أكثر ما يصيب المرء عند تقليب صفحات التاريخ الإسلامى هو الحزن الشديد على ما آلت إليه أمور الأمة، التى تتنازعها الأهواء والتصارع على سلطة زائفة متناسين قوله تعالى وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وفى هذا الحوار الذى التقت فيه «أكتوبر» د. عبد المقصود باشا رئيس قسم التاريخ الإسلامى والحضارة بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر قلبت معه صفحات بيضاء من التاريخ الإسلامى لتكون تذكرة ودعوة للعودة إلى الرشد، أو كما قال د. عبد المقصود إن لكل أمة مواسم ينسى الناس فيها ما بينهم من شحناء وبغضاء ليحل بدلا من ذلك الحب والتسامح، وأن شهر رمضان هو موسم الأمة الإسلامية، وتفاصيل أخرى فى هذا الحديث. * كيف يمكن لشهر رمضان أن يكون فرصة حتى يتصالح المصريون مع بعضهم مرة أخرى؟ ** لكل دولة من دول العالم وبشكل أشمل لكل أمة مواسم ينسى الناس فيها ما بينهم من شحناء وبغضاء ليحل بدلا من كل ذلك الحب والتسامح والإسلام يحرص دوما على إيجاد التصالح بين أبنائه، والدليل على ذلك أن القرآن الكريم لم تأت فيه كلمة دولة تعبر عن الإسلام والمسلمين، كما لم نجد نصًا فى الأحاديث النبوية يقرر أن المسلمين دولة، إنما اللفظ الذى ورد ليعبر عن الإسلام والمسلمين فى القرآن الكريم وفى أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو «الأمة» وفرق كبير بين الدولة والأمة.فالدولة بمفهومها يحيط بها حدود من الشمال والجنوب والشرق والغرب، أما الأمة فمدلولها أوسع وأشمل، وينطوى على نوع من التصالح الذى يسع الأقليات الإسلامية فى أى مكان فى الكرة الأرضية، حتى لو كان فردًا يعيش فى دولة من الدول إنما هو من الأمة الإسلامية التى عبر عنها القرآن الكريم.. ولهذا دلالة فى التاريخ الإسلامى أكبر ما يتصور الإنسان أو يصل إليه عقله، فقال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً )وهنا يعبر القرآن عن الأمة الإسلامية بأنها أمة وسط، وجميعنا يعلم أن الإسلام هو الدين الوحيد فى العالم الذى استطاع ويستطيع أن يتعايش مع جميع الأديان، سواء كان هذا الدين سماويًا أو كان هذا الدين وضعيا من صنع البشر.. حتى اللادينى يتعايش معه الإسلام وبالتالى فإن التصالح والتعايش إحدى سمات الدين الإسلامى، وعلى المسلمين أن يستغلوا فرصة شهر الصيام ليعودوا إلى رشدهم ويتصالحوا مع أنفسهم وليتجنبوا الفتنة التى تهدد استقرارهم. * وكأن الإسلام الذى هو أمة وليس دولة كان حريصًا كل الحرص على أن يحترم العقائد والديانات الأخرى لكى يتحقق التعايش السلمى؟ ** على الرغم من أن المسلمين أمة وليسوا دولة إلا أن الدين الإسلامى حفظ لأصحاب الدول الذين يعيشون داخل حدودها أو خارجها، حرية العقيدة بحيث لا يستطيع أن يجبره على اعتناق عقيدتك أنت المسلم.. فإن قال شخص ما .. إن هناك فى الإسلام ما يسمى «الجزية» فهذا فهم خاطئ للفظ، لأن كلمة «الجزية» فى مفهومها أيام أن فرضت هذه الضريبة كانت بالمفهوم الدولى سواء فى دولة الفرس أو فى دولة الروم ضريبة على الرءوس، فلما جاء الإسلام أقر ما كان.. فقد كان يوجد 18 نوعا من الضرائب على المصريين من قبل الرومان فلما جاء الإسلام أسقط كل هذه الضرائب وجعلها ضريبة واحدة فقط التى سميت فى هذا العصر «الجزية» أو تسمى الآن «ضريبة وطنية وقومية» ويجب أن تعرف أن المسلم كان يدفع عن هؤلاء غير المسلمين الذين تفرض عليهم فالإسلام أعفى من الضرائب النساء والأطفال وأصحاب العاهات، بل أعفى غير المسلم من دفع أى ضريبة ما دام تمثل عبئا عليه.. بل زاد على ذلك حينما وجد عمر بن الخطاب شيخًا يهوديًا يسأل الناس.. فقال له عمر ما الذى دفعك للتسول والسؤال فى أمة الإسلام ؟ قال الحاجة والجزية فقال ما رعيناك حق رعايتك، ثم أمر خادمه على بيت المال أن يجعل له ومن مثله من مسلمين ومجوس ونصارى معاشا يتعايشون منه.. فهذا هو الإسلام الذى كفل الحرية الدينية والحرية الاقتصادية والحرية الاجتماعية، والآن أكثر من 50% من المسلمين يتسولون، بل الأكثر من ذلك سوف نلاحظ أن المبادئ الإسلامية طبيعتها وجهت المسلم إلى التمازج والتعايش مع الآخر.. لذلك يعادى الإسلام من لا يفهم الإسلام... وسوف يحاسبنا الله حسابًا عسيرًا لأننا لم نستطع أن نوصل رسالة الإسلام كما أرادها الله ورسوله.. لأننا لم نعد متسامحين مع بعضنا البعض، وليس وراءنا غير الكلام..» «وإذا لعن الله أمة سلط عليها الجدل وقل فيها العمل». * نحن نعيش فترة خطيرة جدا.. خاصة بعد أن صعدوا التيار الإسلامى إلى سدة الحكم، ثم فوجئنا بالشارع يتعامل مع هذا التيار على أساس أنه الإسلام وبدأ البعض يتهم الإسلام بالفشل بعد عدم نجاح التجربة.. ففى رأيك كيف استطاع الإسلام أن يحكم أمة ويكون امبراطوريات عظيمة حتى توضح للناس أن العيب ليس فى الإسلام؟ ** هناك فرق كبير بين الإسلام والمسلمين، وفرق كبير بين مبادئ الدين وفقه الدين، ولذلك سوف نجد أننا لدينا فى الفقه الإسلامى مؤلفات ضخمة فهناك فقه الإمام الشافعى، وفقه الإمام مالك، والأمام أحمد بن حنبل وفقه الأمام أبو حنيفة النعمانى..وبالنظر إلى كل هؤلاء نجد أنهم لم يختلفوا، ومن يرد ذلك فهو ناتج عن فهم خاطىء، لأن هؤلاء الأئمة اجتهدوا.. فباجتهاد الإمام وصل إلى النتيجة هذه وباجتهاد الآخر فى نفس القضية وصل إلى نتيجة أخرى إذن فهناك فرق بين الإسلام كدين، ومبادىء الإسلام وتطبيقاته، من المبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية ومنها أيضا لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى.. وأروى لك عن سيدنا عمر أنه سمع طفلا يبكى وأمه تحاول إسكاته.. فقال لها.. أما فى قلبك رحمة حتى تجعليه يبكى.. قالت وهى تجهله، هكذا صنع بنا إمامنا عمر بن الخطاب أجبرنا على أن نفطم أبناءنا مبكرين قال لها كيف؟ قالت: لأنه لم يعط للصغار حقا فى الجزية الشهرية لغير المفطومين ، فما كان منه رضى الله عنه إلا أن قرر وضع مرتب شهرى لكل من يتنفس أول نفس فى الحياة. * كأنك تقصد أن الاجتهاد فى الإسلام أمر مطلوب لإفراز خطاب دينى يتناسب والعصر. ** نعم ، لابد من الاجتهاد وما الفقه إلا اجتهاد فى أمور الدين، وما جاء فى عهد أبو بكر وعمر لم يكن موجودا فى عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) . وهناك مستجدات اجتهد لها عمر فتوصل إلى هذه النتيجة.. وبالقياس على ذلك إذا نظرت إلى شباب الأمة وكيف يربى. وأذكر لك طرفة عن سيدنا أبى حنيفة النعمان حينما كان يمر على نهر دجلة، وهو كما نعلم مستوى انحدار الماء فيه كبير وبالتالى من لم يجد السباحة فقد يعرق - فوجد شابا يسبح فى النهر فقال له: أيها الشاب :الموج عال أخرج حتى لا تغرق.. فرد عليه الشاب قائلا: يا إمام لو غرقت أنا غرق فرد.. أما أنت لو غرقت لغرقت أمة. فهذا لم تجده الآن بين شبابنا، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لم يخف على أمته فقرا.. فقال عندما كان المسلمون محاصرون «والله لم أخش عليكم الفقر، ولكن أخشى عليكم كثرة المال» ولهذا