قبل ثورة 25 يناير بأشهر قليلة بادرنى صديقى المراسل الأجنبى: ماذا عن دور الجيش خلال المرحلة المقبلة؟ فقلت له بمنتهى الصراحة والوضوح.. الجيش لاعب أساسى على الساحة المصرية.. كان ومازال وسيظل كذلك. وهذه الإجابة لم تكن مبالغة ولا تهويلاً.. ولكنها اعتراف بحقائق واقعية وتاريخية.. لعل أبرزها أن الجيش المصرى ذاته هو الذى قاد ثورة يوليو 1952.. ومن خلاله برز أربعة رؤساء.. اختلفنا أو اتفقنا معهم.. ولكنهم خرجوا جميعا من عباءة الجيش. إضافة إلى ذلك فإن التاريخ الوطنى المشرف للجيش مشهود ومعروف.. بغض النظر عن أخطاء القيادة السياسية فى بعض العهود والمراحل. هذا الجيش المحترم والمحترف هو الذى حمى ثورة يناير وانحاز إلى الشعب ومازال وسيظل كذلك.. وهو الذى صنع أعظم انتصاراتنا فى العصر الحديث، نصر أكتوبر الذى تعتز مجلتنا (أكتوبر) بتخليده وتحاول تجسيده فعلاً من خلال دورها القومى ومسئوليتها الوطنية الجادة. الجيش المصرى سارع لنجدة الأشقاء فى العالم العربى.. على مدى العصور.. ولعل استمرار المناورات العسكرية مع الأشقاء العرب وآخرهم الشقيقة السعودية يؤكد احتفاظه بذات النهج القومى الثابت والتزامه بقضايا أمته. هذا التاريخ المشرف هو الذى دفع الجيش والفريق أول عبدالفتاح السيسى وزير الدفاع إلى إطلاق ندائه الأخير إلى جميع القوى السياسية انطلاقا من المسئولية التاريخية والوطنية والأخلاقية لقواتنا المسلحة.. وحتى لا تنزلق البلاد فى نفق مظلم يصعب الخروج منه. وعندما يطلق الفريق السيسى هذا النداء فهو يقوم أولاً على معلومات وليس اجتهادات سياسية أو تحليلات إعلامية. وفى ذات الوقت فإن بيان الجيش أكد على حماية مؤسسات الدولة الشرعية.. بما فى ذلك الرئاسة والرئيس المنتخب.. وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة ولقوات الشرطة وأيضا لمجلس القضاء الأعلى.. إلخ.. المؤسسات التى يتولاها الرئيس طبقا للدستور. وعندما نتعمق فى فكر الجيش ورؤيته الاستراتيجية نكتشف أنه يقوم على الانضباط والالتزام التام بالتعليمات وبتسلسل القيادة. ولا يمكن لجيش محترف ومحترم - هذا تاريخه ووضعه - أن يخالف الهيكل القيادى.. من القائد الأعلى وحتى أدنى الرتب والمستويات. أيضا فإن المسئولية الوطنية تحتم على الجيش الحفاظ على دماء المصريين.. وكلنا يتفق أن نقطة دم مواطن مصرى أغلى من الدنيا وما فيها.. لا فرق فى ذلك بين شيعى وسنى أو مسلم وقبطى.. أو ليبرالى ويمينى.. فكلنا شركاء الوطن.. فى السراء والضراء.. لذا فإننا نرفض بشدة الدعوات إلى الكراهية والتحريض على العنف والاقتتال أيا كان مصدرها ومهما علا قائلها.. بل إننا نطالب بمحاسبة ومعاقبة من يثبت انزلاقه نحو هذه الخطيئة الكبرى.. دون استثناء. ولعل مشاهد الأيام الأخيرة - قبل الثلاثين من يونيو - تثير الخوف والفزع لدى الكثيرين.. خاصة مشاهد قتل الشيعة والاعتداء وحصار المساجد.. والقتل الفردى على الهوية والانتماء السياسى. إن هذه المقدمات الخطيرة يمكن أن تقودنا إلى مزالق.. بل إلى مهالك لا تحمد عقباها.. ما لم نتحرك بسرعة وحسم وقوة لدرء هذه الفتنة الكبرى.. ووأدها فى مهدها. لذا جاءت رسالة الجيش لتُطمئن الغلابة والبؤساء المطحونين فى كل العهود والعصور.. فهؤلاء هم من يدفعون الثمن دائما ويكتوون بنيران الأزمات.. فلا أقل من أن نحميهم من نيران البلطجة وتجار العنف والسلاح. والوجه الآخر لرسالة الفريق أول عبد الفتاح السيسى هى التحذير والردع للمتآمرين فى الداخل والخارج وفنحن نعلمهم ونحذّرهم من أن دماء المصريين مقدسة وخط أحمر.. لذا جاء تكليف الرئيس للداخلية بإنشاء إدارة لمكافحة البلطجية وقطع الطرق مطلبًا حيويًا