إنشاء وحدات صحية ومدارس وتحسين خدمة المياه.. محطات مهمة ل حياة كريمة بالجيزة    تركيا تعلن رفع العقوبات الأمريكية عن أنقرة المفروضة بسبب شراء "إس-400" الروسية    ألبانيا أول منتخب أوروبي يحجز مقعده في ملحق مونديال 2026    حملة مكبرة لإزالة الإشغالات والتعديات بالشوارع والالتزام بإعلان الأسعار في مرسى علم    رئيس هيئة المتحف الكبير: لا صحة لشائعات منع المصريين.. والزيارة بنظام التوقيتات للجميع    رئيس البورصة: تحديد 5% حد أدنى للاستثمار في الصناديق المفتوحة يزيد من السيولة    هالة فاخر تشعل تريند جوجل بعد ظهورها الصريح مع ياسمين عز وحديثها عن كواليس مشوارها الفني    أمين اتحاد الغرف التجارية: الوفرة والمنافسة تدفعان لاستقرار الأسعار.. وتوقعات بالانخفاض    أسعار الدواجن والبيض في الأسواق اليوم الأحد 16 نوفمبر 2025    استشهاد شاب برصاص الاحتلال فى مخيم عسكر بالضفة الغربية    فيلم شكوى 713317 معالجة درامية هادئة حول تعقيدات العلاقات الإنسانية    رئيس قصور الثقافة يتابع حالة طلاب أسوان المصابين في حادث طريق إسنا    حبس المتهم بسرقة المتاجر في النزهة    رئيس هيئة قصور الثقافة يزور الطلاب المصابين في حادث طريق إسنا بمستشفى طيبة (صور)    وزير الصحة ينفي شائعات نقص الأنسولين: لدينا 3 مصانع واحتياطي استراتيجي يكفي 4 أشهر    رئيس قناة السويس: ارتفاع العائدات 20%.. وتوقعات بقفزة 50% في 2026    حامد حمدان يفضل الأهلي على الزمالك والراتب يحسم وجهته    طقس خريفي مستقر وتحذيرات من الشبورة الكثيفة صباحًا.. الأرصاد تعلن تفاصيل حالة الجو الأحد 16 نوفمبر 2025    "دولة التلاوة".. برنامج قرآني يتصدر الترند ويُحيي أصالة الصوت المصري    وزارة الاستثمار والتجارة الخارجية تستضيف وفدًا من قيادات مجموعة ستاندرد بنك    خالد عبد الغفار: مصر تحقق نجاحات كبيرة جدًا على المستوى الدولي    وزير الصحة: متوسط عمر المصريين زاد 20 عاما منذ الستينيات.. وكل دولار ننفقه على الوقاية يوفر من 3 ل 7 دولارات    دعاية يتبناها الأذرع: "أوبزرفر" و"بي بي سي" و"فورين بوليسي" نماذج لإعلام "إخواني" يهاجم تدخل الإمارات في السودان!    الاحتلال الإسرائيلي يحدد موعد لمحاكمة إمام الأقصى بتهمة التحريض على الإرهاب    مدحت عبد الهادي عن "نعش" محمد صبري: كان خفيف ومتعبش حد فينا    الداخلية تضبط المتهمين بسرقة أبواب حديدية بإحدى المقابر بالشرقية    أسفرت عن إصابة 4 أشخاص.. حبس طرفي مشاجرة في كرداسة    بدون إصابات.. السيطرة على حريق في برج سكني بفيصل    أهلي جدة يبدأ خطوات الحفاظ على ميندي وتجديد العقد    فيران توريس بعد دخوله نادي العظماء: الطموح لا يتوقف مع الماتادور    آسر محمد صبري: والدي جعلني أعشق الزمالك.. وشيكابالا مثلي الأعلى    "ضد الإبادة".. ظهور حمدان والنبريص والدباغ في خسارة فلسطين أمام الباسك    الدفاع الروسية: إسقاط 36 طائرة مسيرة أوكرانية فوق عدة مناطق    عمرو أديب بعد حادث أحمد سعد: واخد عين.. حوادثنا قاتلة رغم الطفرة غير الطبيعية في الطرق    المستشار ضياء الغمرى يحتفل بحفل زفاف نجله محمد علي الدكتورة ندى    العرض العربي الأول لفيلم "كان ياما كان في غزة" فى مهرجان القاهرة السينمائي الدولي    البنك الأهلي المصري يقود تحالفاً مصرفياً لتمويل «مشارق للاستثمار العقاري» بمليار جنيه    