ليست المرة الأولى وربما لا تكون الأخيرة التى أتحدث فيها عن الإعلام الذى يجسّد أزمة مصر فى أقسى صورها.. بل إنه أحد صناعها الأشداء.. بكل أسف. فكثير من الوسائل المسموعة والمطبوعة والمرئية والإلكترونية لا تنقل الحقيقة.. بل تزوَّرها وتقلبها وتنقضها وتتناقض مع نفسها.. ويكاد بعض الإعلاميين – كما بعض الساسة – يتنفسون كذبًا وزورًا وبهتانًا. ويجب أن تدرك كل وسائل الإعلام والإعلاميين أنهم يمارسون هذا التضليل والتزوير بأموال الشعب.. حتى لو كان إعلامًا خاصًا أو حزبًا مستقلًا.. لأنهم جميعًا يستقون أموالهم ويحصلون عليها من مشاريع يمولها البؤساء والمطحونون الذين يضللهم الإعلام فى نهاية المطاف.. بفلوسهم وقوتهم وعرقهم.. بل ودمائهم. ولو حاولنا أن نرصد مشاكل الإعلام المصرى بشكل عام.. فيمكن أن نحددها على النحو التالى: * عدم الحيادية.. هذه حقيقة.. فأغلب وسائل الإعلام إن لم يكن كلها.. تشهد حالة من انعدام الحيادية والموضوعية.. فكل وسيلة لها هدف ولون وهوى.. يعكس انتماءاتها وتوجهاتها.. من اليسار إلى اليمين. * التمويل.. ونظرًا لأن الإعلام صناعة استراتيجية.. تفوق فى قوتها وتأثيرها المعنوى الصناعات الثقيلة فإن التمويل يفرض نفسه على أية وسيلة.. يوجهها ويلعب بها.. كما يتلاعب بمصائر الأمم والشعوب. * صناعة الفتنة والكراهية.. هذه هى أحد أمراض الإعلام المزمنة والتى تصاعدت فى الفترة الأخيرة لدرجة خطيرة.. وأصبحنا كل يوم بل كل ساعة نشاهد كذبة جديدة.. تمثل نواة لفتنة كبرى.. وتتجمع هذه الفتن لتصنع جبالاً من الكراهية والأحقاد داخل النفوس. * تمزيق المجتمع..وليس تقسيمه فقط.. فقد تجاوزنا مرحلة التقسيم إلى ما هو أشد عمقًا وخطرًا.. تفتيت مجتمع كان يتباهى بتماسكه وصلابة بنيانه ووحدة نسيجه.. فأصبحنا (احنا شعب.. وهما شعب.. لينا رب..وليهم رب) أستغفر الله العظيم من الشرك بالله العظيم.. هذا نتاج ما صنعه الإعلام وما اقترفته أيادى الإعلاميين بكل ألوانهم وانتماءاتهم.. للأسف الشديد. * قطع العلاقات إقليميًا ودوليًا. هذه مصيبة أخرى ساهم الإعلام فى تحقيقها للأسف الشديد.. فلم تعد سكاكين الإعلام تمزق وتقطع المجتمع.. بل تجاوزته إلى حدود عربية وإقليمية ودولية.. دون مراعاة للمصالح القومية والاستراتيجية لأرض الكنانة.. ويدفع الثمن فى نهاية المطاف هؤلاء البؤساء.. الذين لا يجدون فرصة عمل أو قوت يوم.. أو حتى كسرة خبز! * تحطيم الهوية والشخصية المصرية.. هى نتاج هذه الحرب الإعلامية الشاملة بواسطة تلك الآلة الجهنمية الجبارة التى تجاوزت فى دمارها حدود الأسلحة التقليدية وربما الأسلحة النووية. ولا يدرى هؤلاء أن تحطيم المبانى أهون كثيراً من تدمير العقول والهوية الفريدة للشخصية المصرية.. نعم إن المبانى سوف تعود.. فى أبهى صورة ممكنة.. لكن العقول والقلوب وهوية الأمة.. إذا ضاعت فقد لا تعود أبدًا. * البحث عن المصالح الخاصة وشبق المال.. أصبح هم كثير من الإعلاميين. ولا يدرى هؤلاء أنهم وأننا جميعًا سوف نترك الدنيا ولن نحصل على مليم واحد.. لن ينزل معنا فى القبر سوى الكلمة الطيبة والعمل الصالح.. فهل أنتم مُعتبرون.. فهل أنتم مُنتهون؟! * * * يبقى السؤال الأهم والملح: كيف يشفى الإعلام من هذه الأمراض؟ وكيف يستعيد مصداقيته وموضوعيته المفقودة؟ يجب أن ندرك أن هذه المصداقية المفقودة هى جزء من الثقة المفقودة فى الحكومات والأنظمة المتعاقبة على مدار العقود.. نعم نحن نعيش أزمة ثقة عميقة ومتشعبة.. نتيجة ممارسات التمزيق والإقصاء والتهميش التى يشهدها المجتمع المصرى.. وحتى يعود للإعلام وعيه.. ويضع أقدامه على بداية الطريق الصحيح للمصداقية والموضوعية يجب أن نسارع باتخاذ الخطوات التالية: * بناء جسور الثقة والمحبة والتآلف.. بدلاً من الكراهية والشحناء والبغضاء.. يجب أن يؤمن الإعلام بأن تلك هى رسالته الأولى.. قبل أى شىء.. فلا يهم السبق والانفراد وتحصيل ملايين الإعلانات أو الحصول على أعلى مراتب الشهرة والنجومية. إن كل هذه الأهداف تتوارى أمام رسالة الإعلام السامية التى يجب أن يقوم بها لتوحيد المجتمع.. ورغم ذلك فإن أداء هذه المهمة سوف تحقق كل ما يحلم به الإعلاميون من شهرة ونجومية ومال.. ولكنهم سوف يدخلون التاريخ من باب الرسالة السامية لصاحبه الجلالة. * إعداد استراتيجية تشريعية متكاملة للحريات والمعلومات.. وهذه المهمة تنتظر البرلمان القادم.. لكن المؤسسات والأجهزة الإعلامية الحالية تستطيع الإسهام بجهد جيد فى التشريع من خلال القنوات المتاحة حاليًا.. لحين انتخاب مجلس شعب جديد.. جدير بوضع هذه الاستراتيجية التشريعية المنشودة والمطلوبة بإلحاح. * تشكيل المجالس الإعلامية والصحفية بصورة شاملة ومتكاملة ومتوازنة تعبر عن كل الأطياف وعن المؤسسات التى تتولى قيادتها وتعالج مشاكلها وتقرر مستقبلها.. فهذه المؤسسات يجب أن يكون لها دور وممثلون داخل تلك المجالس.. كما كان الحال فى المجالس السابقة.. حتى يعبروا عن واقعها وهمومها ومشاكلها ويقدموا تصورات لحلها. * عقد مؤتمر قومى عاجل وشامل للإعلام.. بكل فروعه وأشكاله.. يتناول أزماته وقضاياه.. وتمثل فيه كل الأطياف والتيارات.. دون إقصاء أو استثناء. * عقد مؤتمر للمؤسسات الصحفية القومية.. فهذه المؤسسات تمثل محور أزمة الإعلام المصرى.. من خلال عشرات الآلاف من العاملين والصحفيين والإداريين الذين يعملون بها.. ومن خلال مليارات الديون التى تكبلها وتعوق حركتها.. بل تزيدها تخلفًا وانهيارًا. هذا المؤتمر يجب أن يحظى بتمثيل واسع وأن يتناول القضايا الخطيرة التى أصابت صاحبة الجلالة «القومية».. أما المعايير التى ستوضع لاختيار رؤساء هذه المؤسسات فيجب أن تتم على أسس موضوعية دقيقة.. دون ضغوط أو أهواء.. وليخلع الجميع انتماءاتهم ومصالحهم خارج هذه اللجان والمجالس.. مراعاة لله.. وللضمير ومصلحة الوطن. ويجب أيضًا تطبيق القانون على كل الإعلاميين بما فى ذلك الصحفيون.. دون استثناء.. فربما كان عامل التراحيل أو بائعة الجرجير أكرم عند الله من كل المشاهير.. يجب أن يخضع الجميع أمام القانون.. وأن نكون سواسية.. دون استثناء.. وليعلم أولئك وهؤلاء أن المناصب والكراسى زائلة.. والدنيا كلها إلا وجه الله الكريم المتعال.