لصحافة البريطانية التي تزعم أنها حرة، تستطيع ان تستشيط غضباً ضد جرائم الحكومة البورمية، بينما لا تجد ما تقوله عن التدمير الأمريكي البريطاني الجاري في العراق. في كتابه "شبكة الإرهاب الحقيقية"، يصف محلل الإعلام الأمريكي ادوارد هيرمان نمطاً ثابتاً تتبعه وسائل الإعلام الجمعي في انتقائها للأخبار، فيقول إنّ "أحد أبرز سمات ذلك النمط، التشديد علي سوء سلوك "العدوّ"، ومشاكله، والتغاضي الموازي لذلك عن سوء سلوك "الأصدقاء" ومشاكلهم". وكشْف هذه الحقيقة يصدم المرء، لأن وسائل الإعلام الجمعي "حرة"، ولا يفترض بها ان تلعب دور الجهاز الدعائي للدولة و"أصدقائها". ومن الصعب العثور علي مثال علي هذا النمط، أوضح من رد فعل وسائل الإعلام الحالي علي الإعصار الذي ضرب بورما في الآونة الأخيرة. فقد كان الانتقاد الذي صُبَّ علي الحكومة البورمية لرفضها قبول المعونات الخارجية شديداً وقاسياً، حيث وصف رئيس الوزراء البريطاني، جوردون براون، أعمال الحكومة البورمية بأنها "غير مقبولة علي الإطلاق". وتحدّث وزير الخارجية البريطاني، ديفيد ميليباند، عن "إهمال خبيث". كما اعتبر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي تراخي الحكومة البورمية "ذميماً علي نحو مطلق". وسارت وسائل الإعلام البريطانية علي النهج ذاته. ففي صحيفة "الجارديان"، هاجم كيم فليتشر الجنرالات البورميين لأنهم "بذلوا قصاري جهدهم لمنع العالم من أن يشهد الطريقة العقيمة التي يبدو انهم تعاملوا بها مع الدمار الذي حلّ ببلادهم". وفي نهاية الأسبوع الماضي، اقترح مقال رئيسي نُشر في صحيفة الصنداي تلغراف، علي غزاة أفغانستان والعراق، أن يقوموا بالتدخل عسكرياً مرة أخري، وهذه المرة لإجبار بورما علي قبول المساعدات، وجاء في ذلك المقال: "يتطلب انتهاك الأجواء البورمية الذي لا بدّ منه، حماية طائرات نقل البضائع بالمقاتلات. ولن يرقي الأمر الي مرتبة غزو البلاد. ولكنه سيعني استخدام القوة لإيصال المعونات الي الناس الذين هم في أمسّ الحاجة اليها". إنها أول حرب مساعدات! وهؤلاء الصحفيون، هم أنفسهم الذين أبدوا لامبالاةً تامة إزاء معاناة العراقيين علي يد الغزو الأمريكي البريطاني. ففي الشهر الماضي، وردت كلمتا "بورما" و"إعصار"، في 297 مادة صحافية نُشرت في الصحف البريطانية الوطنية. وفي السنة الماضية، لم يرد ذكر "العراق" و"الخسائر في صفوف المدنيين" سوي في 66 مادة صحافية. وفي يناير 2007 تقدم 100 طبيب بريطاني بارز بطلب الي الحكومة البريطانية، لإرسال معونة طبية عاجلة الي مستشفي أطفال عراقي- أي نفس نوع المعونة التي تُصرّ الحكومة البريطانية الآن علي أنه ينبغي علي بورما قبولها. ولكن توني بلير رفض إرسال أي معونة إضافية، بل رفض حتي مقابلة الأطباء. ولم تنبسْ الصحافة ببنت شفة. ولم يرد ذكر طلب الأطباء إلاّ مقتضباً، وفي مقالتين اثنتين فقط، نُشرتا في صحيفة الاندبندنت- ولم تتحدث أي وسيلة إعلامية أخري عن الموضوع. وهؤلاء الصحافيون الذين لاذوا بالصمت، هم الصحافيون ذاتهم الذين يستشيطون غضباً الآن، بسبب ما تمارسه الحكومة البورمية من سلب، يحدث فعلاً. في وقت أقرب من ذاك، تجاهل ساستنا وصحفيونا مصير العراقيين في ظل الهجمات التي تُشّنّ بقيادة الولاياتالمتحدة في مدينة الصدر والموصل. ومدينة الصدر وغيرها من