قائمة أكبر المتاجر المشاركة في البلاك فرايداي وأسعار لا تُفوَّت    إيران تحذر من تداعيات التحركات العسكرية الأمريكية في منطقة الكاريبي    رئيس الوزراء المجرى: على أوروبا أن تقترح نظاما أمنيا جديدا على روسيا    أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. إسرائيل: لا إعادة إعمار لقطاع غزة قبل نزع سلاح حماس.. قتلى وجرحى فى انزلاق أرضى فى جاوة الوسطى بإندونيسيا.. الجيش السودانى يسيطر على منطقتين فى شمال كردفان    تريزيجيه: اتخذت قرار العودة للأهلي في قمة مستواي    تساقط أمطار خفيفة وانتشار السحب المنخفضة بمنطقة كرموز في الإسكندرية    اختتام المؤتمر العالمي للسكان.. وزير الصحة يعلن التوصيات ويحدد موعد النسخة الرابعة    هل تشفي سورة الفاتحة من الأمراض؟.. داعية توضح| فيديو    مؤتمر السكان والتنمية.. وزير الصحة يشهد إطلاق الأدلة الإرشادية لمنظومة الترصد المبني على الحدث    مؤتمر جماهيري حاشد ل"الجبهة الوطنية " غدا بستاد القاهرة لدعم مرشحيه بانتخابات النواب    (كن جميلًا ترَ الوجودَ جميلًا) موضوع خطبة الجمعة المقبلة    حبس والدى طفلة الإشارة بالإسماعيلية 4 أيام على ذمة التحقيقات    جامعة قناة السويس تنظم ندوة حوارية بعنوان «مائة عام من الحرب إلى السلام»    دعت لضرورة تنوع مصادر التمويل، دراسة تكشف تكاليف تشغيل الجامعات التكنولوجية    أسماء مرشحي القائمة الوطنية لانتخابات النواب عن قطاع القاهرة وجنوب ووسط الدلتا    فرص عمل جديدة بالأردن برواتب تصل إلى 500 دينار عبر وزارة العمل    مواقيت الصلاه اليوم السبت 15نوفمبر 2025 فى المنيا    الإفتاء: لا يجوز العدول عن الوعد بالبيع    إقامة المتاحف ووضع التماثيل فيها جائز شرعًا    دعاء الفجر| اللهم ارزق كل مهموم بالفرج وافتح لي أبواب رزقك    اشتباكات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جماليات الكتابة وأسئلة الوجود عند محمود المسعدي
نشر في نقطة ضوء يوم 20 - 12 - 2011

عرفت القاعة الكبرى لبيت الحكمة بقرطاج التونسية ، وخلال أربعة أيام (13-16ديسمبر 2011) مشمسة على ضفاف أمواج المتوسط التي رست عليها سفن الغزاة والفاتحين والأدباء على مر مئات القرون، مناقشات علمية وثقافية رفيعة المستوى من خلال 30 بحثا ضمن عشر جلسات شارك فيها أدباء ونقاد من تونس والمغرب والجزائر وسوريا وفرنسا وانجلترا والسعودية والأردن ومصر والعراق، ناقشوا خلالها قضايا الثقافة العربية انطلاقا من أسئلة المسعدي وما أثارته مؤلفاته من استدعاءات ملحة .
وفي غياب إيجابي لأي ممثل حكومي ، حيث الانشغال بالترتيبات السياسية بعد ثورة شعبية لم تكتمل ، أشرف الأديب والناقد محمود طرشونة رفقة مجموعة من النقاد التونسيين في الإشراف على هذه الندوة الدولية والتي عرفت ستة محاور هي : أسئلة الوجود ؛ جماليات الكتابة ؛ الذات والآخر ؛أسئلة الثقافة ؛ اللغة والأسلوب ؛ أسئلة المجتمع والأدب . ومن بين المتدخلين بأوراق أمين الزاوي / الجزائر بموضوع (محمود المسعدي نبي الحداثة المعطوبة ) مناقشا أسباب عطب هذه الحداثة التي مارسها إبداعا و رفع لواءها محمود المسعدي في الكتابة السردية و في رؤية الكتابة.متسائلا هل يمكن أن نوصف هذه الأعطاب وخلفياتها التي تقف وراء إخفاق هذا المشروع الحداثي في الكتابة السردية الذي أطلقه محمود المسعدي منذ قبيل الحرب العالمية الثانية.