وجماهيريًا.. خاصة فى هذا التوقيت الخطير والانفلات الأمنى الواسع الذى نشهده جميعًا. كما أن الترجمة العملية لبيان الجيش هى الانتشار السريع على أرض المحروسة.. لحماية منشآتها الحيوية الاستراتيجية ولعل تدخل الجيش لإنقاذ إحدى محطات الكهرباء من الحصار نموذج عملى يردع هؤلاء المخربين.. فنحن نعانى أزمات هائلة ولا نستطيع تحمل مزيد من المشاكل والمهالك. وأعتقد أنه لو عقدت محاكمات عاجلة وسريعة للبلطجية والمجرمين وقطاع الطرق لاختفت كل مظاهر الانفلات والتجاوز.. لأن هؤلاء جبناء لا يستطيعون المواجهة ويفرون عند الشدائد.. (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ )صدق الله العظيم. أما الشرطة فإننى أتعجب من إعلانها الحياد وعدم حماية بعض المنشآت فهل هناك تمييز أمنى؟ أم أن هناك موقف مسبق مع طرف ضد آخر أم أنها تمنح البلطجية والمخربين ضوءا أخضر للقتل والتدمير والتخريب؟! نحن نعرف أن الأمن مسئولية كاملة متكاملة.. لا تتجزأ.. للجميع دون استثناء.. بغض النظر عن هويتهم وانتماءاتهم ومواقفهم. ولعل إعلان الشرطة عدم تأمين بعض المنشآت والأحزاب كان سببا فى وقوع الكثير من الجرائم والحوادث الدموية خلال الأيام الأخيرة. ونحن نعتقد أن لدينا جهاز مباحث هائلا ويسمع دبة النملة.. ويعلم أماكن أوكار البلطجية والمخربين وأسماءهم وتاريخهم وكل شىء عنهم وعن ذويهم. فلم لا يتحرك هذا الجهاز لمنع هذه الحوادث قبل وقوعها؟! هل ينتظر حتى تحدث الكارثة ولا نستطيع السيطرة عليها؟ وعندئذ لن يرحمنا التاريخ جميعا.. وفى مقدمتنا الشرطة التى كانت تعلم ولا تعمل.. ولا تبادر بالحركة.. وكلنا يشهد ويشاهد الميادين والشوارع والشرطة غائبة عنها؟! مما فتح الباب للباعة الجائلين والبلطجية وتجار السلاح والمخدرات للعمل والانتشار بحرية كاملة وعلنا وفى وضح النهار!! نعم نحن نعلم أن الأزمة أعمق وأكبر من قدرات الشرطة أو الأجهزة الأمنية وأنها تحتاج إلى خطة متكاملة لمعالجتها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وإعلاميا.. قبل المواجهة الأمنية.. أو بالتزامن والتوازى معها. إن أجهزة الدولة وفى مقدمتها الرئاسة عليها مسئوليات جسيمة لعل أبرزها: ? تفعيل لجنة المصالحة وبدء مرحلة جديدة من المصارحة والمكاشفة حول كل المشاكل.. حتى لو من خلال وسطاء.. والمهم أن نبدأ هذه المرحلة الحيوية.. لأنها تفتح المجال لتنفيس المكبوتات وتخفيف حالة الاحتقان الهائلة.. حتى داخل الأسرة الواحدة. ? الاتفاق على بدء حوار جاد وشامل يشارك فيه الجميع (الرئاسة والجيش والأزهر والكنيسة وكافة القوى والأحزاب) يقدمون خلاله رؤاهم لحل الأزمات العاجلة أولاً.. ثم خططهم لعلاج المشاكل المزمنة سياسيا.. واقتصاديا واجتماعيا. ? إعداد الحكومة لخطة عاجلة وسريعة لتوظيف الشباب.. فهذه الطاقات الهائلة العاطلة عن العمل هى وقود كل المشاكل.. ولو قمنا بتوظيفهم بصورة مثلى سوف تتراجع الكثير من الأزمات التى نشاهدها فى البيت والشارع والعمل وفى كل مكان. ? إعداد خطة إعلامية متكاملة تراعى مصالح الوطن والمواطن البسيط.. ولا تدعو للعنف أو تحرض عليه. وتجب محاسبة ومحاكمة كل من يفعل ذلك. وعندما نؤكد على خطورة دور الإعلام فى صناعة أزماتنا فإننا لا نبالغ ولا نحرض ضد الإعلام.. ولكنه للأسف الشديد واقع مزر نشهده جميعا. *** وإذا كانت دعوة الفريق أول السيسى قد حددت أسبوعا للوفاق بين القوى السياسية المختلفة.. فإننا نعتقد أن عمق الأزمة وتشابكها وتعقيداتها ومخاطرها سوف تستغرق وقتا أطول. المهم أن نبدأ رحلة الوفاق الطويلة والعسيرة.. ولو بكلمة طيبة أو ابتسامة صادقة مخلصة.. تنقذ الوطن من الانزلاق نحو نفق مظلم!