المناطق الشيعية الكبري في بغداد، تخضع للحصار منذ ما يزيد علي شهر؛ ويكافح ملايين الناس هناك لكي يظلوا علي قيد الحياة. وفي الأول من مايو، ذكر الصحافي العامل في صحيفة الاندبندنت، باتريك كوكبيرن، وهو استثناء مشرّف لما درجت عليه الصحافة البريطانية، أن "خسائر الشيعة فادحة. فقد ذكر ناطق حكومي عراقي عن الجانب المدني في العمليات الأمنية في بغداد، أن 925 شخصاً قُتِلوا، و2605 أشخاص جُرحوا في مدينة الصدر منذ بدأ رئيس الوزراء، نوري المالكي، هجومه ضد الحركة الصدرية في 25 ابريل. وفي 13 مايو، ذكر كوكبيرن ان أكثر من ألف شخص، معظمهم من المدنيين، قُتِلوا خلال هجمات الحكومة العراقية المدعومة من قبل الولاياتالمتحدة. وفي أحد الاشتباكات في مدينة الصدر، ادعت الولاياتالمتحدة أنها قتلت 28 فرداً من رجال "المليشيا" الشيعية، ولكن المسؤولين في المستشفي، قالوا انهم تلقّوا 25 جثة، معظمها لمدنيين. نشرت صحيفة "الاندبندنت" في الأسبوع الماضي ما باح به الفريق ريكاردو سانشيز، الذي كان قائداً للقوات الأمريكية في العراق سنة 2003-2004. ففي مذكراته التي نُشرت في الآونة الأخيرة، بعنوان ''الأحكم في الحرب"، وصف كيف أن بوش شخصياً، أمر بالقبض علي الزعيم الشيعي مقتدي الصدر أو قتله. وأنّ بوش قال خلال مؤتمر صحافي بالفيديو، في 7 ابريل 2004:ان جيش المهدي قوة معادية. ولا يمكن ان نسمح لرجل واحد (أي مقتدي الصدر) ان يغير مسار البلاد. وفي نهاية هذه الحملة يجب ان يكون الصدر قد رحل. وفي الحد الأدني للأمور، سوف يلقي القبض عليه. ومن الضروري جدّاً التخلص منه". وقد شدّد بوش علي هذه النقطة قائلاً: "إبْقوْا أقوياء! أكملوا المشوارّ أُقتلوهم! هيمنوا! سوف نمحوهم! ولن نتغاضي عنهم!". هذه هي أخلاقيات الاستئصال من خلال استعمال أقصي القوة..الأخلاقيات التي جلبت الكارثة للعراق. وفي الأسبوع الماضي، وصف الروائي السياسي، جور فيدال، بوش بدقة شديدة، حين قال: "انهما، تشيني وبوش، أرادا الحرب. وهما رجلان نفطيان. ويريدان حرباً للحصول علي المزيد من النفط. وهما الي ذلك، غبيان علي نحو غريب. ومِثلهما لا يعرف أي شيء عن أي شيء". وكانت صحيفة "الاندبندنت"، الوحيدة التي ذكرت رواية الجنرال سانشيز القاتمة. ولم يعثر بحث أُجري في قاعدة بيانات، إلاّ علي خمس مواد صحافية، توفر تغطية للقتال في مدينة الصدر علي مدي الشهر الماضي، في الصحف البريطانية الجادة بأجمعها. كما تخيم اللامبالاة علي التغطية الاعلامية للهجوم علي الموصل، إحدي أكبر المدن العراقية، التي توصف، هي أيضاً، بأنها "مدينة أشباح". وحسبما جاء في تقرير إعلامي نادر، تبدو الموصل "مدمرة وخاضعة للحصار. فكل زقاق فيها مغلق بالحواجز، والبناء الجديد الوحيد الذي يجري فيها، هو إقامة الجدران الاسمنتية الواقية من المتفجرات". ومما يبعث علي الدهشة ان الصحافة البريطانية التي تزعم أنها حرة، تستطيع ان تستشيط غضباً ضد جرائم الحكومة البورمية، بينما لا تجد ما تقوله عن التدمير الأمريكي البريطاني الجاري في العراق. ومع ذلك تحسّ تماماً بأنها طبيعية، مثل الهواء الذي نتنفسه. وكما يعلق ادوارد هيرمان قائلاً: "تستمر مقدرة البشر علي التفكير في القضايا بطرق منفصلة، وقمع الحقائق المزعجة، في ارتياد آفاق جديدة في خدمة المطالب السياسية المتغيرة باستمرار.