مستخلصا بعد محاورة عميقة أن العبقرية لا تجيء من بلدان كبيرة في الجغرافية و في عدد السكان، ولعل الربيع العربي كان من إبداع شعب و مثقفي بلد المسعدي، ففي هذا الربيع الذي انطلق من تونس كنا نسمع أصوات غيلان بنزرت و أبي هريرة سيدي بوزيد وريحانة صفاقس وعمران جربة ؛ ولكن هذه المرة سمع الجيل الجديد صوت المسعدي في ثورة أخرى فكانت القاهرة التي تنهض من جديد، قاهرة جديدة بأحفاده الخالدين .
الأديب الفيلسوف
"المسعدي وصفة الأديب الفيلسوف " هو عنوان ورقة مصطفى الكيلاني/ تونس ، والذي افتتح ورقته بما الّذي قُرئ من محمود المسعدي و ما الّذي لم يُقرَأ بَعْد إلى الآن ؟ لينطلق الباحث في النظر في المُشترك بين الصفتيْن عند الإشارة بَدْءًا إلى ارتكاز كُلّ من الصفتيْن على الأخرى، شأن أدباء فلاسفة أو فلاسفة أدباء أربكوا كُلاّ من روح الكتابة الأدبية سواء كانت شعرا أوْ سَرْدًا مِثلما أربكوا النسق الّذي به تُعْرف أو تُعَرّف الفلسفة " كالوليمة " لأفلاطون " وميدي " لِسنيكا و لزوميّات أبي العلاء المعرّي و " كذلك تحدث زرادشت" لفريديريك نيتشه، على سبيل المثال لا الحصر.
فَبِم يُحدُّ هذا المُشترك الأدبيّ و الفلسفيّ في أعمال المسعدي الإبداعيّة؟ كيف يغتذي الأدب من الفلسفة والفلسفة من الأدب، بضرْبٍ من إبداعيّة النّص المُختلف و نسقّية الفكر المُضْمرة وراء تداعيات الحال الكاتبة الحائرة الملتذّة أحيانا كثيرةً بعذاباتها قريبا ربّما من اليأس الآمل، إذا جازت العبارة، أو الأمل اليائس في المُشترك القائم بين كُلّ من آرتر شوبنهاور و فريدريك نيتشه، على وجه الخصوص ، حَسَب قراءة محمود المسعدي لَهُمَا ؟
أما خالد الغريبي/ صفاقس فتدخل في موضوع " مغامرة السؤال الوجودي في تجربة المسعدي الإبداعية والفكرية" متحدثا في ستة مباحث هي : قيمة الفرد في نحت الكيان - حدود المعرفة ومعرفة الحدود - السيرورة الدلالية وإنتاج المعنى - اللغة :سؤال الذات / سؤال الوجود - وجودية المسعدي وفعل المغايرة: مساءلة لفكره - الكتابة فعل تأصيل للكيان واستشراف للآفاق.
وخلص في النهاية إلى أن أدب المسعدي لا يمكن أن يفنى ويبيد على وجه الدهر لأنه قادر على إفناء الزمن بالحركة التي عنها يتولّد، حركة السؤال الدائم عن جوهر ما نكتب وجوهر ما نعيش
وفي بحثه " البحث عن المعنى قراءة في الفضاء الرّوائي في "حدّث أبو هريرة قال " تحدث عادل خضر / تونس قائلا بأن ورقته تطمح إلى تجديد مسالك التّأويل الأدبي بصفة عامّة، واقتراح سبل مختلفة في قراءة أدب المسعدي. من هذه السّبل الفضاء، أو المسلك الفضائي الّذي ينهض عندنا على المسلّمة التّالية: «أن يعرف "الأنا" "من يكون؟" هو أن يكون قادرا على أن يعرف "أين يكون؟"». وهذا الاختبار تحكمه فرضيّة قد وجّهت التأويل لهذا الأثر، وهي أنّ هذه الرّواية تعرض من خلال مغامرة بطلها أبو هريرة بحثا مضنيا عن المعنى بالبحث المستمرّ عن المكان أو الأرض أو الموضع الّذي يمكن فيه للبطل أن يعرف "مَنْ يكون" بمعرفة "أين يكون". قراءة تّأويليّة محكومة بمعطيات نابعة من النّصّ ذاته، فتصبح هي بدورها بحثا لا يني عن المعنى.
