السيسي يستقبل وزير الدفاع ويشهد اختبارات كشف الهيئة لحاملي الدكتوراه من دعاة الأوقاف    عن اقتصاد السّوق واقتصاديات السُّوء    الكرة الإفريقية.. حقيقة الخريطة    ضبط 55 كجم لحوم بلدية غير صالحة للاستهلاك الآدمي بالمنوفية    متحف الموت.. موت المتحف.. مرثية تراث القرافة فى مصر    إعلام إسرائيلي: المصادقة على مخطط لبناء 509 وحدات استيطانية جديدة بالخليل    نقابة الإعلاميين تلغي تصريح مزاولة المهنة لمقدم برامج بسبب جريمة مخلة بالشرف    ضبط عامل أطلق أعيرة نارية احتفالًا بفوز مرشح فى انتخابات قنا    4 وزراء يتحدثون عن «معركة الوعى».. أدوار متكاملة لبناء الإنسان وحماية الدولة    مصطفى عمار ل الستات: صحف ومواقع المتحدة تلتزم بالأكواد الأخلاقية والمهنية    كاريكاتير اليوم السابع يحيى ذكرى ميلاد كوكب الشرق أم كلثوم    خالد الجندي: الله يُكلم كل عبد بلغته يوم القيامة.. فيديو    الإفتاء: إن التهنئة بالعام الجديد جائزة شرعًا    وزير الصحة يتابع تنفيذ خطة التأمين الطبي لاحتفالات رأس السنة وأعياد الميلاد المجيد    وزير الصحة يتابع تنفيذ خطة التأمين الطبي لاحتفالات رأس السنة    خروج 69 ألفا من إسرائيل خلال 2025.. إحصاء للاحتلال يكشف التفاصيل    وكيل صحة الدقهلية يكشف ل"فيتو" خطة تأمين احتفالات رأس السنة وخريطة العيادات المتنقلة    حصاد 2025| نتائج مخيّبة ل كهرباء الإسماعيلية.. ودع الكأس ويصارع الهبوط    بشرى سارة لأهالي أبو المطامير: بدء تنفيذ مستشفي مركزي على مساحة 5 أفدنة    محافظ القليوبية يبحث إجراءات تحويل قرية القلج وتوابعها بمركز الخانكة إلى مدينة مستقلة    جامعة العاصمة تنظم الاحتفالية السابعة للبحث العلمي لعام 2025    المحكمة العربية للتحكيم تطلق ملتقى الوعي الوطني لشباب الصعيد    محافظ المنيا يتابع تقرير قطاع مديرية الطرق والنقل لعام 2025    الحكم على 60 معلمًا بمدرسة بالقليوبية بتهمة ارتكاب مخالفات مالية وإدارية    إنجازات التجديف في 2025، ميدالية عالمية ومناصب دولية وإنجازات قارية    بيت الزكاة والصدقات يعلن دخول القافلة الإغاثية 13 لغزة عبر منفذ رفح فجر اليوم    رئيس جامعة المنوفية يتابع امتحانات الفصل الدراسي الأول بكلية العلوم    «التضامن»: تسليم 567 طفلًا لأسر بديلة وتطبيق حوكمة صارمة لإجراءات الكفالة    مستشفى إبشواي المركزي بالفيوم يطلق مبادرة "المضاد الحيوي ليس حلا"    عاجل- مجلس الوزراء يوافق على تخصيص قطع أراضٍ للبيع بالدولار لشركات محلية وأجنبية    تعرف على سعر الدولار مقابل الجنيه فى البنوك    ذات يوم 31 ديسمبر 1915.. السلطان حسين كامل يستقبل الطالب طه حسين.. اتهامات لخطيب الجمعة بالكفر لإساءة استخدامه سورة "عبس وتولى" نفاقا للسلطان الذى قابل "الأعمى"    حصاد 2025| ألعاب صالات الزمالك تخرج بخفي حنين.. والطائرة تحفظ ماء الوجه    أبرز إيرادات دور العرض السينمائية أمس الثلاثاء    بنهاية 2025.. الاحتلال يسيطر على نحو 55% من مساحة غزة ويدمر 90% من البنية العمرانية في القطاع    تصعيد إسرائيلي شمال غزة يدفع العائلات