أطباء وعلماء الطب النفسي تجمعوا منذ أيام في أغرب مؤتمر لبحث قضية فريدة من نوعها, وهي أسباب البلطجة التي تضرب الآن الثوارت العربية. فقد ظهر فجأة في حياة الثورات العربية شخصية جديدة لم يكن لها هذا الوجود الصادم... ولا يفهم أحد لماذا ظهرت الآن... ومن أين جاءت في هذا الوقت الحرج من تاريخ هذه الشعوب... والغريب أنها ظهرت في كل الثورات العربية وبأسماء مختلفة... ففي مصر اسمه البلطجي وفي تونس اسمه الكلوشار والذي يعني بالفرنسية المتشرد... وفي سوريا الشبيحة أما في اليمن الشقيق فإن اسمه البلاطجة! وكأن من قدر الشعوب العربية أن تواجه المصائب حتي في لحظات فرحتها, ولأن المصائب لا تأتي فرادي.. فإن سطوة البلطجية جاءت مع فلول النظم الديكتاتورية التي تحاول جاهدة استخدام هؤلاء الخارجين كأداة قمع خاصة ضد هذه الثورات. ومن أجل عيون البلطجية عقد منذ أيام بالإسكندرية مؤتمر للطب النفسي. وأمام المجتمعين من قراء النفس تم تشريح شخصية هذا الشبح الذي يثير قلق الشارع العربي الآن.. لقد كان القاسم المشترك في كل الثورات العربية التشابه في الأنظمة الديكتاتورية عند مواجهة الاحتجاجات وثورة الشعب بداية من القمع باستخدام الوسائل المؤذية أو الاستعانة بالبلطجية لترويع المواطنين لحساب جهات تابعة للسلطة. لقد انتهي المجتمعون حول مائدة الطب النفسي كما يشرح لي د. لطفي الشربيني مقرر المؤتمر إلي إعتبار البلطجة نوعا من الانحراف السلوكي نتيجة للاضطراب في تكوين الشخصية... إذ إن الاضطراب يصيب هذا الشخص, فيحدث به إنحرافا في تعامله مع الناس والمجتمع, ويطلق عليهم الطب النفسي الشخصية المضادة للمجتمع وهو ما يوصف أيضا بالشخصية السيكوباتية والتي تعرف لدي العامة بالبلطجة أو الإجرام الذي يتصف به الأشخاص الذين لهم ميل إلي ارتكاب الحوادث دون رادع من ضمير أو خوف من عقاب.. وهي حالات تختلف عن الأمراض النفسية التقليدية مثل القلق والاكتئاب والفصام والوساوس... وتصل نسبة البلطجية إلي3% من الذكور و1% من الإناث حسب الاحصائيات العالمية في بعض المجتمعات. من هو البلطجي؟ وتبدأ بوادر الانحراف السلوكي للبلطجي في مرحلة المراهقة أو قبل سن الخامسة عشرة وتحدث بصفة رئيسية في المناطق المزدحمة والعشوائية, وفي المستويات التعليمية والاجتماعية المنخفضة... ويوجد نفس الاضطراب السلوكي في أقاربهم بنسبة5 أضعاف المعدل المعتاد... كما أن الفحص النفسي لنزلاء السجون أثبت أن75% ممن يرتكبون الجرائم المتكررة هم من حالات الشخصيات المضادة للمجتمع أو ما يطلق عليه الشخصية السيكوباتية ويستدل من ذلك علي أن جذور ودوافع العنف تبدأ مبكرا عندما يوجد المراهق في بيئة فيها نماذج سلبية يعلوها المراهق... والبلطجية لا يبدون أي نوع من الندم أو تأنيب الضمير, ولا ينزعجون لما يفعلون وكأن لديهم تبريرا لما يفعلونه من سلوكيات غير أخلاقية. وليس الحل لهذه الظاهرة أمرا ميسورا من وجهة النظر النفسية... بل يتطلب المشاركة بين بعض جهات متعددة. وقبل أن نشرح حلول خبراء النفس في هذه الظاهرة الإجرامية.. فإن الأمر قد يتطلب معرفة وجهة النظر الأمنية. أنواع جديدة من البلطجة والحديث عن البلطجية من وجهة النظر الأمنية يكشف حقائق في غاية الخطورة. اللواء سيد شفيق وكيل الأمن العام يقرر تماما بأن هناك أنواعا من البلطجية تمارس الآن نشاط ترويع الآمنين سواء باستخدام سلاح من عدمه... ويعتبر بلطجي كل من يتخذ العنف وسيلة ضد المجني عليه سواء بالتهديد باللفظ أو استخدام السلاح. وإذا كان هذا هو الشكل التقليدي المتعارف عليه للبلطجي... فإن مفهوم البلطجة قد توسع إلي شكل خطير في نظر الأمن العام كما يشرح لي وكيل الأمن العام فإن أجواء الحرية التي