بالإضافة إلي الرصانة، والجدية، والقدرة علي التوثيق، والمعرفة الواسعة التي تجعل منه مثقفاً كبيراً، يتمتع الكاتب الكبير مصطفي محرم بقدرة فائقة علي نظم عبارات كتبه، سواء التي يؤلفها أو تلك التي يترجمها، حتي يخيل إليك أحياناً أنه "أديب" ضل طريقه إلي الكتابة للسينما، وإن بدا من المرجح بقوة أن هذه المقدرة انعكست بالفعل علي سيناريوهات أفلامه.الأمر الثاني المهم في هذا السياق أن الكاتب مصطفي محرم ينطبق عليه القول "لا يخشي في الحق لومة لائم"، فهو ليس كغيره من أولئك الذين يوظفون القلم لمآرب شخصية أو "تربيط" المصالح والصفقات المشبوهة، بل استطيع القول، من واقع معرفتي به وعلاقتي معه، والتي شرفت بأنها توطدت بيننا في الفترة الأخيرة، أن صراحته الموجعة وجرأته في الاقتحام، جرا عليه الكثير من المشاكل حتي أن البعض يخشي الاقتراب منه، فما بالك بالصدام معه، وحجتهم في هذا انه "متجهم، دائماً، و"جاد أكثر من اللازم" . بل إنه في نظر بعضهم "لا يضحك أبداً" بينما الحقيقة التي يعرفها كل من اقترب من الكاتب الكبير أنه يتمتع بقدرة مذهلة علي اشاعة جو من المرح والكوميديا في جلساته التي يطمئن فيها لمن هم حوله، بل يملك من السخرية اللاذعة ما يجعله قادراً علي التقاط التفاصيل الصغيرة في حياتنا اليومية، وصوغها بحنكة ورقة وخفة ظل، لتصبح مثار حوار عميق لا يخلو من المتعة، فالرصانة التي يتمتع بها مصطفي محرم لا تحول بينه وبين الضحك المحسوب حتي تكاد تظن، في لحظة، انه "الضحك المكتوم" فهو يضحك من داخله، ويبدو أنه صدق، هو أيضاً، الصورة الذهنية المأخوذة عنه، فأصبح يتحرج من الضحك أمام الناس، وصار من يضبط "محرم" وهو يضحك كأنه رأي عجيبة الدنيا .. الثامنة! مقدمة كان لابد منها قبل الحديث عن كتاب "يوسف شاهين أفلام السيرة الذاتية" تأليف مصطفي محرم، والصادر عن الهيئة العامة للكتاب عام 2009 (156 صفحة)، فالنهج الذي اتبعه "محرم" في الكتاب لا ينفصل مطلقاًعن نهجه الحياتي والشخصي، حيث الرصانة والجدية والتوثيق والاستعانة بالمراجع، والاستشهاد بالأقوال التي تتحول علي يديه إلي نظريات، والأهم الصراحة التي تجد لها مكاناً في كل صفحة بين دفتي الكتاب، فعلي عكس الكتاب الذين يتصورون أن الفرصة مواتية لتقديم وصلة من النفاق ، والمجاملة، والمبالغة، واللاموضوعية في الأحكام والتقييم يصر "محرم" أن يكون نفسه، وكما حالفه التوفيق في تقييم مسيرة يوسف شاهين، وكان علي درجة كبيرة من الصراحة عندما اعترف انه لا يتعرض في الكتاب لكل أفلام يوسف شاهين بالنقد والتحليل لأنها لم تتوافر له بحيث يشاهدها جميعاً، وبالتالي اقتصر في تقييمه وتحليله علي الأفلام التي اصطلح النقاد، علي حد عبارته، بتسميتها "أفلام السيرة الذاتية" وكان بمقدروه ألا يعترف، وأن يزعم انه شاهد كل الأفلام، مثلما يفعل سواه ممن تصبح "موسوعة الأفلام المصرية"، وما تتضمنه من حكايات وحواديت الأفلام مدخلهم لتقييم ونقد وتحليل أفلام يوسف شاهين وغيره من المخرجين والممثلين! هذه الصراحة، والاتساق الواضح مع النفس، كانا الدافع وراء تطرق "محرم" إلي بطلات يوسف شاهين أيضاً، فلم يخف عدم ارتياحه لأدوارهن والأمر المؤكد أنه عبر عن وجهة نظر كثيرين عجزوا عن البوح به لأسباب كثيرة، لكنه برر هذا بأن "فاتن" ( لم تكن تثير خيال المراهق، لانها كانت تخلو من الأنوثة (ص 10)، وفي تفسير آخر (لأن هناك نساء - ممثلات يعني - يبرزن أنوثتهن، ويتدفقن حيوية وإغراء ص 11)، بينما هناك من يري، وهذا مالم يكتبه "محرم" أن الأمر يتعلق أيضاً بقدراتها التمثيلية المحدودة! المهم انه قال رأيه بصراحة، وهو ما كرره عند الحديث عن هند رستم ( لا تعجبني حتي الآن عند مشاهدتها ماعدا دورها في "باب الحديد")، ولم يخف امتعاضه من السينما التي لا تنتمي إلي الفن إلا بالاسم فقط، ولا تخرج عن كونها ابتذالاً سخيفاً لا يقبل عليه سوي جمهور منحط مبتذل كما يحدث الآن، حسبما قال (ص16). أسئلة كثيرة يطرحها مصطفي محرم في