الفلسطينية للنزوح من الحي الشعبي    مدبولي يوجه بسرعة الانتهاء من الأعمال المتبقية بمشروعات «حياة كريمة»    اجتماع مفاجئ بين الرئيس السيسي والقائد العام للقوات المسلحة    ننشر آخر تطورات سعر الذهب اليوم الأربعاء 31 ديسمبر .. عيار 24 ب6668 جنيها    محمود عباس: الدولة الفلسطينية المستقلة حقيقة حتمية وغزة ستعود إلى حضن الشرعية الوطنية    حصاد 2025| منتخب مصر يتأهل للمونديال ويتألق في أمم أفريقيا.. ووداع كأس العرب النقطة السلبية    وزارة الصحة: صرف الألبان العلاجية للمصابين بأمراض التمثيل الغذائى بالمجان    القنوات المجانية الناقلة لمباراة الجزائر وغينيا الاستوائية في أمم أفريقيا    الرقابة المالية تقر تجديد وقيد 4 وكلاء مؤسسين بالأنشطة المالية غير المصرفية    نور النبوى ضيف برنامج فضفضت أوى مع معتز التونى على Watch it اليوم    المركز القومي للمسرح يطلق مبادرة 2026.. عام الفنانين المعاصرين    الإثنين.. مؤتمر صحفي للكشف عن تفاصيل مهرجان المسرح العربي    محافظ الجيزة يهنئ الرئيس السيسي بحلول العام الميلادي الجديد    الأرصاد: طقس شديد البرودة صباحًا ومائل للدفء نهارًا    إصابة 8 عاملات في حادث انقلاب ميكروباص بالطريق الصحراوي القاهرة–الإسكندرية بالبحيرة    رابط التقديم للطلاب في المدارس المصرية اليابانية للعام الدراسي 2026/2027.. يبدأ غدا    ضبط 150 كيلو لحوم وأحشاء غير صالحة للاستهلاك الآدمي ببنها    عضو اتحاد الكرة: هاني أبوريدة أخرج أفضل نسخة من حسام حسن في أمم إفريقيا بالمغرب    أمم إفريقيا - كاف يقرر تغريم قائد بوركينا فاسو بسبب تصريحاته ضد الحكام    استهدف أمريكيين أصليين وخط مياه.. تفاصيل فيتو ترامب الأول بالولاية الثانية    محافظ أسيوط: عام 2025 شهد تقديم أكثر من 14 مليون خدمة طبية للمواطنين بالمحافظة    "هتعمل إيه في رأس السنة"؟.. هادعي ربنا يجيب العواقب سليمة ويرضي كل انسان بمعيشته    نتنياهو: عواقب إعادة إيران بناء قدراتها وخيمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جماليات الكتابة وأسئلة الوجود عند محمود المسعدي
نشر في صوت البلد يوم 20 - 12 - 2011

عرفت القاعة الكبرى لبيت الحكمة بقرطاج التونسية ، وخلال أربعة أيام (13-16ديسمبر 2011) مشمسة على ضفاف أمواج المتوسط التي رست عليها سفن الغزاة والفاتحين والأدباء على مر مئات القرون، مناقشات علمية وثقافية رفيعة المستوى من خلال 30 بحثا ضمن عشر جلسات شارك فيها أدباء ونقاد من تونس والمغرب والجزائر وسوريا وفرنسا وانجلترا والسعودية والأردن ومصر والعراق، ناقشوا خلالها قضايا الثقافة العربية انطلاقا من أسئلة المسعدي وما أثارته مؤلفاته من استدعاءات ملحة . وفي غياب إيجابي لأي ممثل حكومي ، حيث الانشغال بالترتيبات السياسية بعد ثورة شعبية لم تكتمل ، أشرف الأديب والناقد محمود طرشونة رفقة مجموعة من النقاد التونسيين في الإشراف على هذه الندوة الدولية والتي عرفت ستة محاور هي : أسئلة الوجود ؛ جماليات الكتابة ؛ الذات والآخر ؛أسئلة الثقافة ؛ اللغة والأسلوب ؛ أسئلة المجتمع والأدب .