انشأ الإسلام فى التاريخ ما يسمى بالحضارة الإسلامية، التى لم نعطها قدرها من الاهتمام، وإذا نظرنا إلى الذين يعتنقون الإسلام تجدهم الفلاسفة، وكبار المفكرين والعلماء. وماذا ننتظر بعد أن قال مسئول أمريكى لو جاء محمد إلى عالمنا لقام بحل كل مشاكلنا وهو يحتسى فنجانا من القهوة. * ورغم ذلك نشهد فى الفترة الأخيرة حالة من التنازع الشديد والفرقة حتى داخل الجانب الإسلامى نفسه حتى أصبح هناك شيعى وسنى.. حتى داخل المذهب السنى نفسه أصبحنا نسمع عن سلفيين والأشعريين.. كيف تعامل الإسلام مع هذا الاختلاف؟ ** أقول لك.. إن الإسلام الصحيح لا يوجد فيه اختلاف على الإطلاق.. وقلت إن فقهاءنا لم يختلفوا.. لكن أقول لك إننى كنت فى دولة باكستان، وهناك الإشارة بالإصبع فى التشهد ممنوع لأنه لم يرد عن النبى.. ولكنها هيئة من الهيئات التى يكون المسلم عليها. ومن المواقف التى لا أنساها أننا كنا نصلى فى دولة شقيقة صلاة الفجر وكان معى شخصية أزهرية أخرى.. وفى هذه الدولة يتعبدون بالمذهب المالكى.. ووفق مذهبهم لا يقنتون إلا سرا، فلما عرفوا أننا من الأزهر أصر جميع من فى المسجد على أن يتقدم أحدنا للإمامة، فقدمت صديقى.. فلما رفع من الركعة الثانية فبدأ يدعو « اللهم عافنا فيمن عافيت..» والمصلون مذهولون مما يحدث.. لكنهم يعلمون جيدا أن الامام من الأزهر فيجب اتباعه، فلما انتهوا من الصلاة، سألوا ما الذى فعلته هذا ياشيخ؟ فشرح لهم أن هذا هم مذهب الامام الشافعى فسروا سرورا كبيراً أنهم تعلموا شيئاُ جديداً فى الفقة الدينى، وكنت فى دولة باكستان منذ شهر تقريباً وكنت ارتدى الزى الأزهرى، وكنا فى مقابلة مع رئيس الدولة.. فإذا به،أن رأى عمامة الأزهر إلا ومال عليها وقبلها وقال: «الأزهر عندنا» .. أما اليوم فتجد انقساماً بين الأمة إلى شيعة وسنة.. ويجب نتعلم أن الشيعة مذهب فكرى له احترامه وقداسته نختلف معه، لكن لا نقاتلهم فإذا كنت تقول لغير المسلمين «لكم دينكم ولى دين» فكيف تقول للشيعى أنت كافر. * لماذا ظل الأزهر منذ 1050سنة باقياً إلى الآن وسيظل منارة للعلم؟ ** بقى الأزهر لأنه احترم التخصص.. واحترم الاختلاف.. فكانت أول جملة درستها وأنا طالب فى الأزهر فى فقه الإقناع للإمام الشافعى «اختلف الفقهاء» وكأنه يعلم خلابه منذ نعومة أظافرهم كيف يختلفون؟ وهذه جملة ليست بسيطة كما يتصورها البعض ..لأن الإمام وصف نفسه بأنه عالم ووصف غيره أيضا بأنه عالم، رغم أنه قد يتناقض الفكر ومع احتمال وجود هذا التناقض وهو كثير إلا أنه اعتبر هذا عالما،وهذا عالماً.. وقال: «أنت مقلد» ورحم الله من قال «من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر».. وأذكرك باختلاف صحابة رسول الله فى موقعة الخندق لقوله صلى الله عليه وسلم «لايصلين أحد منكم العصرإلا فى بنى قريظة» فقال بعض الصحابة إن رسول الله يقصد من كلامه أن نسرع أما الصلاة فمتى يدركنا العصر نصليه.. فاختلف معهم آخرون وقالوا: لن نصلى العصر إلا فى بنى قريظة فأخذوا الكلام على ظاهره.. فرفضوا الصلاة وصلوها قضاء وكان ذلك فى عصر رسول الله.. فلما حضر رسول الله وحكيت له الأحداث رفض أن يصف أيا منهم بالخطأ. * هناك دور لمؤسسة الجامع أو المسجد وإن كان قد تراجع.. فكيف يمكن التعويل على دور هذه المؤسسة حتى تعود الأمة؟ **المسجد كما نعلم هو قبلة المسلمين وهو مكان تجمعهم وايوائهم، وجمع كلمتهم بعد طول تمزق..