ربما رأي البعض فيما كتبناه يوم افتتاح الدورة الرابعة عشرة لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية، والقصيرة - عندما وصفناه بأنه "المهرجان الذي يخاطب رجل الشارع.. ولايستهدف محترفي المهرجانات " - شيئاً من المبالغة أو التضخيم لأهمية المهرجان، لكن الأمر المؤكد أن كل متابع للدورة التي اختتمت أعمالها ليلة السبت الماضي لم يجد صعوبة في إدراك صدق ما قلناه، وأن مهرجان الإسماعيلية نجح بالفعل في الوصول إلي الجمهور المستهدف، علي عكس مهرجانات كثيرة تبدأ وتنتهي عند من يطلق عليهم "الصفوة" و" النخبة" ولا تلقي بالا ولا اعتباراً لمن أنشيء المهرجان من أجلهم، وتاجر عدد من منظمي، ومؤسسي المهرجانات في مصر، بهم! أتحدث عن التجربة التي عايشتها بنفسي في الدورة الرابعةعشرة لمهرجان الإسماعيلية، عندمنا انطلقت علي رأس قافلة صغيرة العدد، لكنها عظيمة القيمة والأهمية فيما سعت إليه من أهداف، إلي مدينة التل الكبير بالإسماعيلية، وهناك قمنا بعرض أربعة أفلام تنوعت بين "التحريك" ممثلاً في "آخر رنة" إخراج مصطفي عبدالمنعم و" التسجيلي القصير"، ممثلاً في فيلم "قطر الحياة" إخراج شكري ذكري والروائي القصير "فيلمان احدهما لبناني هو "كل العصافير بتصوفر في "إخراج روي خليل والثاني مصري هو "لعبة" إخراج مروة زين السودانية الجنسية، وكان تجاوب الحضور، الذي ضم جمهوراً من مختلف الأعمار، كبيراً للغاية، ونزولاً عند رأي الغالبية منهم جرت مناقشة كل فيلم عقب عرضه مباشرة، وليس في ندوة مجمعة لكل الأفلام المعروضة، وكانت وجهة نظرهم في هذا "أصل الأفلام بتكون لسه سخنة ونقدر نفتكر اللي عاوزين نقوله عنها"، ولم يقتصر الحديث علي الشباب والكبار بل كان للأطفال مكان في الحوار الذي دار بمركز تنمية الأسرة والمجتمع، وفي حضور رموز البلده في المجلسين الشعبي والمحلي، بالإضافة إلي السيدة "عزيزة" المرشحة لمجلس الشعب ضمن "كوتة المرآة". بالطبع لم تكن القافلة التي توجهت إلي التل الكبير هي الوحيدة في المهرجان، فمنذ اليوم الأول لبدء الفعاليات تحرك النقاد محسن ويفي إلي القنطرة غرب والناقد محمد الروبي إلي القنطرة شرق والمخرج التسجيلي عماد الحديدي إلي مدينتي أبو صوير وفايد بينما أدارت صفاء الليثي وناهد عز العرب حوارين منفصلين مع جمهور وطلبة مدرستي "أم الابطال" و "التكنولوجيا" وتصدي الناقد حسين بيومي لتجربة الحوار مع رواد مقهي "الجوهرة" واكتملت التجربة غير المسبوقعة في أي من مهرجاناتنا السينمائية، سواء في القاهرة أو الاسكندرية بمشاركة الناقد المغربي محمد شويكه والناقد الفلسطيني المقيم في القاهرة رياض أبو عواد، ومع الأيام الأخيرة للمهرجان بلغ عدد العروض التي أقيمت في ربوع محافظة الإسماعيلية التي احتضنت المهرجان (حوالي عشرين عرضاً) أشرف عليها بنجاح الفنان محمود عبدالسميع مدير التصوير المعروف، وعاونه في تنفيذها كوكبة من الشباب الواعد المحب للسينما مثل: هادي وأحمد عبدالسلام ومرسي وعادل وغيرهم. تجربة يمكن لمهرجان الإسماعيلية أن يتاجر بها - لو أراد - لكنها جرت في صمت ، ومن دون ضجيج لكن انعكاسها الإيجابي كان واضحاً علي كل من