يضم 13 طابقًا.. محافظ كفر الشيخ يتابع إزالة برج سكني مخالف بدسوق|صور    بعد توجيه السيسي.. إليك تخصصات البرمجة الدراسية وعلوم البيانات بالجامعات المصرية    وزير المالية: نتطلع إلى دور أكبر للمؤسسات المصرفية العالمية للتحول للاقتصاد الأخضر    المؤتمر: مركز الحوسبة السحابية يعزز مكانة مصر كمركز رقمي لنقل البيانات    وزير التعليم: الصورة الذهنية عن التعليم الفني تغيرت.. وطلابه محجوزون للعمل قبل تخرجهم    طعنة ل سموتريش وبن غفير.. خلافات إسرائيلية بشأن هجوم رفح وصفقة الرهائن    الخارجية السعودية: إعلان دولة فلسطينية مستقلة هو الضامن الوحيد لعدم تكرار الحرب    شكري وبوريل يتفقان على تبادل التقييمات مع الأطراف الدولية لإنهاء مأساة غزة    الأونروا: أنباء عن وفاة طفلين على الأقل بسبب الحر في غزة    الاتحاد الأوروبي: بوادر الحرب العالمية عادت من جديد، والمواجهة النووية احتمال واقعي    جاهز لمباراة الإسماعيلي.. بشرى سارة لجماهير الأهلي بشأن نجم الفريق    خالد الغندور يطرح سؤالا على الجمهور قبل لقاء الزمالك ودريمز الغانى    منتخب الجودو يحصد ذهبية الفرق في البطولة الأفريقية "القاهرة 2024"    بعد قرار المحكمة.. بلوجر شهيرة تواجه عقوبات رادعة بسبب بث فيديوهات خادشة    حصيلة نشاطه 20 مليون جنيه.. ضبط صاحب شركة يتاجر فى العملات الأجنبية    الإعدام لعامل قتل شابا من ذوي الاحتياجات الخاصة بواسطة كمبروسر هواء    تعرف على الروايات المرشحة لجائزة البوكر قبل إعلانها اليوم    طريقتك مضايقاني.. رد صادم من ميار الببلاوي على تصريحات بسمة وهبة    صدى البلد يكرم منة فضالي بعد نجاحها في موسم رمضان الدرامي.. صور    مساعد وزير الصحة: انخفاض نسب اكتشاف الحالات المتأخرة بسرطان الكبد إلى 14%    إنتر يواصل احتفالاته بلقب الدوري الإيطالي بثنائية أمام تورينو    حسام غالي يكشف مفاجأة لأول مرة عن لاعبي الأهلي أثناء توقف النشاط الرياضي    وزير العمل يعلن موعد إجازة عيد العمال وشم النسيم للعاملين بالقطاع الخاص    ألمانيا: دويتشه بان تعتزم استثمار أكثر من 16 مليار يورو في شبكتها هذا العام    استعدادا لشم النسيم.. الزراعة: طرح رنجة وفسيج بالمنافذ بتخفيضات تتراوح بين 20 و30%    تأجيل محاكمة المتهمين في عملية استبدال أحد أحراز قضية    الأولى منذ الحرب.. وصول وزير الخارجية البحريني في زيارة إلى دمشق    رئيس هيئة الدواء يبحث سبل التعاون لتوفير برامج تدريبية في بريطانيا    رئيس جامعة بنى سويف الأهلية يناقش الخطة المستقبلية للعام المقبل    طلقها 11 مرة وحبسته.. من هو زوج ميار الببلاوي؟    