تنسيق الشهادات الفنية 2025.. رابط التقديم لاختبارات معادلة كليات الحقوق وجدول الامتحانات    7 كليات وتخصصات جديدة.. تفاصيل المصروفات والتقديم بجامعة بورسعيد الأهلية 2025-2026    محللون اقتصاديون: توقعات متباينة لمعدل التضخم في يوليو وسط تأثيرات أسعار السجائر والسياسة النقدية    التصديري للملابس: 25% زيادة في صادرات القطاع بالنصف الأول من 2025    للمرة الثانية.. محافظ الدقهلية يفاجئ شركة المياه للتأكد من الاستجابة لشكاوى المواطنين    من بينها توفير الأسمدة الكيماوية.. الفشن الزراعية ببنى سويف تناقش توفير نواقص الزراعة للفلاحين    أسعار اللحوم بمحافظة مطروح اليوم الخميس 31-7- 2025.. الضأن ب 450 جنيه    رئيس هيئة الأوقاف يوجّه مديري المناطق بالحفاظ على ممتلكات الهيئة    إيران تطالب ترامب بتعويضات عن خسائر حرب ال12 يوما قبل استئناف مفاوضات النووي    لأول مرة.. وزير خارجية ألمانيا يتحدث عن إمكانية اعتراف بلاده بدولة فلسطين    ألمانيا تطالب ببدء عملية الاعتراف بالدولة الفلسطينية فورًا    بعد يوم واحد من زيارة الشيباني.. وزير الدفاع السوري يصل موسكو    عمرو ناصر: المنافسة في هجوم الزمالك صعبة    صفقة تبادلية تلوح في الأفق بين الزمالك والمصري    إصابة 8 أشخاص في حادث انقلاب ميكروباص على طريق "دشلوط – الفرافرة"    صور الأقمار الصناعية تشير إلى تكاثر السحب المنخفضة والمتوسطة على مناطق متفرقة    مصدر بالسياحة والآثار ينفى تعرض لنش سياحى للغرق بمدينة الغردقة    تهريب ومخالفات وأحكام.. جهود أمن المنافذ 24 ساعة    إصابة عامل بحروق خطيرة إثر انفجار أسطوانة غاز داخل مطعم بقرية في الفيوم    ننشر حركة تنقلات ضباط المباحث بمراكز مديرية أمن قنا    رئيس منطقة سوهاج الأزهرية يبحث الاستعدادات لانطلاق امتحانات الدور الثانى    صرخة في سوق الرملة.. مشاجرة دامية تنتهي بمقتل فكهاني بالقليوبية    بالصور| أسامة منير وبشرى يشاركان في تشييع جنازة لطفي لبيب    محلل فلسطينى: من يشكك فى الدور المصرى فضحته مشاهد دخول شاحنات المساعدات إلى غزة    غدا.. قصور الثقافة تطلق الموسم الخامس من مهرجان صيف بلدنا برأس البر ودمياط الجديدة    هل انقطاع الطمث يسبب الكبد الدهني؟    رد مثير من إمام عاشور بشأن أزمته مع الأهلي.. شوبير يكشف    تقارير تكشف موقف ريال مدريد من تجديد عقد فينيسيوس جونيور    يديعوت أحرونوت: نتنياهو يوجه الموساد للتفاهم مع خمس دول لاستيعاب أهالي غزة    ماذا يتضمن مشروع القانون في الكونجرس لتمويل تسليح أوكرانيا بأموال أوروبية؟    البابا تواضروس أمام ممثلي 44 دولة: مصر الدولة الوحيدة التي لديها عِلم باسمها    «الطفولة والأمومة» يعقد اجتماع اللجنة التيسيرية للمبادرة الوطنية لتمكين الفتيات «دوَي»    فيديو.. طارق الشناوي ينعى لطفي لبيب: اقرأوا له الفاتحة وادعوا له بالجنة    محمد رياض يكشف أسباب إلغاء ندوة محيي إسماعيل ب المهرجان القومي للمسرح    حرام أم حلال؟.. ما حكم شراء شقة ب التمويل العقاري؟    