منذ أن كان في قاعة واحدة في الحمراء إلى أن استقر في بيال، المعرض حدثنا الثقافي الأبرز، مهما كانت أحواله وأياً كان مستواه. بدأ بائساً ومزدحماً لكنه كان حدثنا. وعلى مدار سنيه التي تخطت الخمسين ظل يكتسي وينشط ببطء شديد. لكن كل عام كان يضيف جديداً، جديداً ضئيلاً ولكن جديداً مع ذلك. يمكن بالطبع إحصاء الإضافات وتقييمها، الندوات والأمسيات والاحتفالات الصغيرة. هذا العام أضيف عرض مسرحي لقراءة من عدة كتب توليف وإخراج رويدا الغالي، وهناك أيضاً حفلة فنية بإشراف هبة القواس. هناك أيضاً المزيد من المحاضرات والندوات التي يتخلف الجمهور عنها في الغالب، لا لعذر أو سبب خاص، إلا كسله عن متابعتها. يمكننا أن نقيّمها وأن نفرز قمحها من زؤانها. لكن الجمهور لا يقيّم ولا يحاكم، إنه فقط لا يتسلى ولا يجد لها جاذبية أو إغراء. ما الذي يجذب الجمهور، الكتب، لكن الكتب خرساء صامتة وليس منظرها الأجرد مغرياً. لسنا بلداً قارئاً ولا نُعدّ من البلدان التي ينشغل أهلها بالقراءة. في هذا المجال أرقامنا ليست عالية بل في الوسع القول إنها متدنية، كم يقرأ اللبناني المتوسط في السنة؟ أقل من كتاب، فلماذا يحتفي بمعرض الكتاب ولماذا يبدو حاشداً برغم أن ليس فيه سوى الكتب وسوى مناسبات لا تكون إلا في القليل النادر ملأى. السؤال هو بالضبط هنا، ما الذي يحمل الآلاف على أن يذهبوا لزيارة معرض للكتاب وهم قلّما يهتمون بالكتب وقلّما يقرأون وربما قلّما يشترون كتباً. ما الذي يدعوهم إلى هذه الزيارة، ليست بالطبع نشاطات المعرض التي تهمهم أقل من الكتب والتي قلّما يحضرونها. السؤال لا يجد بسهولة جواباً ولا يمكن بسهولة أن نستخرج منه عبرة أو نستخلص منه درساً. لماذا يأتي الناس بالمئات والآلاف إلى حيث لا يجدون حقاً ما يجذبهم. لنقل إنهم يأتون بالآلاف ليتلاقوا، ليتمشوا بين الستاندات ويرون كيف تمتلئ المماشي بالناس. يأتون إلى الاحتفال الذي هو قبل كل شيء الحشد والذي هو قبل كل شيء الناس. الناس تأتي لتلتقي بالناس والمتعة هنا، ليست بالطبع في الكتب ولا في النشاطات، فالمحاضرات والندوات تحبسهم في أمتار قليلة وهم يريدون أن يكون لهم هذا الرحب الواسع وأن يكونوا في قلب التظاهرات وأن يكونوا كثاراً وأن يروا أنفسهم كثاراً. إنه الشوق للإنسان، الشوق للآخر الكثير، للآخر الحاشد، للآخر المحتفل. هل عندنا أعياد. هناك بالتأكيد أعياد دينية، نقرع الأجراس في مواضع، وتقام الصلوات في أماكن أخرى لكن العيد الديني بين أهل الطائفة أو أهل المذهب أو أهل الدين، ثمة ما يوعز بأنه بين أشباه، الآخر هو الآخر بالطبع لكن ثمة ما يوعز أن الآخر في الدين نفسه والمذهب نفسه لا تكتمل آخريته. الآخر الكامل الآخرية هو في المقلب الثاني هو في الضفة المقابلة. لا ننعم باللقاء مع الآخر ما دام شريكنا في العقيدة أو الانتماء. إنه بالدرجة نفسها انكفاء، بل هو عزوف. مع الشركاء تراهم وكأنك رأيتهم من قبل، ثمة تواطؤ غير معلن لكنه قائم وموجود. ليس في لبنان أعياد وطنية عامة. هناك رأس السنة الذي هو أيضاً جامع، يتلاقى فيه الناس كآخرين يجتمعون إلى آخرين. عدا رأس السنة ليس هناك مناسبة ثانية لذا ينبغي أن نخترعها، كان يمكن أن نخترع كرنفالاً ومن وقت لآخر تعمر شوارع الحمراء بما يشبه الكرنفال. هناك أيضاً أماكن اللقاء وسط المناطق المدموغة بالغالبية الطائفية. مونو والجميزة والآن بدارو. نكتشف من حين إلى آخر وسطاً جديداً وينتقل اللبنانيون إليه ليتلاقوا فيه، وليجددوا التلاقي. تزدهر منطقة لتغدو بذلك جامعة وليرى اللبناني الآخر الحقيقي. الآخر الفعلي الذي جاء من المنطقة الأخرى. الانقسام في أوجه والسياسيون يتلاعبون به وثمة في كل يوم خطاب طائفي يتسرب من تحالف متعدد، بل يستند إلى تحالف متعدد. كلٌ يلعب لعبته في وجود الآخرين بل ويفسر لجمهوره أن التعدد يرعى وحدته وانعزاله، لكن شيئاً كالشوق إلى الآخر، شيئاً من تذكير الآخر وتذكير لبنان المتعدد، يلوح في تظاهرة عابرة، عابرة للطوائف، كالحراك المدني. شيئاً من هذا التأمل للآخر يبدو في معرض الكتاب. يأتي الناس بالآلاف إلى مكان صفته الأولى الجمع. يأتون إلى حيث لا هوية طائفية لأحد، إلى حيث كل الناس آخرون تجاه بعضهم بعضاً. إلى حيث يتلاقى الآخرون ويحتفلون بهدوء بآخريتهم.