لكن حلت بمصر مصيبة كبرى، بعد أن تحولت المساجد إلى زوايا.. حتى قال الفقهاء: إنه لاتصح صلاة الجمعة فى هذه الزوايا، التى يصعد منابرها شباب غير مؤهل ومسممة أفكاره، فيسممون أفكار المستمعين الذين لاتتوافر لديهم الثقافة الدينية وبالتالى يقع فى كثير من المشاكل..وفى رأيى يجب تعميم خطاب المساجد وفق منشورات تأتى من وزارة الأوقاف... وأن توحد الخطبة على مستوى الحى والقرية لأن مايتناسب مع الريف لايتناسب مع المدينة..وأن تغلق هذه الزوايا الصغيرة المقامة تحت العمارات ..فهناك فارق بين مسجد أسس على التقوى ومسجد الضرار، فهذه الزوايا فى رأيى لاتعتبر مسجداً. * هناك خلط لدى الإمام بين هموم المواطن من قمامة ومياه..وغيرها وبين الأمور السياسية؟ **خطبة الجمعة والمساجد يجب أن تكون حول الإصلاح وليس التبكيت،ليس الهجوم على الحاكم..فهل كان يجرؤ أحد أن يقول ما أسمعه الآن فى عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.. فلماذا تجرأ الناس هذه الأيام؟ فالدولة تتم سرقتها منذ ثورة 1952.. ونأتى الآن ونطالب الحاكم بأن يصلح كل ذلك فى عام أليس هذا نوعاً من المتاجرة بالدين ونوعاً من الخلط الفكرى.. فأنا لست إخوانيا ولا أنتمى لأحزاب سياسية، لكن من يسمون أنفسهم بجبهة «انقاذ» يتصارعون من أجل الكرسى، وللأسف تجد المساجد وبعض الخطباء أقحموا أنفسهم فى هذا المجال وهو ما لا يجب أن يكون.. فالمساجد فى أيامنا هذه خرجت عما يجب أن تكون عليه، فيجب ألا تكون خطبة الجمعة مباحة لكل زاعق وناعق، وإنما يجب أن تكون الخطابة تركز على النظافة وعلى السلم وعلى القيم الاجتماعية. * تنتشر بين المصريين عادة الحرص على ختم القرآن خلال شهر رمضان، وحرصا على تحقيق هذا الهدف تجدهم يضطرون إلى قراءته فى وسائل المواصلات، فهل يصح ذلك؟ ** أرى أنه فى هذا «مخالفة» لأمر الله للمسلمين بتدبر القرآن الكريم عند قرءاته، لذلك فإن قراءة بعض الآيات من القران بتمعن أفضل من مجرد القراءة السريعة بلا فهم،والنبى صلى الله عليه وسلم، يوصينا بأن معرفة أحدنا معنى آية خير له من الدنيا وما فيها،فليس المراد القراءة وحدها بل المراد الفقه والتأمل،وأن الرسول الكريم لم يأمر بختم القرآن فى رمضان،وإنما أمر بقراءته بالتدبر،وفهم معانيه، فإذا لم يلتفت الإنسان لهذا فى القرآن فبماذا استفاد منه؟ * هل يوجد فى الإسلام دولة دينية؟ ** قراءة التاريخ الإسلامى تثبت أنه لايوجد فى الإسلام مايطلق عليه الدولة الدينية، وأنه على مدى التاريخ الإسلامى لم يكن هناك ما يعرف بالدولة الدينية، وإذا كان هناك بعض المسلمين من الشيعة قداخترعوا فكرة ولاية الفقيه،فليس لدينا كأهل سنة مايسمى بولاية الفقيه، وتاريخنا الإسلامى خير شاهد على ذلك، فالدولة الإسلامية تقوم فى أساسها وأركان نظامها على الكفاءة فقط،كفاءة السياسيين فى مجالهم، وكفاءة العسكريين فى مجالهم، وكفاءة العلماء المتخصصين كل فى مجاله، بل إن الدولة الإسلامية فى عهودها السابقة لم تول واليا أو حاكما إلا إذا كان قد جمع بين الفقه والورع وبين فنون السياسة. * كأنك ترى أن الكفاءة وليس التدين والورع هى المعيار الأوحد فى الإسلام لتولى المناصب. ** نعم قولا واحدا، الدولة فى الإسلام قائمة على الكفاءة، أياً كانت حتى لو كانت عند غير المسلم أو عند المرأة، والتاريخ الحديث يشهد بذلك عندما اختار أهل قنا المسلمين مكرم عبيد باشا، ليكون ممثلهم بمجلس النواب، فكان مسيحياً مندوباً عن المسلمين اختاره المسلمون لأنه الأكفأ، ولم يقف عالم من الأزهر يقول إن هذا باطل، بل إن هذا هو الإسلام.