ومن الأردن قدم فخري صالح ورقة في موضوع " المسعدي وتهجين الشكل الروائي الأوروبي بالموروث العربي: إعادة نظر في مفهوم الأدب العالمي" ،موضحا أن توجه المسعدي لاستلهام التراث كان على خلفية شعوره الوطني والقومي، ورغبته في مقاومة الهيمنة الحضارية والثقافية، من خلال العودة إلى الجذور، والتمسك باللغة والثقافة اللتين تعرضتا لمحاولة الاقتلاع على يد المستعمر الفرنسي
إنه مشروع تأصيل سردي يحمل رسالة سياسية ثقافية وحضارية، يتمسك بالجذور لكنه في الوقت نفسه يبحث عن موضع الكائن الإنساني في الوجود، ساعيا إلى كتابة رحلة الإنسان في هذا العالم. لكن جوهر رسالة المسعدي يكمن أيضا في فتحه الأنواع على بعضها، مزيلا الحدود بينها، مذوبا الفواصل والعوائق التي ابتدعتها نظرية الأنواع الغربية، لكتابة نص مفتوح قابل لكل شكل ومستخدما أساليب متعددة أغلبها مأخوذ من التراث العربي، من خلال الإنشاء على هيئة النص القرآني، واستخدام لغة التعزيم الأسطورية، واستخدام طرق رواية الحديث المتواتر، في نص سردي، والمحاكاة الساخرة للموروث.
وفي "مقاربة سردية لحدث أبو هريرة " تطرق السعيد بوطاجين / مستغانم الجزائر عن كون كتاب:"حدّث أبو هريرة قال"، يتأسس على أنساق سردية مخصوصة مقارنة بالمتواتر في السرديات الجديدة. و يأتي العدول عن المعيار كسمة غالبة، و علامة فارقة في التجربتين المغاربية والعربية، ما يجعله جهدا استثنائيا له مسوغاته البنائية و الجمالية والمعجمية و الفكرية، الظاهرة منها والمسكوت عنها.
لقد جاء النص بأدواته و بالأدوات الغيرية التي تجلت في شكل أصداء تناصات و أقنعة وسنن تستدعي مراعاة كيفية السرد و لمياته، لأنّ هذا الخيار ليس ترفا ذهنيا يراد به التميز عن الآخر للتسلي و التفكه، دون مقاصد وظيفية تبرّر الأشكال السردية التي تمّ الاتكاء عليها لتمرير مجموع البلاغات.
و لعلّ هذه "البينية" هي مقصده القاعدي، لأنّ المجاورات و التماسات السردية تحيل على طبيعة الجهد، حتى في إنتاجها لدلالات مفارقة للأصل و للأنوية المنقولة، و مردّ ذلك مساءلة الوضع باستثماره و معاودة تشكيله من أجل بديل، أصيل و مختلف، قديم و جديد.
مداخلة محمود طرشونة/ تونس، جاءت لتضيء تحولات أسطورة أساف ونائلة وتوظيفها في أدب المسعدي ، مُعرفا في البداية بالأسطورة ثم الانتقال إلى حكاية أساف ونائلة كما وردت في كتاب الأصنام لابن الكلبي قبل مقاربتها في أدب المسعدي من خلال حدث أبو هريرة قال ونص السد ، باحثا في التحويلات الإبداعية والثقافية ، معيدا بذلك قراءة القراءة المسعدية وتوظيفها للأسطورة بنَفَس جديد ومبدعا في علاقات دلالية جديدة تنتمي إلى ألقه الفكري وفلسفته المتداخلة الأبعاد .
