالمحافظات فى الفترة الماضية. وبعد الاعتراف بالأخطاء.. فإن تقديم التنازلات (من النظام والحكومة والمعارضة وكافة القوى الوطنية) هو المدخل الثانى لتحقيق المصالحة المطلوبة، فالإصرار على ذات المواقف والتمسك بنفس المواقع لن يحل الأزمة.. بل سيضاعفها.. ونحن فى أحوج ما نكون كل ثانية للخروج من هذا النفق المظلم وتعويض ما فات.. وهو كثير جداً، وأخشى ألا نعوضه مع ضياع هذا الوقت الثمين. لا يمكن أن يظل كل طرف على النقيض من الطرف الآخر لا يقترب منه.. لا يصافحه ولا يصالحه لمجرد مصالح ذاتية محدودة.. أو لرؤية سياسية خاطئة، يجب أن يقترب بعضنا من بعض وأن يعذر بعضنا بعضاً.. وأن نتسامح ونسمو فوق الأهداف الحزبية والسياسية والأيديولوجية الضيقة. أما هؤلاء الذين يحركهم الخارج فلا مكان لهم وسطنا.. يجب أن يتواروا ذاتياً ويتراجعوا عن الساحة.. قبل أن يلفظهم الشعب ويسقطوا فى مجاهل التاريخ الذى لن يرحمهم ويسجلهم فى أسود صفحاته ويلعنهم بأقسى صفعانة! نحن نريد من الجميع تنازلات حقيقية من أجل مصلحة الوطن بل المصالح الشخصية لكل القيادات السياسية، فإذا وقعت الواقعة فلن تنفعهم أحزاب ولا مظاهرات ولا معارضات.. سيسقُط الجميع وستسقُط مصر.. لا قدر الله. والمطلوب من كل الأطراف إعلاء المصالح العليا لمصر.. ووضعها فوق كل اعتبار، فسفينة الوطن مهددة بالغرق تحيطها الأمواج الخطيرة من كل جانب.. ونخشى أن تتقاذفها أيادى اللئام.. مثلما نشاهد بلاداً أخرى تعرضت للتمزق والحرب الأهلية والمواجهات الدامية. مصلحة مصر العليا تقتضى منا جميعاً أن ننسى ذواتنا ونتجاوز عن رؤانا وأهدافنا الضيقة وقصيرة المدى.. مصلحة مصر تقتضى أن نحتضن الشباب الغاضب والثائر - وحتى المختلف معنا - وأن نحاول إعادته إلى حضن الوطن وحصن الوطنية. وهذه مسئولية كل أب وكل أم.. أن نجمع أبناءنا بين جناحينا وأن نداوى الجراح.. لا أن نتركهم هائمين على وجوههم فى الشوارع ينساق بعضهم وراء المضلَلين والمضللِين.. ويجرى آخرون وراء بضعة جنيهات وسط أزمة طاحنة ومتفاقمة. وقد أحسن فضيلة الإمام الأكبر د. أحمد الطيب شيخ الأزهر عندما تحدث مع مستشارى رئيس الجمهورية مؤكداً ضرورة إجراء مصالحة وطنية بين كافة التيارات لتغليب المصلحة العليا للوطن على المصالح الحزبية والفئوية الضيقة.. مشيراً إلى أن ظروف الوطن لا تحتمل تأجيل هذه المصالحة. المحور الرابع لتحقيق المصالحة هو بدء حوار جاد يشمل كل الأطراف دون استثناء وأن يكون هذا الحوار علنياً وشفافاً يتابعه الشعب عبر شاشات التليفزيون.. بدلاً من هذا التنظيم الفضائى التخريبى الذى تموله الفلول ويبث سمومه فى كل ربوع الوطن، خاصة فى عقول البسطاء الذين لا يستطيعون تمييز الغث من الثمين، هذا الحوار يجب أن يتم وفق جدول زمنى واضح وبرنامج