ومن بين المتدخلين بأوراق أمين الزاوي / الجزائر بموضوع (محمود المسعدي نبي الحداثة المعطوبة ) مناقشا أسباب عطب هذه الحداثة التي مارسها إبداعا و رفع لواءها محمود المسعدي في الكتابة السردية و في رؤية الكتابة.متسائلا هل يمكن أن نوصف هذه الأعطاب وخلفياتها التي تقف وراء إخفاق هذا المشروع الحداثي في الكتابة السردية الذي أطلقه محمود المسعدي منذ قبيل الحرب العالمية الثانية.
مستخلصا بعد محاورة عميقة أن العبقرية لا تجيء من بلدان كبيرة في الجغرافية و في عدد السكان، ولعل الربيع العربي كان من إبداع شعب و مثقفي بلد المسعدي، ففي هذا الربيع الذي انطلق من تونس كنا نسمع أصوات غيلان بنزرت و أبي هريرة سيدي بوزيد وريحانة صفاقس وعمران جربة ؛ ولكن هذه المرة سمع الجيل الجديد صوت المسعدي في ثورة أخرى فكانت القاهرة التي تنهض من جديد، قاهرة جديدة بأحفاده الخالدين .
الأديب الفيلسوف
"المسعدي وصفة الأديب الفيلسوف " هو عنوان ورقة مصطفى الكيلاني/ تونس ، والذي افتتح ورقته بما الّذي قُرئ من محمود المسعدي و ما الّذي لم يُقرَأ بَعْد إلى الآن ؟ لشينطلق الباحث في النظر في المُشترك بين الصفتيْن عند الإشارة بَدْءًا إلى ارتكاز كُلّ من الصفتيْن على الأخرى، شأن أدباء فلاسفة أو فلاسفة أدباء أربكوا كُلاّ من روح الكتابة الأدبية سواء كانت شعرا أوْ سَرْدًا مِثلما أربكوا النسق الّذي به تُعْرف أو تُعَرّف الفلسفة " كالوليمة " لأفلاطون " وميدي " لِسنيكا و لزوميّات أبي العلاء المعرّي و " كذلك تحدث زرادشت" لفريديريك نيتشه، على سبيل المثال لا الحصر.
فَبِم يُحدُّ هذا المُشترك الأدبيّ و الفلسفيّ في أعمال المسعدي الإبداعيّة؟ كيف يغتذي الأدب من الفلسفة والفلسفة من الأدب، بضرْبٍ من إبداعيّة النّص المُختلف و نسقّية الفكر المُضْمرة وراء تداعيات الحال الكاتبة الحائرة الملتذّة أحيانا كثيرةً بعذاباتها قريبا ربّما من اليأس الآمل، إذا جازت العبارة، أو الأمل اليائس في المُشترك القائم بين كُلّ من آرتر شوبنهاور و فريدريك نيتشه، على وجه الخصوص ، حَسَب قراءة محمود المسعدي لَهُمَا ؟
أما خالد الغريبي/ صفاقس فتدخل في موضوع " مغامرة السؤال الوجودي في تجربة المسعدي الإبداعية والفكرية" متحدثا في ستة مباحث هي : قيمة الفرد في نحت الكيان - حدود المعرفة ومعرفة الحدود - السيرورة الدلالية وإنتاج المعنى - اللغة :سؤال الذات / سؤال الوجود - وجودية المسعدي وفعل المغايرة: مساءلة لفكره - الكتابة فعل تأصيل للكيان واستشراف للآفاق.
وخلص في النهاية إلى أن أدب المسعدي لا يمكن أن يفنى ويبيد على وجه الدهر لأنه قادر على إفناء الزمن بالحركة التي عنها يتولّد، حركة السؤال الدائم عن جوهر ما نكتب وجوهر ما نعيش
وفي بحثه " البحث عن المعنى قراءة في الفضاء الرّوائي في "حدّث أبو هريرة قال " تحدث عادل خضر / تونس قائلا بأن ورقته تطمح إلى تجديد مسالك التّأويل الأدبي بصفة عامّة، واقتراح سبل مختلفة في قراءة أدب المسعدي. من هذه السّبل الفضاء، أو المسلك الفضائي الّذي ينهض عندنا على المسلّمة التّالية: «أن يعرف "الأنا" "من يكون؟" هو أن يكون قادرا على أن يعرف "أين يكون؟"». وهذا الاختبار تحكمه فرضيّة قد وجّهت التأويل لهذا الأثر، وهي أنّ هذه الرّواية تعرض من خلال مغامرة بطلها أبو هريرة بحثا مضنيا عن المعنى بالبحث المستمرّ عن المكان أو الأرض أو الموضع الّذي يمكن فيه للبطل أن يعرف "مَنْ يكون" بمعرفة "أين يكون". قراءة تّأويليّة محكومة بمعطيات نابعة من النّصّ ذاته، فتصبح هي بدورها بحثا لا يني عن المعنى.