مؤتمر بغداد للمياه.. سويلم: تحركات إثيوبيا الأحادية خرق للقانون الدولي وخطر وجودي على المصريين    الزنك وزيت بذور القرع يسهمان في تخفيف أعراض الاكتئاب    تفاصيل لقاء هيئة مكتب نقابة الأطباء ووفد منظمة الصحة العالمية    مدير تعليم الدقهلية يناقش استعدادات امتحانات الفصل الدراسي الثاني    الرئيس السيسي: «متلومنيش أنا بس.. أنا برضوا ألومكم معايا»    فيلم «أسود ملون» ل بيومي فؤاد يحقق المركز الرابع في شباك التذاكر    بحضور محافظ مطروح.. «قصور الثقافة» تختتم ملتقى «أهل مصر» للفتيات والمرأة بالمحافظات الحدودية    انطلاق المراجعات النهائية لطلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية بمطروح    موعد مباريات اليوم الثالث بطولة إفريقيا للكرة الطائرة للسيدات    سفير روسيا بمصر للقاهرة الإخبارية : علاقات موسكو والقاهرة باتت أكثر تميزا فى عهد الرئيس السيسى    «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية في قرية جبل الطير بسمالوط غدا    الأرصاد الجوية تعلن حالة الطقس المتوقعة اليوم وحتى الجمعة 3 مايو 2024    أجمل دعاء للوالدين بطول العمر والصحة والعافية    أعاني التقطيع في الصلاة ولا أعرف كم عليا لأقضيه فما الحكم؟.. اجبرها بهذا الأمر    تأجيل محاكمة 11 متهمًا بنشر أخبار كاذبة في قضية «طالبة العريش» ل 4 مايو    اليويفا يكشف النقاب عن حكم مباراة ريال مدريد وبايرن ميونخ في ذهاب نصف نهائي تشامبيونزليج    اعرف مواعيد قطارات الإسكندرية اليوم الأحد 28 أبريل 2024    صحة غزة تعلن ارتفاع حصيلة ضحايا العدوان الإسرائيلي ل 34 ألفا و454 شهيدا    جامعة بني سويف: انطلاق فعاليات البرنامج التدريبي للتطعيمات والأمصال للقيادات التمريضية بمستشفيات المحافظة    ضبط 4.5 طن فسيخ وملوحة مجهولة المصدر بالقليوبية    مطران دشنا يترأس قداس أحد الشعانين (صور)    ما هي شروط الاستطاعة في الحج للرجال؟.. "الإفتاء" تُجيب    «فوبيا» تمنع نجيب محفوظ من استلام «نوبل»    خلال افتتاح مؤتمر كلية الشريعة والقانون بالقاهرة.. نائب رئيس جامعة الأزهر: الإسلام حرم قتل الأطفال والنساء والشيوخ    غدًا.. تطوير أسطول النقل البحري وصناعة السفن على مائدة لجان الشيوخ    تقييم صلاح أمام وست هام من الصحف الإنجليزية    سعر الدولار الأحد 28 أبريل 2024 في البنوك    تصفح هذه المواقع آثم.. أول تعليق من الأزهر على جريمة الDark Web    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخروج من العراق: خطة عملية للانسحاب الآن (5)
نشر في الشعب يوم 20 - 01 - 2007

سيظل العراقيون يتذكرون الفلوجة كما تذكر الروس ستالينجراد، فهي ايقونة الكفاح الضاري لصد الغزاة
بوش لبريمر: أريد شخصا يكون ممتناً لنا. رئيس وزراء جديدا لن يطلب منا أن نغادر في يوم الحصول علي السيادة

بعض فصول الكتاب الهام الذي سيصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت وضعه الباحثان الدكتور جورج ماكجفرن والدكتور وليام بولك، ويقترح الباحثان في كتابهما خطة عملية للانسحاب من العراق الآن .
