فى «موقعة العباسية» كرر الإعلام القومى أخطاءه التى كان يمارسها ويدمنها مع النظام السابق بصورة خلقت لدينا إحساسا بأن مبارك مازال يحكم ويتحكم من شرم الشيخ كما سبق وحذر الكاتب محمد حسنين هيكل فور إسقاط الرئيس المخلوع. وهاجم الكثيرون هيكل.. رغم أن مقولته كانت مؤشرا على بعد النظر.. وأنه ثاقب البصيرة. وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع هيكل فإن وجود مبارك فى شرم الشيخ حتى الآن فى ظل هذه الحماية والرعاية يعنى أنه يحظى بالأمن والأمان الذى يفتقده غالبية المصريين.. بل إنه يتمتع بحقوق الرعاية الطبية التى يتمناها البائسون! وأياً كان وضع مبارك فإن إعلامه مازال يعمل بهمة وكفاءة.. ولكن بأساليب جديدة وبوجوه مجددة! فخلال موقعة العباسية.. أعاد إعلامنا القومى الرسمى ذات الأخطاء القديمة.. فقد انحاز بداية لطرف دون آخر.. وبغض النظر عن مدى صدق ومصداقية هذا الطرف.. فإن المعالجة المهنية الموضوعية كانت تقتضى عرض كل الآراء.. وسرد الأحداث من كافة زواياها. هكذا علمنا أساتذتنا.. وهكذا تقتضى أصول المهنة التى نعشقها ومارسناها على مدى عشرات السنين. الإعلام القومى فى «موقعة العباسية» وما قبلها.. وربما حتى الآن.. لم يتحر الحقيقة.. ولم يسع إليها.. لأنه موجه ذاتيا أو من وراء الكواليس (افعل ولا تفعل – قل ولا تقل).. أو لأنه مازال أسير ماضٍ قريب لا يستطيع الفكاك منه. كنا نسمع ونشاهد ونقرأ من خلال الإعلام القومى وجهة نظر واحدة مبرمجة وموجهة ومحددة، ورغم وجاهة رؤية أصحابها.. فإنها لا تعكس آراء غالبية المصريين.. بل إن الإعلام القومى الذى تباطأ فى نقل الأحداث والوقائع أثناء ثورة يناير.. تسرع فى إصدار الأحكام على أحداث العباسية والتحرير.. وكأنه هو القاضى والجلاد فى آن واحد!! هذا الوضع السيئ للإعلام القومى دفع الكثيرين إلى متابعة القنوات الأجنبية والعربية كما حدث أثناء يناير وفبراير الماضيين.. بل إن «الجزيرة مباشر مصر» تفوقت فى نقل الأحداث مباشرة من كل أنحاء مصر.. بينما غاب عنها إعلامنا القومى إلى حد كبير.. فتابعها عن بعد.. وكأنه تبادل المواقع الجغرافية مع القنوات العربية والأجنبية! وإذا كان هناك من ملعب يجب أن يتفوق فيه الإعلام القومى.. فهو تغطية أحداث مصر.. على أقل تقدير، ونحن لا نطالبه بمتابعة ثورات اليمن وسوريا وليبيا.. بل ندعوه لشراء تذكرة أتوبيس بجنيه واحد لنقل أحداث العباسية! وإذا كنا نركز على موقعة العباسية.. عند تقييم أداء الإعلام القومى.. فلأن ذلك الحدث يجسد أزمة الثقة والمصداقية المفقودة لدى الجماهير المصرية فى هذا الإعلام.. هذه هى المشكلة الكبرى التى تواجهه. فمازال هذا الإعلام محسوبا على النظام السابق.. رغم كل ما يبذله من محاولات للإفلات من هذه الوصمة التاريخية. لذا تعرض مراسلو التليفزيون الرسمى لهجمات واعتداءات فى ميادين كثيرة من أنحاء مصر.. لأن الجماهير مازالت ترفض وتعترض على أسلوبه وأدائه.. كما أنه لم ينجح حتى الآن فى مواكبة فكر الثورة.. وأشك فى نجاحه.. ما لم تتغير العقول والآليات والهياكل القائمة. وإذا أردنا استعراض جذور أزمة الإعلام القومى نكتشف أنها تبدأ من المؤسسات التى تديره وتصوغ آلياته وتتحكم فى تمويله.. فبعد سقوط مجلس الشورى.. سقط المجلس الأعلى للصحافة بالتبعية وبالمنطق والقانون.. لكن للأسف الشديد ظل هذا المجلس ببعض رموز النظام القديم يحكم ويتحكم فى الإعلام القومى.. ويختار قياداته ويرشحها.. وكأن نظام الإعلام القديم مازال يعمل بكل الهمة. أيضاً فإن معايير اختيار هذه القيادات ظلت كما هى فى أغلبها.. عدا بعض الرتوش التجميلية حتى تبدو الصورة الإعلامية مواكبة للثورة..