تابعت - ولا أزال أتابع - تجربة سلطنة عمان سواء وهى تخطو بطريقتها وخصوصيتها على طريق الإصلاح السياسى وتوسيع قاعدة مشاركة المواطنين فى الحياة السياسية.. أو تجربتها فى تحقيق التنمية الاقتصادية والبشرية.. والحقيقة أن الفرصة أتاحت لى أن أرى سلطنة عمان قبل 20 عاما.. بعدها لم أنقطع تقريبا عن زيارتها كل عام.. وفى كل عام كنت أرى سلطنة عمان جديدة.. عاصمة جديدة ومعالم جديدة وتطورات جديدة.. وبشراً جدداً!.. فإذا أضفت لذلك مواقف السلطان قابوس ووقوفه إلى جانب مصر ومساندته لها فى أزمات عديدة.. ثم هذا التعاطف الذى تحظى به مصر بصفة عامة من المواطنين العمانيين.. فإننى فى النهاية لا أملك إلا الإعجاب بسلطنة عمان.. الدولة والتجربة والشعب!.. وقبل أيام زرت سلطنة عمان لحضور افتتاح مجلس عمان الذى يضم مجلسى الشورى والدولة.. ومن الطبيعى أن يتيح لى ذلك الاقتراب من الشأن العمانى.. غير أننى اكتشفت وأنا هناك أننى اقتربت من الشأن المصرى.. بنفس الدرجة!.. افتتاح مجلس عمان فى الحقيقة يمثل للعمانيين مناسبة مهمة.. خاصة أن السلطان قابوس يلقى فى هذه المناسبة خطابا يعتبره العمانيون خريطة طريق المرحلة المقبلة.. وربما لهذا السبب تحرص وزارة الإعلام فى سلطنة عمان على دعوة الصحفيين ورجال الإعلام من كل البلدان العربية لمتابعة الحدث المهم.. وفى كل الأحوال تتحول المناسبة إلى أكبر وأوسع ملتقى للإعلاميين العرب.. ومن الطبيعى أن يشغل الحدث وتشغل المناسبة مساحة من مناقشات وحوارات الإعلاميين والصحفيين العرب.. غير أنهم فى الحقيقة لا يكتفون بذلك وإنما يتطرقون إلى كل القضايا والأحداث العربية.. يتناقشون ويختلفون ويتفقون!.. وهكذا تتحول اجتماعاتهم ولقاءاتهم إلى برلمان صاخب - إن صح التعبير - تناقش فيه كل الموضوعات بمنتهى الحرية وبلا قيود.. حتى لقاءات الإعلاميين العرب بالشخصيات العمانية الرسمية.. تتحول هى الأخرى إلى برلمان صاخب يتناقش فيه الجميع فى مختلف القضايا العربية.. بمنتهى الحرية وبلا قيود.. ولم تكن هذه المرة استثناءً اللهم إلا أن البرلمان الصاخب لم يناقش إلا موضوعا واحدا وقضية واحدة.. ثورة مصر وتداعياتها!.. كان ما يحدث فى مصر من تطورات وما تشهده من أحداث هو الموضوع الوحيد الذى شارك جميع الصحفيين فى مناقشته والحديث عنه.. وتسمع من يسأل وتسمع من يعلق وتسمع من يجيب.. كأنه مصرى يعيش فى مصر.. الكل مشغول بمصر وبأحداث مصر.. كأن الثورة المصرية هى الثورة الوحيدة فى المنطقة العربية.. وكأن الأحداث التى تشهدها مصر هى الحدث الوحيد الذى تشهده الدول العربية!.. حتى المواطنين العمانيين فى الشوارع والأسواق.. لا يكفون عن السؤال عن مصر وأحوالها.. محاولين الإلمام بأصغر التفاصيل.. إذا لاحظوا من لهجتنا أننا مصريون وعرفوا أننا زوار وصحفيون!.. ومن الطبيعى أن تختلف الآراء وتتباين.. فهناك من يشعر بالقلق على مصر.. وهناك من يشعر بالتفاؤل.. هناك من يخاف على مصر.. وهناك من يؤكد بثقة أنها تسير إلى الأمام.. وأنه إذا كان اليوم أفضل من أمس فإن غدا أفضل من الاثنين.. أمس واليوم!.. وتسمع من يؤيد إجراء الانتخابات أولاً.. وتسمع من يطلب أن يكون الدستور أولاً.. وتسمع من يؤيد صدور قانون العزل السياسى وتسمع من يرفض الفكرة والمبدأ ويقول ليس من حق أحد إقصاء أحد.. كأنهم مصريون غارقون فى الشأن المصرى.. وليس غريباً بعد ذلك كله أن يكون لذلك تأثيراته وانعكاساته على الشأن العمانى.. وهو ما فهمناه من خطاب السلطان قابوس فى مناسبة افتتاح مجلس عمان.. *** أشار