تابعها، وليس فقط من شارك فيها، ومنحت المهرجان أفضلية وتفرداً بين جميع المهرجانات السينمائية في العالم العربي بأسره وليس في مصر وحدها. معسكر .. سينمائي أمر آخر ينفرد به مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة يتمثل في اختيار القرية الأولمبية كمكان لإقامة ضيوفهة، فهو "اختيار إجباري" - إذا جاز التعبير - فرضته ظروف كثيرة، من بينها ضغط الميزانية حيث أن المحافظة هي التي تتحمل تكلفة الاقامة، وأيضاً عدم وجود أماكن لائقة في المحافظة تحقق الغرض، لكن المثير أن هذا الاختيار القسري كان سبباً - في رأيي - في اضفاء المزيد من النجاح علي مهرجان الإسماعيلية، فالقرية التي اعتادت الفرق الرياضية اختيارها كمكان لإقامة "معسكراتها" أسهمت في تكريس حالة من الانضباط علي المهرجان بشكل ليس له مثيل في المهرجانات التي تقام خارج العاصمة، كالاسكندرية مثلاً، حيث اصبحت الفرصة حتمية، والتخلف عن الموعد الذي يتحرك فيه "الأتوبيس" إلي قصر الثقافة، حيث عروض المهرجان، أو العودة إلي القرية، حيث الإقامة والإعاشة، يعني "تشريد" ضيوف المهرجان في شوارع الإسماعيلية، وحتي من يرغب في "الصعلكة"، كان يجد نفسه مجبراً لمتابعة العروض، ومن ثم يمكن القول أن برنامج العروض ثم تنفيذه بدقة عالية، ويرجع الفضل في هذا أيضاً إلي الطريقة التي وضع بها البرنامج، والتي راعت "انسانية" الجمهور، فأفسحت مجالاً من الوقت لا ستراحة تلتقط فيها الأنفاس، أو لحظة ينفث فيها البعض قليلاً من الدخان. ندوات تحت إشراف "التضامن الاجتماعي"! هل يعني هذا أن مهرجان الإسماعيلية يخلو من الاخطاء؟ - بالطبع لا .. فقد أصيب المهرجان في مقتل بسبب الاختيار غير الموفق لمديري بعض الندوات، إما اعتماداً علي خبرة الكبار الذين خذلوا المهرجان، بسبب فقدان التركيز أحياناً، أو طريقة الاختيار نفسها التي جعلت بعض الاشخاص يرتكبون أخطاء فادحة، ولم يكونوا أبداً عند حسن الظن.. و" الثقة" وكانت النتيجة أن تساءل مخرج أجنبي قائلاً : "هو مصر مافيهاش نقاد شباب"(!) فقد بدا الأمر وكأن وزارة التضامن الاجتماعي هي التي اختارت قائمة مديري الندوات، ولم يكن لإدارة المهرجان أي علاقة بهذا الأمر! أحفاد حاتم الطائي! في هذه الدورة أيضاً تأكد أن "اللي خلف ماماتش" بعد أن أثبت حضور الندوات أنهم أحفاد "حاتم الطائي"، حيث الكرم الزائد، وكلمات الثناء والاطراء التي يسبغه البعض علي كل الأفلام، خصوصاً الاجنبية، بلا اعتبار لأي معايير فنية أو قواعد نقدية موضوعية، وهو مافعلته ناقدة - كبيرة السن - يمكن أن نطلق عليها بلا مبالغة "مشاهدة بدرجة معجبة دائمة"، فكل الافلام عندها "عظيمة" و"جميلة"، وفي كل ندوة لابد من سؤالها التقليدي: "لماذا اخترت عنوان فيلمك؟" بمايعني أن الهدف يكمن في العشق الدائم للميكروفون وليس الرغبة في تقديم وجهة نظر تُثري النقاش! "رجل الفياجرا" الذي "استثار" الجميع! عندما يسجل بطل الفيلم التسجيلي الهولندي القصير "رجل الفياجرا" شهادته بأنه مندهش لأن الفيلم يُعرض في مصر، وهو الذي يناقش قضية شائكة تتعلق بمدي فاعلية الاختراع المسمي "حبوب الفياجرا"، وما يمكن أن يثيره