وحول " المناوبة السردية في "حدّث أبو هريرة قال"-استنطاق وتأويل-" تدخل عبدالله ابراهيم/ العراق ، قائلا أن رواية" حدّث أبو هريرة قال" اقترحت شبكة معقّدة للعالم السرديّ الذي يتناهبه الرواة والشخصيات، وراحوا يتنازعون فيما بينهم للاستئثار به نسجًا وتركيبًا وتنظيمًا، فلم يبق البناء التقليديّ للحكاية مثار اهتمام الكاتب، إنّما توزّع الاهتمام على بناء الحكاية المتخيّلة، وعلى عناصرها من شخصيّات وأحداث وأزمنة وأمكنة، بل وتخطّى ذلك إلى قضيّة المتلقّي، فأصبحت الحكاية والسياق الحاضن لها موضوعًا عالجه النص باعتباره من المكوّنات السرديّة، وقد حالت هذه التقنيّة دون الاستغراق في العالم المتخيّل، ودفعت بالمتلقّي لمساءلة النصّ من داخله إلى ذلك فقد كشفت هذه التقنيّة أنّ بناء العوالم السرديّة لا يجري في حياد وبراءة وشفافية، إنّما هو جزء من عمليّة تركيب يتولّى أمرها المؤلّفون بوساطة الرواة، فلا يكتفي برواية الأحداث، إنّما يتجاوزها إلى البحث في طرائق تركيبها.
وفي تحليل لنص "مولد النسيان " درس علي جعفر العلاق / العراق " شعرية السرد في أدب المسعدي " قائلا بأن ما يكتبه محمود المسعدي كله، أو معظمه على الأقل، هو ابن الحيرة، يتولّد عنها، ويغترف من صميمها موضوعاته وأساليبه. هذا الأدب الذي هو ابن الحيرة، كما قلت، لا يستجيب ، تماماً، إلى تسمية بذاتها، أو تصنيف نطمئن إلى صوابه حتى النهاية فالمساحة التي يتحرك فيها هذا الأدب العالي مساحة مضببة، مختلطة، شديدة المكر والروغان.
وهذه الحالة لا تجد تفسيرها المقنع في تداخل الأجناس وحده. بل تنبثق من خيوط اللعبة الكتابية كلّها، سدىً ولحمة، وهي تنطلق من ذات ريانة، مبهرة: تنفتح على الماضي بشراهة ، ويدفعها إلى العصر شغف موجع لا يعرف الارتواء.
ومن هذه العجينة الحارة يشكل محمود المسعدي هذا الأفق الكتابي الرفيع، الذي تتضافر عناصره للوصول إلى شعرية خاصة تمثل جملة من المرتكزات المشتركة. وأنا، هنا، سأتوقف عند نموذجٍ واحد من أدب المسعدي، أراه،كأيّ عمل آخر من أعماله، يمثل هذه المرتكزات بتجانس بالغ الجمال.
تجنيس أعمال المسعدي
مثلما تدخل محمد عز الدين التازي/ طنجة - المغرب ، بورقة عنوانها " التجنيس وتشكيل الخطاب " مثيرا مجموعة من القضايا تتعلق بمسألة التجنيس في أعمال محمود المسعدي ؛ فبعد المقدمة المنهجية ، تعرض التازي لثلاث رؤى وجد أنها هي التي تهيمن على أعمال المسعدي : الأولى أسماها الرؤيا الأسطورية في السد ، والثانية أطلق عليها الرؤيا التراثية في "حدث أبو هريرة قال" ؛ أما الثالثة فعنونها بالرؤيا القيامية في " مولد النسيان" ، متلمسا من هذه الرؤى طرائق تشكيل الخطاب وعلاقتها بالتجنيس إذ وجد أن المسعدي لم يكتب على نموذج سابق ، وأعماله لا تخضع للتصنيفات التجنسية المعروفة .ثم ختم محمد عز الدين التازي مداخلته بتقديم جملة من الخصائص والسمات التي تتمظهر بها تجربة محمود المسعدي الإبداعية .
أما صبري حافظ /مصر فقد قارب بوعي مقارن بين مئوية المسعدي ومئوية نجيب محفوظ من خلال السؤال الأجناسي دارسا محتوى الشكل / الجنس الأدبي وسياقات تلقيه .