السلطان قابوس فى ختام خطابه إلى هذا المعنى فقال: إننا نعيش فى عالم يشهد تطورات متلاحقة على الصعيدين الإقليمى والدولى تحدث أثاراً متباينة وردود فعل متعارضة.. ولما كان تداخل المصالح والسياسات سمة مميزة لهذا العالم فإنه لا يمكننا أن نكون بمعزل عما يدور حولنا.. وقد عرفت السلطنة دائماً بانتهاجها سياسة واضحة المعالم تقوم على أساس التعاون مع الجميع وفق مبادئ ثابتة تتمثل فى الاحترام المتبادل وتشجيع لغة الحوار ونبذ العنف فى معالجة الأمور، وصولاً إلى مجتمعات يسودها التآخى والاستقرار، مما يكفل للشعوب مواصلة مسيرتها التنموية وإنجاز أهدافها فى التقدم والرخاء.. فى مناخ يتسم بالأمن ويخلو من الاضطرابات ويشجع على تنفيذ الخطط والبرامج الاقتصادية والاجتماعية وفقا للأولويات التى تقررها المصلحة العامة.. وهكذا اقترب السلطان قابوس بكلمات خطابه من المعنى.. سلطنة عمان ليست بمعزل عما يدور حولها فى مصر والمنطقة العربية.. مع التأكيد على أن سياسة السلطنة تقوم على مبادئ ثابتة تتمثل فى تشجيع لغة الحوار ونبذ العنف لتحقيق الاستقرار.. وربما إدراكا من السلطان قابوس لخطورة قمع الحريات والآراء كما حدث فى بلدان عربية فقد حرص فى خطابه على التأكيد على حرية الرأى وعدم مصادرة الفكر.. يقول السلطان قابوس فى خطابه: لقد كفلت قوانين الدولة وأنظمتها لكل عمانى التعبير عن رأيه والمشاركة بأفكاره البنّاءة فى تعزيز مسيرة التطور التى تشهدها البلاد فى شتى الميادين.. ونحن نؤمن دائما بأهمية تعدد الآراء والأفكار وعدم مصادرة الفكر؛ لأن فى ذلك دليلاً على قوة المجتمع وعلى قدرته على الاستفادة من هذه الآراء والأفكار بما يخدم تطلعاته إلى مستقبل أفضل وحياة أسعد وأجمل.. غير أن حرية التعبير لا تعنى بحال من الأحوال قيام أى طرف باحتكار الرأى ومصادرة حرية الآخرين فى التعبير عن آرائهم، فذلك ليس من الديمقراطية ولا الشرع فى شىء.. ومواكبة العصر لا تعنى فرض أى أفكار على الآخرين هكذا يعلمنا ديننا الحنيف.. فقد امتدح الله عز وجل المؤمنين بقوله فى محكم كتابه (وأمرهم شورى بينهم).. وهذا أيضاً ما تقضى به قوانين العصر الذى نعيشه.. *** و كأن السلطان قابوس قد أراد من خلال خطابه أن يطمئن الشباب العمانى - بصفة خاصة - على حاضرهم ومستقبلهم فقال: لما كان الشباب هم حاضر الأمة ومستقبلها فقد أوليناهم ما يستحقونه من اهتمام ورعاية على مدار أعوام النهضة المباركة.. حيث سعت الحكومة جاهدة إلى أن توفر لهم فرص التعليم والتدريب والتأهيل والتوظيف.. وسوف تشهد المرحلة القادمة بإذن الله اهتماما أكبر ورعاية أوفر تهيئ مزيداً من الفرص للشباب من أجل تعزيز مكتسباته فى العلم والمعرفة وتقوية ملكاته فى الإبداع والإنتاج وزيادة مشاركته فى مسيرة التنمية الشاملة.. ولما كان التعليم هو الركيزة الأساسية للتقدم والتطور ولإيجاد جيل يتحلى بالوعى والمسئولية ويتمتع بالخبرة والمهارة ويتطلع إلى مستوى معرفى أرقى وأرفع فإنه لابد من إجراء تقييم شامل للمسيرة التعليمية من أجل تحقيق تلك التطلعات.. السلطان قابوس كان واضحا فى حديثه عن الشباب وكان واضحا عندما حدد التعليم وسيلة للاهتمام بهذا الشباب.. *** الحقيقة ان الخطاب كله يمكن اعتباره خطة عمل للمستقبل أو منهاج عمل لدولة عصرية.. غير أنه فى نفس الوقت يمكن اعتباره خطة عمل لبقاء هذه الدولة العصرية محصنة من الداخل.. وتحصينها يأتى من حرية التعبير.. والحرية دائما هى المناخ الآمن الذى فى ظله تنضج الآراء والأفكار وتتحقق المصلحة العامة.