مانشستر يونايتد يفوز على بورنموث برباعية    الصحة: حملة 100 يوم صحة قدّمت 23 مليونا و504 آلاف خدمة طبية مجانية خلال 15 يوما    استحداث عيادات متخصصة للأمراض الجلدية والكبد بمستشفيات جامعة القاهرة    محافظ الدقهلية يواصل جولاته المفاجئة ويتفقد المركز التكنولوجي بحي غرب المنصورة    الشيخ أحمد خليل: من اتُّهم زورا فليبشر فالله يدافع عنه    مواعيد مباريات الخميس 31 يوليو 2025.. برشلونة ودربي لندني والسوبر البرتغالي    طريقة عمل الشاورما بالفراخ، أحلى من الجاهزة    خالد جلال يرثي أخاه: رحل الناصح والراقي والمخلص ذو الهيبة.. والأب الذي لا يعوض    اليوم.. بدء الصمت الانتخابي بماراثون الشيوخ وغرامة 100 ألف جنيه للمخالفين    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    النتيجة ليست نهاية المطاف.. 5 نصائح للطلاب من وزارة الأوقاف    خلال زيارته لواشنطن.. وزير الخارجية يشارك في فعالية رفيعة المستوى بمعهد "أمريكا أولًا للسياسات"    رئيس قطاع المبيعات ب SN Automotive: نخطط لإنشاء 25 نقطة بيع ومراكز خدمة ما بعد البيع    الزمالك يواجه غزل المحلة وديًا اليوم    سعر الخضار والفواكه اليوم الخميس 31 يوليو 2025فى المنوفية    استعدادا لإطلاق «التأمين الشامل».. رئيس الرعاية الصحية يوجه باستكمال أعمال «البنية التحتية» بمطروح    أمين الفتوى يوضح آيات التحصين من السحر ويؤكد: المهم هو التحصن لا معرفة من قام به    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    اليوم.. المصري يلاقي هلال مساكن في ختام مبارياته الودية بمعسكر تونس    المهرجان القومي للمسرح يكرم روح الناقدين أحمد هاشم ويوسف مسلم    الأحكام والحدود وتفاعلها سياسيًا (2)    بعد الزلزال.. الحيتان تجنح ل شواطئ اليابان قبل وصول التسونامي (فيديو)    هذه المرة عليك الاستسلام.. حظ برج الدلو اليوم 31 يوليو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسائل عبد الحكيم قاسم:
الصراع مع الصمت
نشر في أخبار الأدب يوم 01 - 01 - 2011

يضعنا كتاب "كتابات نوبة الحراسة.. رسائل عبد الحكيم قاسم" (1935- 1990م) في قلب فترة من أصعب الفترات التي مرت بها مصر في تاريخها المعاصر. تلك الفترة التي شهدت أفول عهد عبد الناصر أواخر الستينيات، وبزوغ فجر السبعينيات. والفارق بين العهدين هوبالضبط الفارق بين حلم القومية العربية، وبين العزلة السياسة التي ذاقتها مصر علي يد السادات. ولم تكن الخيبة التي أعقبت هزيمة العام السابع والستين هي وحدها الشر المستطير الذي فطر قلوب المصريين. بقدر ما كان فقدان بوصلة الأب الروحي حمولة ثقيلة استقرت في كتابة هذا الجيل، فتجلت علي أنحاء شتي. حتي وصلها جمال الغيطاني وصلاً بأقانيم القمع في تاريخ مصر المحروسة. وكأن كرور الأيام وتتابع الحوادث أشبه بطرفة العين التي يجوب خلالها الصوفي بلاد الله. وبثها بهاء طاهر في تخلٍ ظاهره الاستسلام، وباطنه الرفض. أما عبد الحكيم قاسم فقد تمسك بحبل التاريخ المصري الحافل والممتد - في مستوياته المتعددة- يسائله ويحاوره. وتدفع الرسائل - التي بين أيدينا - بصاحبها إلي صدارة المشهد الروائي. بنفس الطريقة التي تكشف بها عن بصيرة نقدية تفوز بالأبنية اللاواعية لهذا العصر. وتختار لنفسها - بحرية وأصالة - موقفاً متميزاً من الكتابة، والثقافة والتراث. مع رسائل صاحب رواية »أيام الإنسان السبعة« 1969، »محاولة للخروج« 1978 و»سطور من دفتر الأحوال« 1983 تتصارع الكتابة، مع الذات السياسة والصداقة. أو لعلها تتصارع مع الصمت.