ومن الأردن قدم فخري صالح ورقة في موضوع " المسعدي وتهجين الشكل الروائي الأوروبي بالموروث العربي: إعادة نظر في مفهوم الأدب العالمي" ،موضحا أن توجه المسعدي لاستلهام التراث كان على خلفية شعوره الوطني والقومي، ورغبته في مقاومة الهيمنة الحضارية والثقافية، من خلال العودة إلى الجذور، والتمسك باللغة والثقافة اللتين تعرضتا لمحاولة الاقتلاع على يد المستعمر الفرنسي
إنه مشروع تأصيل سردي يحمل رسالة سياسية ثقافية وحضارية، يتمسك بالجذور لكنه في الوقت نفسه يبحث عن موضع الكائن الإنساني في الوجود، ساعيا إلى كتابة رحلة الإنسان في هذا العالم. لكن جوهر رسالة المسعدي يكمن أيضا في فتحه الأنواع على بعضها، مزيلا الحدود بينها، مذوبا الفواصل والعوائق التي ابتدعتها نظرية الأنواع الغربية، لكتابة نص مفتوح قابل لكل شكل ومستخدما أساليب متعددة أغلبها مأخوذ من التراث العربي، من خلال الإنشاء على هيئة النص القرآني، واستخدام لغة التعزيم الأسطورية، واستخدام طرق رواية الحديث المتواتر، في نص سردي، والمحاكاة الساخرة للموروث.
وفي "مقاربة سردية لحدث أبو هريرة " تطرق السعيد بوطاجين / مستغانم الجزائر عن كون كتاب:"حدّث أبو هريرة قال"، يتأسس على أنساق سردية مخصوصة مقارنة بالمتواتر في السرديات الجديدة. و يأتي العدول عن المعيار كسمة غالبة، و علامة فارقة في التجربتين المغاربية والعربية، ما يجعله جهدا استثنائيا له مسوغاته البنائية و الجمالية والمعجمية و الفكرية، الظاهرة منها والمسكوت عنها.
لقد جاء النص بأدواته و بالأدوات الغيرية التي تجلت في شكل أصداء تناصات و أقنعة وسنن تستدعي مراعاة كيفية السرد و لمياته، لأنّ هذا الخيار ليس ترفا ذهنيا يراد به التميز عن الآخر للتسلي و التفكه، دون مقاصد وظيفية تبرّر الأشكال السردية التي تمّ الاتكاء عليها لتمرير مجموع البلاغات. و لعلّ هذه "البينية" هي مقصده القاعدي، لأنّ المجاورات و التماسات السردية تحيل على طبيعة الجهد، حتى في إنتاجها لدلالات مفارقة للأصل و للأنوية المنقولة، و مردّ ذلك مساءلة الوضع باستثماره و معاودة تشكيله من أجل بديل، أصيل و مختلف، قديم و جديد.
مداخلة محمود طرشونة/ تونس، جاءت لتضيء تحولات أسطورة أساف ونائلة وتوظيفها في أدب المسعدي ، مُعرفا في البداية بالأسطورة ثم الانتقال إلى حكاية أساف ونائلة كما وردت في كتاب الأصنام لابن الكلبي قبل مقاربتها في أدب المسعدي من خلال حدث أبو هريرة قال ونص السد ، باحثا في التحويلات الإبداعية والثقافية ، معيدا بذلك قراءة القراءة المسعدية وتوظيفها للأسطورة بنَفَس جديد ومبدعا في علاقات دلالية جديدة تنتمي إلى ألقه الفكري وفلسفته المتداخلة الأبعاد .