سادت البلاد بعد الثورة قد صنعت في نفوس بعض الأشخاص مفهوما خطأ للحرية.. وأصبح مفهوم الحرية عند الكثير هو القيام بأي تصرف سواء يمس حرية الآخرين أو يسبب لهم أضرارا والمهم في نظرهم هو ممارسة الحرية بمفهومهم وباسلوبهم... وبذلك تجد سائق الميكروباص يقف في أي مكان... وفي أي لحظة. وهذا في نظره ممارسة للحرية, ولكنه سبب خللا خطيرا في الشارع المصري... هذا السائق في نظر الأمن العام بلطجي وإن كان لم يمارس الاعتداء بالسلاح.. وآخرون يفترشون الشوارع في أماكن مرور السيارات واشغال الطريق بالبضائع أو أي نوع من الممارسات.. وهذا في نظرهم حرية... ولكنهم في نظر القانون بلطجية.. ونماذج عديدة من التصرفات يمارسها الآن البشر في بلادنا تحت مسمي الحرية... ولكنها بلطجة. وبذلك فقد توسع مفهوم البلطجة ليشمل كل الأفعال التي من شأنها التأثير علي حرية الآخرين وتسبب لهم أضرارا... (50 جنيها يوميا) ولكن هل البلطجة مدفوعة من فلول النظام السابق؟ اللواء سيد شفيق يؤكد لي أن هناك بعض الاشخاص يقومون بحشد تلك العناصر المتعطلة عن العمل للقيام باعتصام معين أو مظاهرة مقابل50 جنيها في اليوم الواحد لتعزيز موقف لهم أو مطلب. ثم يثير وكيل الأمن العام ظاهرة أخري في غاية الغرابة رصدها الأمن العام ويتعامل معها الآن, ويؤكد براءة البلطجية من عديد من الاتهامات كانت بدايتها عندما تعرضت عربة نقل نقود لمكتب بريد الصف للسطو المسلح وسرقة مليون جنيه كانت تحملها واتهم الموظفون4 بلطجية بالسطو عليهم, وسرقة كل ما تحمله السيارة من أموال.. وبعد التحقيق تبين أن البلطجية أبرياء من التهمة... وأن الموظفين أنفسهم هم السارقون ولكنهم أدخلوا البلطجية في القضية علي أمل الهروب من الجريمة. ونفس الاسلوب يتكرر الآن بصفة يومية, وبالذات مع سيارات النقل الثقيل التي تحمل حمولات ثمينة... ويدعي البلاغ دائما سطو البلطجية علي السيارة وتكتيف السائق وتابعه ثم نقل الحمولة إلي سيارات أخري... حدث ذلك في المنوفية ومدينة السادات والدخيلة, وكل الطرق الدائرية.. وأصبح ذلك يتم بصورة يومية.. وبعد التحقيق يكتشف أن السارق هو سائق السيارة وشركاؤه. الاعتقال هو الحل وعودة إلي ما أنتهي إليه مؤتمر الطب النفسي من التزامات لمواجهة هذه الظاهرة يوجزها د. لطفي الشربيني.. أن البلطجية يختلفون عن المرضي النفسيين وهم حالات غير سوية تتطلب أسلوبا آخر في المواجهة. يشجع تفاقم الظاهرة عدم توقيع العقاب الرادع.. والعدالة البطيئة.. والتأخر في مواجهة الحوادث الفردية حتي تتزايد لتصبح ظاهرة. الوقاية هنا أهم من العلاج, وتبدأ بالاهتمام بالتنشئة لأن الانحراف الذي يصيب الشخصية يبدأ مبكرا... وإذا حدث فإن علاجه لا يكون ممكنا! في بعض البلدان يتم وضع هؤلاء المنحرفين في أماكن تشبه المعتقلات من حيث النظام الصارم, وبها علاج مثل المستشفيات, ويتم تأهيلهم عن طريق تكليفهم ببعض الأعمال الجماعية والانشطة التي تفرغ طاقة العنف لديهم. إذا كان هذا رأي الطب النفسي... فإن للأمن رأيا آخر: أن الداخلية تقوم الآن بتنفيذ خطط لمواجهة البلطجة هكذا بادرني وكيل الأمن العام من خلال حملات ضبطية بالشارع المصري وحملات مبكرة علي عناصر الإجرام وورش تصنيع الأسلحة البيضاء وورش تصنيع السلاح المحلي لقطع الامدادات في الحصول علي السلاح.. وتم ضبط6 آلاف قطعة سلاح في شهر واحد... مع آلاف من الأسلحة البيضاء... كما أن العقوبات الحالية كافية جدا من وجهة نظر الأمن.. ويرفض الأمن تماما تطبيق نظام الاعتقال المقترح إذ أن أجواء الثورة تنادي بالعدالة والمساواة... وليس من العدل أن أقوم بالقبض علي أشخاص باعتبارهم بلطجية وعزلهم وتقييد حريتهم إذ أن ذلك يتعارض مع حقوق الإنسان.