، ومازالت بعض الجهات تحدد معايير ومواصفات سياسية وفكرية وأيديولوجية فى أصحاب الحظوة الذين ينالون شرف قيادة هذه المؤسسات! وقد تكون المشاكل المالية والهيكلية أشد من المشاكل السابقة.. لأنها تجاوزت المليارات.. ولأن الروتين العتيق يسيطر على دهاليز صاحبة الجلالة.. المتخمة بالديون.. والمرهقة بعشرات الآلاف من الصحفيين والإداريين والعمال.. وأبرز المشاكل المالية هو التفاوت الرهيب فى الأجور والمرتبات داخل كل مؤسسة (بين القيادات العليا والصغرى)، وبين المؤسسات المختلفة (مؤسسات الجنوب الهامشية ومؤسسات الشمال المستقرة ماليا) هذا التفاوت الرهيب فى الأجور والدخول خلق حالة من الاحتقان والاستفزاز بين بؤساء صاحبة الجلالة.. وبين أصحاب الحظوة فيها!فالأوائل مطحونون يعانون فى الأتوبيسات والميكروباصات ويشعرون فعلا بهموم الشعب ولكنهم ليسوا أصحاب القرار.. وأصحاب الحظوة مرفهون منعمون يستأثرون بالمزايا والمكافآت.. وكل الامتيازات.. فى وقت تجاوزت نسبة الفقر لدينا 40%! ارتباط الإعلام القومى بالنظام (أياً كان) مازال أحد أبرز مشاكله.. وأشد قيوده.. وشواهد الارتباط واضحة ومؤكدة.. بدءاً من اختيار القيادات وانتهاء بالتعليمات والتوجيهات! ورغم ذلك فإن الصحافة القومية لا تحصل على مقابل لهذه المهمة.. فإذا كان الإعلام القومى يعبر عن وجهة النظر الرسمية.. فإن أبسط حقوق الارتباط هو توفير التمويل والدعم.. مقابل هذا الدور الذى تقلص كثيرا.. وسوف يتراجع أكثر فى ظل ثورة الإعلام.. وبعد ثورة يناير. فالحكومة وأجهزة الدولة المختلفة تقول للإعلام القومى: دبروا أموركم وحلوا مشاكلكم بأنفسكم. أما عند المصائب والكوارث والحاجة.. تتغير اللهجة واللغة: يجب أن تدعمونا.. وهذا دوركم.. المطلوب.. والمفروض! هياكل الإعلام القومى تعانى الترهل والتضخم والتوسع وعدم التماسك.. وتبدو مثل بناء قديم عملاق على وشك الانهيار.. هذه هى الحقيقة المُرة التى يجب أن ندركها ونواجهها.. إذا كنا نريد فعلا ايجاد مخرج حقيقى وجاد لهذه الأزمة الكبرى.. ومنبع مشكلة الهيكلة بدأت مع التأميم خلال الستينيات من القرن الماضى.. وكانت ضمن موجة تأميم كافة المؤسسات والشركات الخاصة.. تلك هى بداية الأزمة ومنشؤها الذى ترتبت عليه كافة المشاكل.. وقد لا تكون الخصخصة هى الحل حتى تعود الأمور إلى نصابها الصحيح.. فمن الواضح أن القطاع الخاص يرتكب هو الآخر خطايا إعلامية أكبر وأخطر.. وهذا محور آخر لهذه القضية.. ولكن طول السيطرة الرسمية على الإعلام القومى أدى إلى تعميق أزماته وتصعيد وتصعيب مشاكله.. حتى بدت فى بعض الأحيان مستعصية على الحل.. ولايجدى معها سوى الحل! هذه السيطرة الحكومية المزمنة خلقت مشكلة رهيبة فى تفريخ القيادات.. فظلت قيادات الإعلام القومى فى مواقعها سنوات وسنوات.. حتى ظن الكثيرون.. أنه لا بديل ولا حياة لهذا الإعلام.. إلا بهذه الأقلام.. ومن دونهم فإن المصير مجهول وحافل بالغمام!