محدد وينتهى إلى صيغة ورؤية متكاملتين لحل الأزمة الراهنة ووضع الأسس لبناء مصر المستقبل. والحقيقة أننا يجب أن نثمّن المبادرات المخلصة لتوفير المناخ والضمانات اللازمة لإنجاح الحوار.. وفى مقدمة هذه المبادرات (مبادرة الأزهر لنبذ العنف) ومبادرة حزب النور للخروج من الأزمة الحالية ويجب أن يقابل الجميع هاتين المبادرتين بتجاوب واضح ورؤية مخلصة ونوايا طيبة.. بل برنامج متكامل يلتزم الجميع بتنفيذه. ولعل أولى ضمانات الحوار المنشود هى الإذاعة العلنية حتى يكون الشعب شاهداً على كل كلمة يقولها شركاء الحوار.. بما فى ذلك مؤسسة الرئاسة والحكومة قبل المعارضة. ??? وإذا كنا قد تحدثنا عن ضرورة المصالحة من خلال الحوار الوطنى الجاد.. فإننا نؤكد على حتمية استبعاد المواجهة الدموية والعنف الذى قد يؤدى إلى حرب أهلية طاحنة.. لا قدر الله.. لقد أدمت قلوبنا الاعتداءات على المنشآت العامة والفنادق والكبارى وخطوط المترو والسكك الحديدية، هذا التخريب يدفع ثمنه الشعب.. ويستفيد منه اللصوص وأعداء الوطن.. فى وقت نحتاج فيه إلى كل قرش.. وسنت خاصة بعد بلوغ الاحتياطى النقدى الأجنبى مستوى الخطر الفعلى. إن المواجهة التى تؤدى إلى تعطيل المصالح العامة وتدهور الاقتصاد يجب تجريمها بقانون رادع وسريع.. وإذا كانت الشرطة - أو حتى بعضاً منها - لا تقوم بدورها.. فيجب أن نبحث عن بدائل سريعة ومنها عودة اللجان الشعبية لضمان الأمن وإبعاد الدخلاء عن الأحياء وإذا كانت أجهزة الدولة لا تستطيع تحمل مسئولياتها.. فليتحملها الشعب مباشرة من خلال هذه اللجان الشعبية، ويمكن الاستعانة بحملات الأحزاب والجمعيات الأهلية والنقابات لتحقيق هذا الهدف. ومن المؤكد أن استمرار المواجهة سوف يؤدى فى نهاية المطاف إلى تدمير الاقتصاد المنهك أصلاً، نعم إن هناك متآمرين وعملاء وطابوراً خامساً يقوم بهذه المهمة.. ولكن الشرفاء من أبناء الوطن يجب ألا يسمحوا لكل هؤلاء بالحركة وتنفيذ مؤامراتهم، ونحن على ثقة بأن الغالبة الساحقة من الشعب وطنيون مخلصون حريصون على أرض الكنانة.. كحرصهم على أبنائهم. ولا يدرك هؤلاء المخربون أنهم يدمرون سمعة مصر ومكانتها.. مما ينعكس سلباً على مواردها وقدراتها الاقتصادية والتجارية والمالية وبغض النظر عن «لعبة خفض ورفع التصنيف المالى أو الائتمانى».. فإننا نواجه مأزقاً حرجاً وخطيراً يستنزف قدرات مصر.. وقد يهوى بها إلى منحدر لا يعلمه إلا الله. نحن نناشد الجميع - الرئاسة والحكومة قبل المعارضة والمجتمع المدنى- أن يدركوا خطورة الموقف الذى تعيشه البلاد.. وأن يقدروا حاجات العباد.. البسطاء البؤساء الذين حرقتهم نيران الأسعار على مدى شهور طويلة، ويجب أن نبدأ فوراً - الآن وليس غداً - العمل والإنتاج لإنقاذ مصر من هذه الهوة السحيقة.