يمكن القول - بدايةً - إن معاناة الكاتب مع الكتابة هي الخط الذي يمتد بطول الرسائل. يسبر عبد الحكيم قاسم - ببصيرة نافذة - أغوار اللحظة التي تجمع الكاتب بكتابته. ويصل - من عدة زوايا - أطراف هذه اللحظة بأبعادها الشخصية، السياسية والاجتماعية. وتبدأ هذه المعاناة، أول ما تبدأ، مع محاولة التغلب علي الصمت الذي يحول بين الأقلام الممدودة، والأوراق المبسوطة. فلا نواجه إلا بالصمت الذي هو قرين العقم تارةٍ، والعجز تارة أخري. وقد أثارت الرسائل المتبادلة بين عبد الحكيم، وبين زوج أخته الشاعر محمد صالح (1942- 2009م) شجون الحديث حول الصمت الذي يقهر الكاتب. والحكاية أن محمد صالح - الشاعر الصموت - قد أرسل إلي عبد الحكيم رسالة يغلب علي حواشيها الفراغ، وتحيط سحب البياض بسوادها القليل. ولم يكن من السهل علي عبد الحكيم - الراوي والحكاء- أن يقبل - علي حد تعبيره - أن تسافر ورقة فارغة، عبر البحار، لترن في صمت الغربة. ذلك أن الكتابة بالنسبة لقاسم، هي المناسبة التي تذوب بمقتضاها غربة الكاتب ووحدته. أو قل هي السحر الذي يفك - بقدرة قادر - طلاسم الذات وألغازها ورموزها »إنما أجد في الحكي لذاذة أونجاة. فإنني إن سكت أغرق، أبقي وحدي مع هذه التصورات الغريبة في أعماقي السحيقة، وما أنا بالقادر علي امتلاكها وسبرها حتي أفك طلاسمها«. ولذلك يصف عبد الحكيم تلك اللحظات التي تنفلت فيها
الكتابة من بين أصابعه باللحظات »العواقيم العواقر«. مثلما تكون لحظة شروق الكلمة لحظة خلق، كشف وفرح. بل إن قرار سفر عبد الحكيم إلي ألمانيا للدراسة قد تشكل تحت وطأة شعور قوي بمراوغة الكتابة وانفلاتها وعصيانها »كنت أريد تفجيراً ما في حياتي يخرجني من هذا الجمود«. وقد تُصادف اللحظات »العواقيم العواقر« ظرفاً تاريخياً تفرغ بمقتضاه طاقة المبدع الخلاقة، وتخنق قدرته علي الإبداع. كما فعل فقد عبد الناصر بمحمد الصادق روميش صاحب رواية (الليل الرحم). ذلك العمل الذي يحبه عبد الحكيم من كل قلبه. ويبذل في رسائله إلي أصدقائه - كتاباً ونقاداً - جهداً مخلصاً من أجل أن يبين جمالياته وأهميته وأصالته. ويحكي قاسم كيف أنه بمجرد انتهائه من قراءة رواية (الليل الرحم) انتابته رغبة جارفة في لقاء روميش والحديث معه في وقت متأخر من الليل. غير أن روميش الذي عاني مرارة فقد عبد الناصر، كان قد فقد - نهائياً - بوصلة التواصل مع العصر الجديد. ومن ثم توقف عن الكتابة. كذلك تتصل معاناة قاسم مع اللحظات »العواقيم العواقر« مع معاناة محمود الورداني. فقد شكا الأخير في إحدي رسائله لقاسم مراوغة القص وتمنعه وانفلاته »فقط أقول لك حاول أن تعرف لماذا حدث التوقف«.
»وإذا كانت الكتابة نجاة من وحشة الصمت الذي يستولي علي الكاتب كالأفعوان بلا فحيح علي حد تعبير صلاح عبد الصبور. فإنها معاناة، وجهاد متصل من أجل
تعميق وعينا بعالمنا. وبما أن الواقع يتحول باستمرار، فإن الكتابة وحدها هي القادرة علي إدراك سحر هذا التحول. طالما أن الكتابة تكشف عن سر هذا التحول، وهو يعمل بعيداً عن الأعين. ويحكي لنا عبد الحكيم - مثلما حكي لمحمود الورداني في رسالته - حكاية بسيطة عن ذلك التحول الذي يساوي بين الحلم والحقيقة بلا فارق »الحكاية أنني أحببت بنتاً وأنا تلميذ في الثانوي، وكان أخي يحب أختها، وتقابلنا نحن الأربعة خارج القرية وكان الليل مقمراً..وإذا كان الليل مقمراً فإن العالم يكون عالماً آخر.. تكون البيوت من مادة أخري حلمية.. وكذلك أوراق الأشجار وتراب الأرض وعيدان النباتات.. ويكون صوت العالم آخر..وحاصل كل ذلك ما يسمي جنون القمر... وعندما كنت في بلدنا هذا الصيف مررت بالمكان ظهراً..لا ضوء حلمي.. الشمس فاضحة والأشياء متربة مكسوفة.. والواقعة تقع علي بعد ثلاثين سنة إلي الوراء.. والبنت الآن سيدة غبية لها ست عيال وزوج بليد عصبي.. أيهما الحلم.. وأيهما الحقيقة؟«.