وحول " المناوبة السردية في "حدّث أبو هريرة قال"-استنطاق وتأويل-" تدخل عبدالله ابراهيم/ العراق ، قائلا أن رواية" حدّث أبو هريرة قال" اقترحت شبكة معقّدة للعالم السرديّ الذي يتناهبه الرواة والشخصيات، وراحوا يتنازعون فيما بينهم للاستئثار به نسجًا وتركيبًا وتنظيمًا، فلم يبق البناء التقليديّ للحكاية مثار اهتمام الكاتب، إنّما توزّع الاهتمام على بناء الحكاية المتخيّلة، وعلى عناصرها من شخصيّات وأحداث وأزمنة وأمكنة، بل وتخطّى ذلك إلى قضيّة المتلقّي، فأصبحت الحكاية والسياق الحاضن لها موضوعًا عالجه النص باعتباره من المكوّنات السرديّة، وقد حالت هذه التقنيّة دون الاستغراق في العالم المتخيّل، ودفعت بالمتلقّي لمساءلة النصّ من داخله إلى ذلك فقد كشفت هذه التقنيّة أنّ بناء العوالم السرديّة لا يجري في حياد وبراءة وشفافية، إنّما هو جزء من عمليّة تركيب يتولّى أمرها المؤلّفون بوساطة الرواة، فلا يكتفي برواية الأحداث، إنّما يتجاوزها إلى البحث في طرائق تركيبها.
وفي تحليل لنص "مولد النسيان " درس علي جعفر العلاق / العراق " شعرية السرد في أدب المسعدي " قائلا بأن ما يكتبه محمود المسعدي كله، أو معظمه على الأقل، هو ابن الحيرة، يتولّد عنها، ويغترف من صميمها موضوعاته وأساليبه. هذا الأدب الذي هو ابن الحيرة، كما قلت، لا يستجيب ، تماماً، إلى تسمية بذاتها، أو تصنيف نطمئن إلى صوابه حتى النهاية فالمساحة التي يتحرك فيها هذا الأدب العالي مساحة مضببة، مختلطة، شديدة المكر والروغان.
وهذه الحالة لا تجد تفسيرها المقنع في تداخل الأجناس وحده. بل تنبثق من خيوط اللعبة الكتابية كلّها، سدىً ولحمة، وهي تنطلق من ذات ريانة، مبهرة: تنفتح على الماضي بشراهة ، ويدفعها إلى العصر شغف موجع لا يعرف الارتواء.
ومن هذه العجينة الحارة يشكل محمود المسعدي هذا الأفق الكتابي الرفيع، الذي تتضافر عناصره للوصول إلى شعرية خاصة تمثل جملة من المرتكزات المشتركة. وأنا، هنا، سأتوقف عند نموذجٍ واحد من أدب المسعدي، أراه،كأيّ عمل آخر من أعماله، يمثل هذه المرتكزات بتجانس بالغ الجمال.
تجنيس أعمال المسعدي
مثلما تدخل محمد عز الدين التازي/ طنجة - المغرب ، بورقة عنوانها " التجنيس وتشكيل الخطاب " مثيرا مجموعة من القضايا تتعلق بمسألة التجنيس في أعمال محمود المسعدي ؛ فبعد المقدمة المنهجية ، تعرض التازي لثلاث رؤى وجد أنها هي التي تهيمن على أعمال المسعدي : الأولى أسماها الرؤيا الأسطورية في السد ، والثانية أطلق عليها الرؤيا التراثية في "حدث أبو هريرة قال" ؛ أما الثالثة فعنونها بالرؤيا القيامية في " مولد النسيان" ، متلمسا من هذه الرؤى طرائق تشكيل الخطاب وعلاقتها بالتجنيس إذ وجد أن المسعدي لم يكتب على نموذج سابق ، وأعماله لا تخضع للتصنيفات التجنسية المعروفة .ثم ختم محمد عز الدين التازي مداخلته بتقديم جملة من الخصائص والسمات التي تتمظهر بها تجربة محمود المسعدي الإبداعية .
أما صبري حافظ /مصر فقد قارب بوعي مقارن بين مئوية المسعدي ومئوية نجيب محفوظ من خلال السؤال الأجناسي دارسا محتوى الشكل / الجنس الأدبي وسياقات تلقيه .
