لا يقتصر دور الطب النفسى وعلم النفس على علاج الحالات النفسية المريضة فقط بل يتسع هذا الدور إلى دراسة ومتابعة ومواجهة الظواهر العامة التى تهم الناس، ومن أجل هذا قام الدكتور لطفى الشربينى استشارى الطب النفسى بالإسكندرية بإعداد دراسة نفسية حول «الثورات العربية وثقافة البلطجة» مؤكدا أن هذه الظاهرة تعرف بأنها الخروج على القواعد والقوانين والميل إلى العدوان على الأنفس والممتلكات بما فى ذلك من تعد سافر على حقوق الآخرين. وهى ليست جديدة بل لها جذور اجتماعية ونفسية، وتحدث بنسب متفاوتة فى مختلف مجتمعات العالم. يقول د. لطفى الشربينى إنه ومن وجهة النظر النفسية فإن هذه الظاهرة التى يعرفها الجميع بالعنف أو «الإجرام» أو البلطجة هى أحد أنواع الانحرافات السلوكية نتيجة للاضطراب فى تكوين الشخصية، وبدلاً من التكوين السوى للصفات الانفعالية والسلوكية التى تشكل الشخصية التى يتعامل بها الفرد مع الآخرين والتى تتكون مبكراً وتتصف بالثبات والاستقرار ولا تتغير فإن الاضطراب يصيب الشخصية فيحدث انحراف وخروج على الأسلوب الذى يتعامل به الناس فى المجتمع مما يتسبب فى الاصطدام بين أولئك الذين يعانون من اضطراب الشخصية الذى يطلق عليه الأطباء النفسيون الشخصية «المضادة للمجتمع». ويضيف: تحدث الانحرافات السلوكية الناجمة عن حالات اضطراب الشخصية فى نسبة تصل إلى 3% من الذكور و1% من الإناث حسب الإحصائيات العالمية فى بعض المجتمعات، وتبدأ بوادر الانحراف السلوكى فى مرحلة المراهقة عادة أو قبل سن الخامسة عشرة، وتحدث بصفة رئيسية فى المناطق المزدحمة والعشوائية، وتزيد احتمالاتها فى الأسرة كبيرة العدد، وفى المستويات الاجتماعية والتعليمية المنخفضة، وفى دراسات على أقارب المنحرفين من معتادى الإجرام والذين يتورطون فى جرائم العنف (أو البلطجية) ثبت أن نفس الاضطراب السلوكى يوجد فى أقاربهم بنسبة 5 أضعاف المعدل المعتاد، كما أن الفحص النفسى لنزلاء السجون اثبت أن 75% ممن يرتكبون الجرائم المتكررة هم من حالات اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع أو ما يطلق عليه الشخصية «السيكوباتية».. وأشار إلى أنه وفى الدراسات النفسية التى تقوم على الفحص لشخصية هؤلاء المنحرفين الذين يتكرر ارتكابهم لحوادث العنف فإن المظهر العام قد يبدو هادئاً مع تحكم ظاهرى فى الانفعال غير أن الفحص النفسى الدقيق يظهر وجود التوتر والقلق والكراهية وسرعة الغضب والاستثارة لدى هؤلاء الأفراد، وهم لا يعتبرون من المرضى النفسيين التقليديين، ولا يعتبرون مثل الأسوياء أيضاً، بل هى حالات بيئية يمكن أن يؤكد تاريخها المرضى الميل إلى الانحراف، والكذب، وارتكاب المخالفات والجرائم كالسرقة، والمشاجرات، والإدمان، والأعمال المنافية للعرف والقانون، وتكون الجذور والبداية عادة منذ الطفولة، وهؤلاء لا يبدون أى نوع من الندم أو تأنيب الضمير، ولا ينزعجون لما يقومون به بل يظهرون دائماً وكأن لديهم تبرير لما يفعلونه من سلوكيات غير أخلاقية فى نظر الآخرين، ويوضح د. الشربينى أن المنحرفين ليسوا نوعاً واحداً، فمنهم من يستغل صفاته الشخصية فى تحقيق بعض الإنجازات دون اعتبار للوسائل، ومنهم من يتجه إلى إيذاء الآخرين أو تدمير نفسه أيضاً، ومنهم من يتزعم مجموعة من المنحرفين أو من يفضل أن يظل تابعاً ينفذ ما يخطط له الآخرون، ولاشك أن جرائم العنف كالقتل والمشاجرات والاغتصاب ترتبط بالانحرافات السلوكية الأخرى مثل الإدمان والسرقة والأعمال المنافية للآداب العامة، وتزيد احتمالات الإصابة بالاضطرابات النفسية فى الأشخاص الذين يرتكبون هذه السلوكيات نتيجة لاضطراب الشخصية. ويؤكد أن تلك الظاهرة الخطيرة أمراً ميسوراً من وجهة النظر النفسية، بل يتطلب المشاركة بين جهات متعددة لأن الظاهرة معقدة ولها جوانبها الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والأمنية والنفسية، يقدم د. لطفى الشربينى بضع نقاط لتكون دليلاً للتفكير فى كيفية التعامل مع الموضوع دون إهمال للجوانب النفسية المهمة لها، وهى كالتالى: أولا: المنحرفون الذين يعرفون بالبلطجية يختلفون تماماً عن المرضى النفسيين رغم أنهم حالات من اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع، كما أنهم يختلفون عن مرتكبى الجرائم بدافع محدد فى ظروف معينة، ولا يعتبرون من المتخلفين عقلياً، بل هم حالات غير سوية تتطلب أسلوباً آخر للمواجهة. ثانيا: للظاهرة جوانب أخرى حيث يشجع على تفاقمها عدم توقع العقاب الرادع، والعدالة البطيئة، وعدم وجود ارتباط مباشر بين ارتكاب المخالفة القانونية وتطبيق العقاب المناسب، والتأخر فى مواجهة الحوادث الفردية حتى تتزايد لتصبح ظاهرة. ثالثا: الوقاية هنا أهم من العلاج وتبدأ بالاهتمام بالتنشئة لأن الانحراف الذى يصيب الشخصية يبدأ مبكراً، وإذا حدث فإن علاجه لا يكون ممكناً. رابعا: فى بعض البلدان يتم وضع هؤلاء المنحرفين بعد تشخيص حالتهم - وقبل أن تتعدد الجرائم التى يقومون بارتكابها - فى أماكن تشبه المعتقلات من حيث النظام الصارم، وبها علاج مثل المستشفيات ويتم تأهيلهم عن طريق تكليفهم ببعض الأعمال الجماعية والأنشطة التى تفرغ طاقة العنف لديهم.