مثل هذا التناول في مجتمع عربي، فإن ما قاله يمثل اعترافاً بأن مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة لا تحكمه خطوط حمراء، ولا يخضع في عروضه لاملاءات من خارجه، بل يحتكم إلي لوائحه، فالفيلم الهولندي جرئ بالفعل، ويبحث في منطقة حساسة، لكنه لقن الجميع درساً في أهمية أن نعالج قضايانا العلمية والحياتية بلا خجل، فهو يتوقف عند "الفياجرا" بعد عشر سنوات من ظهورها، ويفضح الشركات التي تتربح من وراءها من دون التوقف عند فاعليتها، كما يدين الإعلام الذي يروج لمثل هذا النوع من التجارة القبيحة، ويحذر من خطورة "الفياجرا" علي مستقبل العلاقة الجنسية بين البشر، خصوصاً جيل الشباب الذي " استسهل" اللجوء إليها، وأنهي تحذيره بالتساؤل عن مصير " العاطفة" في ظل تصور البعض أن " الفياجرا هي الحل"! وعلي نفس النسق من أهمية الفيلم جاءت ندوة الفيلم مثيرة وجريئة و" كوميدية"، خصوصاً عندما حاول البعض الاستفسار من البطل عما إذا كان هو نفسه من زبائن " الفياجرا" أم لا؟ والموقف الذي اتخذته شركات الأدوية بعد فضحه لها. جوائز في مكانها..وأخري غير! يدرك كل متايع للمهرجانات الفنية، سينمائية وموسيقية غنائية أو مسرحية ودرامية تليفزيونية،أن القواعد التي تحكم لجان تحكيم المهرجانات تختلف من مهرجان إلي آخر، ومن لجنة إلي آخري، تبعاً للايدلوجية، التي تحكم كل لجنة، والمعايير التي تحكم أعمالها، وبتطبيق هذه القاعدة علي لجنة التحكيم الدولية في الدورة الرابعة عشرة لمهرجان الإسماعيلية يمكن لنا أن نلتمس لها العذر في انحيازها لأفلام ضعيفة المستوي في نظرنا وتجاهلها لأفلام أكثر قيمة، فالاجماع علي أن اللجنة حالفها التوفيق في منح جوائزها لأفلام: "ميرامار" و "استانكا تذهب إلي البيت "، و "الرياح تعصف بك بعيداً" و "طرق الذاكرة "، بالإضافة إلي الفيلمين المصريين: "لعبة" و "طبق الديابة"، لم يحل دون الشعور أنها جاملت الفيلم البرازيلي" "رقم صفر" عندما منحته الجائزة الكبري، فهو فيلم سطحي ومباشر وفقير فنياً في معالجته لقضية قتلت بحثاً تتعلق بأطفال الشوارع، ولم يقدم الفيلم جديداً يستحق عنه "الجائزة الكبري" والحال نفسه ينطبق علي الفيلم التجريبي "شموس جانبيه" الذي حصد جائزة أفضل عمل في الوقت الذي تجاهلت اللجنة فيلم "بلاستيك وزجاج" (استعراض موسيقي علي إيقاع القمامة الراقصة،) وفيلم "لمسة" (زجاجة تحاول النجاة من شلال الماء المتدفق بقوة) بل يمكن القول بلا "شوفينية" - تعصب أعمي للوطن - بأن الفيلم المصري التجريبي "أوقات" كان أحق بالجائزة من فيلم "شموس جانبية" الذي لا يتمز فيه سوي عنصرالموسيقي لشوبرت . مهرجان .. يُحتذي عندما نقول إن مهرجان الاسماعيلية الدولي للأفلام التسجسيلية والقصيرة ينبغي أن يكون مثالاً يُحتذي لمهراناتنا المصرية فهي حقيقة شهد بها ضيوفه الاجانب، قبل المصريين، ومن ثم يصبح الشكر واجباً للقائمين عليه، وكذلك التحذير مما يُحاك لهذا المهرجان في الخفاء، فالنجاح يفضح الفاشلين، ومن ثم يتكاتفون عليه وضده حتي لايكشف عجزهم، وواجبنا جميعاً أن نتكاتف بكل قوانا للحفاظ علي هذا لمهرجان من أولئك الذين أدمنوا الفشل!