وينتقد عبد الحكيم قاسم ما يتردد عن احتراف الكتابة، عن كاتب محترف وآخر غير محترف! فلو قلنا إن الاحتراف يعني العيش من الكتابة، لما كانت الكتابة احترافاً. طالما أن الكاتب لا يستطيع أن يكسب قوته من الكتابة: »إنني أكتب منذ عشرين عاماً وأنشر، وجميع ما كسبته من كتابتي لا يطعم أولادي شهراً.. وأنا هنا - أي في ألمانيا - أعيش من تنظيف المراحيض فهل أنا منظف مراحيض محترف!« ومن ثم فالاحتراف الحقيقي - كما يراه قاسم - لا يعني أن تعيش من الكتابة، إنما أن تعيش للكتابة. والمعني واضح ومفهوم ينزه الكتابة عن كل غرض، وينأي بها عن أن تكون مجرد أداة. كذلك يرفع عبد الحكيم الوهم عن الخطأ الشائع الذي يري في البحث العلمي عملاً يتعارض مع موهبة الكتابة ويدمرها. ويطرح قاسم علي نفسه السؤال التالي: هل أنا إنسان أم صفة؟ وهوسؤال يطيح بضربة واحدة - كما نري - بأوهام اختزال العقل البشري إلي عقل علمي تارة، أوعقل انفعالي تارة أخري. أوالباحث الذي لا يمكن أن يكون كاتباً، والكاتب الذي لا يمكن أن يكون باحثاً »إنني إنسان أكون قصاصاً حينما أكتب قصة، وباحثاً ًحينما أكتب بحثاً«.
تتقاطع الرسائل - من ناحية أخري - مع واقع الثقافة المصرية بأحداثه، همومه ومشكلاته. وتسجل - من هناك - السيرة الذاتية، بمعناها الجمعي، لكاتب مصري يعاني - ككل أبناء جيله - مرارة الغربة ووحشتها. ومن ثم يتناول قاسم الظرف السياسي، في علاقته بالكتابة، بالتحليل في أكثر من سياق. فالكُتاب - في بلدنا - يدورن في مدارات السياسة كأنها قدر لا يمكن الإفلات منه. علي النحوالذي يمكن القول معه أن »قصة »العازف« لإبراهيم أصلان لا تُكتب إلا تحت نظام ناصري، وهي إذا كُتبت الآن فهي بلا معني«. ويتبادل محمد روميش بنوته لأبيه الحاج صادق، مع بنوته للحاج جمال عبد الناصر. وتغدو ثورة الابن علي الأب ثورة حب، لا ثورة إنكار وإلحاد.
وإذا كنا نعاني حالة من السخط في مجتمع مشوه - بفعل العلاقة المتوترة مع إسرائيل - فإننا نحتاج أن نتعلم
كيف نصوغ سخطنا. من ذلك سُخط الناقد محمود عبد الوهاب علي رواية إدوارد الخراط، الذي أخطأ التعبير عن نفسه فتحول إلي هجوم من العيار الثقيل. والحكاية أن الرواية نفسها عرفت كيف تستعدي قارئها. طالما أنها سُخط ضل سعيه في ظل توجه سياسي يسعي إلي قبول دولة دينية مثل إسرائيل. وكان الخيار المطروح هوأن تصبح مصر دولة قبطية أو فرعونية »لأن إسلامية معناه فوراً عودة القومية العربية والعداء لإسرائيل من جديد«. وقد ابتلع الخراط الطُعم، فاستبدل أوهام السياسة وأساطيرها بوعيه الحر ككاتب. ومن ثم كانت صيحته أنا قبطي تختزل وتُقصي مصريته في أفق ضيق ومحدود.