أما سعيد يقطين/ الرباط – المغرب ، فقد عمل على ربط مداخلته " الإصلاح الثقافي في مشروع محمود المسعدي الثقافي" حول المسعدي بما يشهده العالم العربي من تحولات نجمت عن الربيع العربي. فطرح أسئلة عن دور العمل الثقافي في هذا التحول، وانتهى إلى ضرورة إعادة قراءة التراث الثقافي الذي تراكم خلال القرن العشرين، بهدف ربط الحراك العربي الاجتماعي بحراك ثقافي يسهم في تعميق الأسئلة وفتح النقاش حول الواقع الثقافي العربي. ثم انتقل بعد ذلك إلى الحديث عن المسعدي ودوره في بلورة رؤية ثقافية متكاملة، تتميز بتجاوزها الثنائيات المتداولة حول الأصالة والمعاصرة، بتأكيده على ما أسماه يقطين ب"الذاتية الإنسانية" التي يتأصل كيانها الخاص في صلته العميقة بما هو إنساني. وتوقف على ربط المسعدي المسألة الثقافية بالأدب الذي يرى ذا بعد إنساني، وإلا فليس جديرا بأن يكون أدبا.
ولامس بطرس الحلاق/ سوريا - باريس موضوعا راهنيا في البحث عن صورة المسعدي كمثقف، منقبا في ثورة المجتمع المدني الراهنة بتونس انطلاقا مما أوحت له به نصوصه ومقالاته.
وفي موضوع حول الحركة في "حدث أبو هريرة " عالج صلاح الدين بوجاه/ تونس الحركة باعتبارها ضروب وأحوال، منها ما ندركه من خلال تقبلنا المعنى، ومنها ما ينبع من إحساسنا بأن وحدات النص تحيل على بعضها البعض، ومنها ما نقع عليه أثناء تفاعلنا مع إيقاعه، إذ نكون إزاء حركة موصولة بالأسلوب.فالحركة تصدر عن موسيقى الجمل في بناء فقرات النص وتناميها ، كما تنبع من تعدد المعاجم وتنوعها. من مجال اللقيا هذا ينبثق سبيلان :
- حركة البنية: في التجاذب الممكن بين وحدات النص، عتباته وخواتمه.
- حركة المخيال، بمعاجمها المتراكبة .
وخلص بعد التحليل أنه يعسر الإقرار بأن نص المسعدي نص قديم، هو يقض مضجع الناقد والسارد معا ، وهو يعمل على أن يورثنا حركة جارية كالماء، لا تعرف التوقف، لأنها تظل عاوية تهيم مثل الصدى الهارب نحو الأمام.
وتناول شعيب حليفي/الدارالبيضاء – المغرب، في ورقته " الثقافة والمجتمع في أدب المسعدي " تمهيدا تحدث فيه عن الإبداع المغاربي والإشكالات التي يطرحها ضمن النسق الثقافي وتواتر الحلم بالتحرر وبناء المجتمع وامتلاك الثقافة وأيضا الإحساس بتجدر العطب التاريخي وتجلياته في الخيبة والانكسار .
وحول أدب المسعدي عالج شعيب حليفي الموضوع ضمن خمسة محاور ناقش خلالها تمثل المسعدي لصورتيْ المثقف والمجتمع ويخلص إلى أن نصوصه تحفل بالأسئلة أكثر من بحثها عن الأجوبة ؛ وهو الذي يستلهم ويفرك ما يجده من بديهيات حول الوجود الإنساني والإرادة والحياة والموت والحرية والزمان والمسؤولية والحية والشك واليقين والمطلق والنسبي ، من جهة ؛ ومن جهة ثانية فالكاتب يشتغل على قطبين ظاهرين ينتميان إلى التخييل المحض والفكر الممتد في التأمل والتفلسف .القطبان هما ما هو تراثي وما هو حداثي ..وعبرهما يتدبر تأملات ضمن برامج تتماس مع التاريخي والأسطوري مُحيلة في شبكات مرموزة ومجازية على الديني ، وهو في كل هذا يزاوج بين النجوى الذاتية والتأملات الفكرية والفلسفية بلغة تفيض قوة وسلطة ومراوغة لتعبر عن محور المأساة والمعاناة والخيبة .
إن الرواية عند محمود المسعدي – يختتم شعيب حليفي – هي بحث وخلق يُنتج مواد تخييلية ذات حيوية في الدلالة والمعنى بخلفيات ممتلئة بالثقافي والمجتمعي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.