كارثة ما بعد الاحتلال

في سياق هذا القنوط المنتشر والمتنامي، بادرت حكومة الولايات المتحدة الي تأسيس نظام جديد في العراق. جاءت الخطوة الأولي سريعاً بتعيين فريق انتقالي برئاسة جنرال امريكي متقاعد هو جَيْ جارنر وكان أحد مقاولي وزارة الدفاع ويعرف في الشرق الأوسط بعلاقاته الوثيقة مع اسرائيل. وفي 24 أيار (مايو) أُبدل وعيِن مكانه بول بريمر وهو سفير سابق وكان في ذلك الحين من رجال الأعمال، ومن أول أعماله في العراق اصداره قراراً بحل الجيش العراقي. لعل ذلك كان أهم قراراته، ذلك أن المسرحين المهزومين المكتئبين وهم بملابسهم الرثة الممزقة أخذوا معهم، أو نهبوا، أسلحتهم وهم في طريقهم الي بيوتهم. وحين وصلوا وجدوا الدمار في كل مكان. ان عدداً من أقربائهم وأصدقائهم ممن لم يقتلوا كانوا جرحي بحاجة الي عناية طبية غير متوافرة. لم يكن لدي الجميع نقود. وكان الغذاء شحيحاً بحيث ان خطر المجاعة كان موجوداً وواضحاً. وكان الكل يشعر باليأس، فحتي الذين لديهم مهن أساسية كالأطباء لم يكونوا يتقاضون رواتبهم. واضطرب الأمن لأن أفراد الشرطة الذين لم تدفع لهم رواتبهم تركوا أعمالهم. ان مدناً بأسرها لا يوجد فيها رجال لاطفاء الحرائق. وهكذا فان الجنود السابقين، وهم مدفوعون بالجوع أو بالجشع، قاموا بتأليف العصابات وذلك لحماية ما لديهم أو للحصول علي ما هم بأمس الحاجة اليه. ان النهب غدا نوعاً من التسوق. ظل الجيش الامريكي لا يفعل سوي مشاهدة التدمير من دون اصدار الأوامر لايقافه. كانت الأضرار بالغة في كل مكان، أما بعضها كالمتحف العراقي الكبير في بغداد فكانت الخسارة فيه خسارة لا تعوض للثقافة العالمية.
لم يجر الاستعداد الكافي لمواجهة الكارثة. كانت قد شكلت لجنة باسم مستقبل العراق فوضعت دراسة استغرق اعدادها سنة كاملة، ولكنها اختفت في أروقة وزارة الدفاع ولم تعرض علي القادة العسكريين ولا علي مسؤولي الحكومة لقراءتها. أما المسؤول من وزارة الخارجية الامريكية الذي أشرف علي اعداد الدراسة وهو توماس واريك، فقد تم الوقوف في طريقه من قبل وزارة الدفاع لكي لا يلتحق بادارة بريمر في بغداد، والتي لم يكن فيها من يعرف اللغة العربية معرفة حسنة أو من ذوي الفهم العميق للعراق سوي شخص واحد هو السفير هيوم هوران. لا بل ان أحداً لم يفكر بضرورة اعطاء معلومات كافية لكبار العسكريين بحيث ان عدداً منهم لا يعرف الفرق بين الكردي والعربي، أو بين السُنِي والشيعي، أو الذي لا يفرق بين الشخص الذي يقوم بالتعذيب للسجناء في أبو غريب وبين الذين عذبهم في السجن الذي يديره. أما العراقيون الذين كانوا في الخارج من الذين علي صلة بالامريكيين فكانوا هم أنفسهم من غير معرفة قريبة بالمجتمع العراقي. كان كثير منهم خارج العراق علي مدي عقود من الزمن. لم يقدم أحد منهم نصيحة وافية بالغرض بشأن كيفية تلبية الحاجات العاجلة لشعبٍ جائع أو مشلول أو مشرد، كما ان بعضهم لم يكونوا يتمتعون بالثقة من اخوانهم العراقيين لا بل كانوا ممقوتين منهم كل المقت. لم تكن تلك بداية تبشر بالنجاح. وهي سارت من سيء الي أسوأ.