أما سعيد يقطين/ الرباط – المغرب ، فقد عمل على ربط مداخلته " الإصلاح الثقافي في مشروع محمود المسعدي الثقافي" حول المسعدي بما يشهده العالم العربي من تحولات نجمت عن الربيع العربي. فطرح أسئلة عن دور العمل الثقافي في هذا التحول، وانتهى إلى ضرورة إعادة قراءة التراث الثقافي الذي تراكم خلال القرن العشرين، بهدف ربط الحراك العربي الاجتماعي بحراك ثقافي يسهم في تعميق الأسئلة وفتح النقاش حول الواقع الثقافي العربي. ثم انتقل بعد ذلك إلى الحديث عن المسعدي ودوره في بلورة رؤية ثقافية متكاملة، تتميز بتجاوزها الثنائيات المتداولة حول الأصالة والمعاصرة، بتأكيده على ما أسماه يقطين ب"الذاتية الإنسانية" التي يتأصل كيانها الخاص في صلته العميقة بما هو إنساني. وتوقف على ربط المسعدي المسألة الثقافية بالأدب الذي يرى ذا بعد إنساني، وإلا فليس جديرا بأن يكون أدبا.
ولامس بطرس الحلاق/ سوريا - باريس موضوعا راهنيا في البحث عن صورة المسعدي كمثقف، منقبا في ثورة المجتمع المدني الراهنة بتونس انطلاقا مما أوحت له به نصوصه ومقالاته.
وفي موضوع حول الحركة في "حدث أبو هريرة " عالج صلاح الدين بوجاه/ تونس الحركة باعتبارها ضروب وأحوال، منها ما ندركه من خلال تقبلنا المعنى، ومنها ما ينبع من إحساسنا بأن وحدات النص تحيل على بعضها البعض، ومنها ما نقع عليه أثناء تفاعلنا مع إيقاعه، إذ نكون إزاء حركة موصولة بالأسلوب.فالحركة تصدر عن موسيقى الجمل في بناء فقرات النص وتناميها ، كما تنبع من تعدد المعاجم وتنوعها. من مجال اللقيا هذا ينبثق سبيلان :
- حركة البنية: في التجاذب الممكن بين وحدات النص، عتباته وخواتمه.
- حركة المخيال، بمعاجمها المتراكبة .
وخلص بعد التحليل أنه يعسر الإقرار بأن نص المسعدي نص قديم، هو يقض مضجع الناقد والسارد معا ، وهو يعمل على أن يورثنا حركة جارية كالماء، لا تعرف التوقف، لأنها تظل عاوية تهيم مثل الصدى الهارب نحو الأمام.
وتناول شعيب حليفي/الدارالبيضاء – المغرب، في ورقته " الثقافة والمجتمع في أدب المسعدي " تمهيدا تحدث فيه عن الإبداع المغاربي والإشكالات التي يطرحها ضمن النسق الثقافي وتواتر الحلم بالتحرر وبناء المجتمع وامتلاك الثقافة وأيضا الإحساس بتجدر العطب التاريخي وتجلياته في الخيبة والانكسار .
وحول أدب المسعدي عالج شعيب حليفي الموضوع ضمن خمسة محاور ناقش خلالها تمثل المسعدي لصورتيْ المثقف والمجتمع ويخلص إلى أن نصوصه تحفل بالأسئلة أكثر من بحثها عن الأجوبة ؛ وهو الذي يستلهم ويفرك ما يجده من بديهيات حول الوجود الإنساني والإرادة والحياة والموت والحرية والزمان والمسؤولية والحية والشك واليقين والمطلق والنسبي ، من جهة ؛ ومن جهة ثانية فالكاتب يشتغل على قطبين ظاهرين ينتميان إلى التخييل المحض والفكر الممتد في التأمل والتفلسف .القطبان هما ما هو تراثي وما هو حداثي ..وعبرهما يتدبر تأملات ضمن برامج تتماس مع التاريخي والأسطوري مُحيلة في شبكات مرموزة ومجازية على الديني ، وهو في كل هذا يزاوج بين النجوى الذاتية والتأملات الفكرية والفلسفية بلغة تفيض قوة وسلطة ومراوغة لتعبر عن محور المأساة والمعاناة والخيبة .
إن الرواية عند محمود المسعدي – يختتم شعيب حليفي – هي بحث وخلق يُنتج مواد تخييلية ذات حيوية في الدلالة والمعنى بخلفيات ممتلئة بالثقافي والمجتمعي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.