أما حوار عبد الحكيم قاسم مع بطرس الحلاق فهو نسيج وحده، ومثالاً دالاً علي علاقة الاحترام المتبادل التي جمعت بين مثقفين كبيرين مثل قاسم والحلاق. فرغم أن عبد الحكيم قد انتقد - في حدة عُرفت عنه - جهد بطرس الحلاق في التأريخ للرواية العربية، ومحاولته التأصيل لبدايات هذه الرواية، إلا أن بطرس - كما بدا من رد حكيم نفسه - قد تقبل انتقادات صديقه بصدر رحب. وقد واصل حكيم - هذه المرة أيضاً -عدم رضاه عن استخدام بعض المصطلحات المستوردة التي لا تتناسب - علي حد تعبيره - مع تراثنا الأدبي والثقافي. فلا الرومانسية الغربية هي بالضبط ما يطلق عليه نقادنا رومانسية، كذلك برجوازية، اقطاع وثورة. فلم تعرف الشعوب العربية الاقطاع بشكله الذي وجد عليه في الغرب، ولا ثارت علي الطريقة الغربية.
يرفض عبد الحكيم - في رسالته إلي محمود عبد الوهاب - قبول مقولات التقدم الغربي إلي النهاية. فالشرق أيضاً كانت له نظرته الخاصة للكون والإنسان، التي تتوافق مع طبيعته الروحية. والمهم أن الغرب يبني أفكاره عن تقدم الإنسان في خط صاعد، فالعالم في تطور دائم ودائب. بينما يري عبد الحكيم أن بعض الحضارات القديمة، مثل
حضارة المصريين القدماء والبابليون، كانت تعتقد في كمال الكون. كما كانت تري في الاختلاف وحدة ترد الكثير إلي واحد. فالكون منسجم متصل ببعضه البعض، وليس للإنسان إلا أن يحاول فهم تجليات هذا الكمال. ويتصل بهذا التصور عن وحدة الكون وانسجامه تفهم الدور الذي يلعبه كل كائن - مهما قل شأنه - داخل هذه المنظومة «ثم إن وضع الحيوان في أدني سلالم التطور خطأ في فهم علم الحياة. كل حياة لها نبلها الخاص». ومن ثم يتعرض عبد الحكيم بالنقد للثقافة الغربية التي أعمت قلوبنا قبل أبصارنا »وأنا أعود إلي الزمن بصرف النظر عن وجهيه أمس وغد.. وأري العلم سكة إلي المثل العليا لا إلي كسب الحرب الذرية«. وما يقوله عبد الحكيم بالضبط لا يعني أن الشرق ضد الغرب، أوأن الغرب ضد الشرق. إنما أن للشرق ثقافةٍ وتراثاً يجب أن يصدر عنهما، مثلما يصدر الغرب عن ثقافته الخاصة. وقد عكست أعمال قاسم آراءه الخاصة حول وحدة الكون وانسجامه. فصوت المرأة يعبر عن المرأة من حيث هي كذلك، وصوت الرجل يعبر عن نظرة الرجل الخاصة لما حوله. كذلك يتمتع الحيوان بنبل وكبرياء صادرة عن حيوانيته بالذات كما في رواية (تجلي السر) مثلاً.
وقد تتواتر هذه السيرة الذاتية - بمعناها الجمعي - في سياقات أخري، أوقل في رسائل أخري، بتجلياتها الفردية. فنعثر بين طياتها علي عبد الحكيم الإنسان، الزوج، الأب والصديق. والبداية من عبد الحكيم الزوج الذي اتخذ قرار السفر إلي ألمانيا تحت وطأة ظروف عائلية مضطربة »كانت الحياة في الأسرة قد أصبحت جحيماً، لم يكن بالوسع أن تستمر أمي مع زينب في بيت واحد، ولم يكن ممكناً أن تبقي في الإسكندرية مع منعم، والرجل يريد أن يتزوج، ولا يريد أن يكرر مأساة أمي وزينب، ولم يكن بوسعنا مالياً إفراد منزل خاص لأمي، ولا نطيق إقامتها مع رجل غريب زوج إحدي بناتها«. ذهب حكيم إلي ألمانيا فراراً من ضغوط عائلية، وقدر شخصي يتمثل في الوظيفة. فلم تكن قصة الكاتب الموظف الموهوب والمظلوم تستهويه بحال من الأحوال. وليتواري ماضي الوظيفة، بقوة السفر إلي أوربا، تحت بريق الحصول علي الدكتوراه. علي أن تحل ثنائية الكاتب - الدكتور محل ثنائية الكاتب - الموظف. ومن ثم كان خيار السفر فرصة للتمرد علي هذا القدر. ولا بأس - بعد ذلك - أن يتفرج الأولاد - إيزيس وأمير - علي الدنيا الواسعة، وأن تتم الزوجة تعليمها. كانت بحق »محاولة للخروج« - إذا استعرنا عنوان إحدي رواياته - من قمقم الوضع الاجتماعي، والسياسي والأدبي التعس في القاهرة.