كتابه، الذي لا أنظر إليه بوصفه كتاباً عن أفلام السير الذاتية ليوسف شاهين بقدر ماهو بحث في سيرة "شاهين" التي يؤكد الكتاب أن الغموض يكتنفها أحياناً، فالكاتب لا ينكر علي "شاهين" قيمته كواحد من عباقرة المخرجين، وانه الوحيد الذي استثمر دراسته في أمريكا مقارنة بمن عادوا بخفي حنين، وأن فيلمه "باب الحديد" هو واحد من أفضل مائة فيلم في السينما العالمية، لكن هذا لم يمنع الكاتب من القول إن العلاقة بين "شاهين" و "هوليوود" ظلت ملتبسة، وانه فشل في اقتحام "هوليوود"، التي تساءل الكاتب عن السبب الذي دعاها لتجاهله بينما تستعين بالشيطان إذا كان هذا يصب في مصلحتها، وفي هذه النقطة تحديداً يبرر الكاتب السر وراء ارتماء "شاهين" مرة في أحضان الروس ( القوة الثانية كما وصفها الكاتب وإحدي القوتان الأعظم كما وصفها "هيكل") ومرة أخري في أحضان أوروبا (فرنسا تحديداً) ولم ينس "محرم" أن يفوت علي أصحاب "نظرية المؤامرة"الفرصة، ونفي أن يكون لليهود دخل في اقصاء "شاهين" عن "هوليوود". أما النقطة الأكثر إثارة للجدل في الكتاب، الذي لاتتسع المساحة للتوقف عند كل قضاياه الحيوية، فتلك التي تتعلق بأولئك المقربين من "شاهين" الذين أدخلوا في روعه أنه "مفكر سياسي" فأدخلوه في متاهة فنية لم يخرج منها، حسب تعبير الكاتب، وهو ما يؤكده في قوله:"ربما أوحي إليه بعض من حوله من المرتزقة انه مفكر عالمي وأنه رسول الحرية ونبي النضال ضد الامبريالية الأمريكية في السينما العالمية فلم يجد أمامه سوي الهجوم علي أمريكا".. وهنا يمكن القول إن علاقة "شاهين" بأمريكا كانت محل اهتمام كبير من الكاتب الذي انتهي إلي وصفها بأنها "علاقة رجل بامرأة لم يلق منها سوي التجاهل والازدراء لكنه ظل يعشقها حتي ولو في السر، ولم يمنعه هذا الحب المريض من أن يقذفها بألعن الصفات أمام الناس، ويبدي لها الكراهية المعلنة، لكنه في حقيقة الأمر يتمني بل يحلم بأن ترضي عنه في يوم من الأيام". كان من المفترض لو أننا في بلد يقرأ أن يثير كتاب مصطفي محرم عن يوسف شاهين عاصفة من الجدل والنقاشات الإيجابية حول ما كتبه من تقييم وتحليل، خصوصاً فيما قاله عن "الطموح الفكري الأكبر من قدراته الإبداعية خصوصاً في مجال السيناريو" وتأكيده أن "قيمة يوسف شاهين الحقيقية ليست فيما يطرحه من أفكار حتي ولو كانت عميقة، بل في كيفية طرحه لهذه الأفكار باللغة السينمائية .. وهذه هي التقنية الحقيقية الجديرة بالمناقشة" وفي السياق نفسه كان قول الكاتب:" أخشي أن أقول إن يوسف شاهين عندما يقحم نفسه بالكتابة أوالمشاركة الفعلية حتي المستترة منها فإن هذا يحسب ضده وليس في صالحه، أي أنه ينقص من قيمة هذه الأفلام .. وانتهي إلي القول مجدداً : "استطيع أن أقول وأنا مرتاح الضمير إن القيمة الفكرية لأفلام يوسف شاهين تعلو وتقل تبعاً لمن يتعاون معه في كتابة "السيناريو".. و" يحاول أن يقحم أفكاره التي قد تتناقض في الأصل مع الأفكار الأساسية التي يطرحها كاتب السيناريو فيحدث خللاً في البناء أو رسم الشخصية، وأحياناً يخلط حواراً مباشراً يصل إلي الفجاجة بحوار سلس يتماشي مع النسيج العام للسيناريو". قبل أن يندفع البعض، ويتصور أن "محرم" بيتبني هذه الرؤية "الشجاعة" في غياب "شاهين" أحيله إلي الفقرة التي قال فيها: "أعلم أن هذا الكلام قد يغضب يوسف شاهين، وقد يغضب خالد يوسف، وقد يغضب الكثيرين من مدعي النقد السينمائي لكن علينا أن نقول الحقيقة بشجاعة وأن نتلقاها بشجاعة"، وهو مايعني ان "محرم" كتب رأيه هذا في حياة يوسف شاهين. في رأيي أن الهجوم علي مصطفي محرم أو تجريحه، في حال ما إذا أصبح كتابه موضوعاً لمناقشة جادة بدلاً من تلك الحوارات التافهة، والقضايا الساذجة، التي تعرضها قنوات السينما التي تدعي التخصص، ليس هو الحل وإنما علينا أن نناقش "محرم" في أفكاره، وماتوصل إليه من تحليل وتقييم، بموضوعية ورغبة في الوصول إلي الحقيقة التي لن تكون كاملة في كل الأحوال ما دمنا بصدد تقييم مسيرة مبدع .. وإبداع.