أما حكاية الرحلة إلي »ألمانيا« فتفتح قوساً كبيراً علي العلاقة الشائكة بالغرب. وترفع - من ناحية أخري - غلالة السحر عن أسطورة التقدم الغربي. يتحدث عبد الحكيم بمرارة شديدة عن الظروف التي صاحبت سفره إلي ألمانيا. فقد كان الرجل يظن أن موهبته ككاتب قد أغرت أصحاب العقول هناك بدعوته للدراسة في بلدهم. ولنستمع إلي عبد الحكيم وهو يحكي لصديقه حسني عبد الفضيل عن سذاجة ظنونه »يكاد يخنقني الضحك الآن حينما أتذكر الوهم الذي ركبني في القاهرة، أنهم دعوني لبرلين لأنني كاتب مهم! الأمر يا سيدي أن شخصاً هناك يدعي ناجي نجيب قرأ روايتي وأسرع إلي تسلر يقول له هذا كتاب يهاجم الإسلام ويسمي المتدينين بهائم، وقال له تسلر لندعه إلي برلين«. وينضاف كلام عبد الحكيم عن نظرة أوربا إلي العرب والمسلمين علي محور الاستشراق، أوالشرق المُتخيل كما أشار إليه إدوارد سعيد. فلا »تسلر« دعا عبد الحكيم إلي ألمانيا لأنه كاتب مهم، ولا القومية الألمانية ستتنازل عن نظرتها للعرب بوصفهم همج. والمهم في كلام عبد الحكيم عن صورة العربي في أوربا - علي وجه التحديد - هوالدور المؤسس الذي تلعبه هذه الصورة في ذاكرة أوربا. علي النحوالذي يمكن القول معه إن وجود أوربا نفسه يستمد قوته من ازدراء ثقافات العالم الثالث »هذا الاعتقاد الراسخ الديني بأنهم هم الناس، والآخرون الهمج«.

وكان مرض أمل دنقل وزيارة عبد الحكيم له في القصر العيني مناسبة حركت ذكريات الأخير حول المرض والموت. يتذكر عبد الحكيم كيف أُجبر علي عدم مغادرة قريته بعد خروجه من سجن الواحات. لكنه قرر - رغم كل شيء - أن يزور صديقه محمد أبوهاشم، ذلك الذي كان قد توفي بعد معاناة مع المرض تساوي معاناة صديقه أمل دنقل. والصداقة عند عبد الحكيم تتوزع بين صداقة عقدتها الكتابة بين كاتب وكاتب، أو صداقة أقرتها ووطدت أركانها سنوات الطفولة والصبا. من ذلك مثلاً صداقته الوطيدة لمحمد روميش التي تعمقت وازدادت ترابطاً بعد قراءته لليل الرحم. وصداقته لبهاء طاهر التي بدأت بكراهيته لقصة الخطوبة، وانتهت عشقاً لكتابته.
وأخيراً، فلست بحاجة إلي القول إن الكتاب - بما يتضمنه من آراء، أفكار ووقائع - يمثل إضافة حقيقية لمعرفتنا عن ثقافتنا المصرية في حقبة لاتزال تثير الجدل. ناهيك عن أن الكتاب يفتح النقاش حول مصادر ذاكراتنا الثقافية، وسبل دعمها ونشرها. هذا بالإضافة إلي توثيق علاقتنا بمثل هذا اللون من ألوان الكتابة. والحق أن محرر الكتاب - محمد شعير - قد استطاع بجده واجتهاده أن يضيء لنا جانباً من تاريخنا الثقافي لم نعرفه بعد حق المعرفة، فضرب لنا مثلاًَ لن ننساه. فهو كتاب كبير، حرره كاتب كبير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.