ان آلاف العراقيين خرجوا الي الشوارع بشكل عفوي من دون وجود من يقودهم في مظاهرات كانت في البداية سلمية في الموصل والفلوجة وبغداد وغيرها من المدن. كانوا يطالبون بالخبز. ولكن الجنود الامريكيين الخائفين، وغير المستعدين، ولا يعرفون من الأمور شيئاً، فتحوا النار عليهم. فالفلوجة التي يقطنها نحو (350) ألف نسمة قد صارت عنواناً للاحتلال، وقتل فيها خمسة عشر من المتظاهرين المحتجين في نيسان (أبريل) 2003 من قبل الجنود الامريكيين، فكانت تلك هي الشرارة التي أشعلت الهجوم الخطير الأول الذي شن علي القوات الامريكية. كانت تلك هي بداية التمرد العراقي.

لماذا يهاجم العراقيون من حررهم؟

كان رد الفعل الامريكي هو الاستغراب، فلماذا يهاجم العراقيون الامريكيين؟ لا شك في أنهم يعرفون أن الامريكيين قد حرروهم من الطغيان الشنيع لصدام وكانوا يحاولون كل الجهد لتلبية حاجاتهم. كان تفسير الامريكيين الوحيد هو أن الهجمات لا تكون تمرداً شعبياً وانما هي فقط من عمل المجرمين وقلة من بقايا البعثيين . ان بعض المحتجين كانوا بالتأكيد من بقايا النظام القديم، وان البعض كانوا بالتأكيد من المجرمين، ولكن ثمة مجموعات صغيرة لم تكن لا من هؤلاء ولا من أولئك سرعان ما ائتلفت لتكوين جماعات أكبر استجابةً للحوافز القومية، كما ان عمليات النهب قد حلت محلها هجمات تجري لأغراض سياسية. تركزت هذه الهجمات بحنكة متزايدة علي أهداف كان المتمردون يأملون كما هو واضح أن تجعل الامريكيين يغادرون البلاد. بحلول منتصف صيف عام 2003 كانت بعض تلك الهجمات واسعة نسبياً، فأنابيب النفط (التي رأي عدد من العراقيين أن الحصول عليها هو هدف الغزو الامريكي) نسفت مرتين في أغسطس. كما ان العراقيين الذين يُظن أنهم من المتعاونين مع الامريكيين جرت مهاجمتهم كذلك. لا بل حتي مقر الأمم المتحدة قد تعرض للنسف.
ولما انتشرت الهجمات وغدت أكثر نظامية، لم يعد كافياً القاء اللوم علي بقايا البعثيين ، فأخذ البحث يجري عن ارهابيين أجانب. وحيث قام كولن باول وزير الخارجية بزيارة الي بغداد في شهر سبتمبر ذاك، قيل له ان ما يصل عدده الي ألفي مقاتل أجنبي كانوا يعملون هناك. كانت الاستجابة الامريكية تتلخص في العودة الي العمل العسكري الصرف، علي منوال الصدمة والترويع تقريباً. وبحلول نهاية عام 2003 أخذت القوات البرية تطالب بضربات جوية، وقد استخدمت هذه قنابل وصواريخ تزن الواحدة منها ألفي باوند، وجري ذلك للمرة الأولي منذ أن استسلمت القوات المسلحة العراقية في شهر أبريل. كانت تلك الأسلحة الثقيلة تسوي المباني بالأرض في حارات سكنية بكاملها. غالباً ما كانت هذه الضربات تتبع بغارات عنيفة جداً من طائرات مسلحة من نوع (AC-130 Speetre) التي كانت تجرح أو تقتل أعداداً كبيرة من الناس بشكل لا مناص منه. كذلك قامت القوات الامريكية باقتلاع البيوت والأشجار التي في محاذاة الشوارع وذلك لجعل زرع الألغام عملية أكثر صعوبة ولمعاقبة المشتبه بهم من المساندين للمتمردين. وعلي الرغم من التهمة التي وجهتها منظمة العفو الدولية ومفادها أن التكتيكات الامريكية تنتهك مواثيق جنيف، فان قائد اللواء 82 المجوقل الذي كان عنصراً رئيسياً في مقاومة التمرد قد قال: هذه حرب ونحن لن نقوم بشن الحرب مكتوفي الأيدي. وحين نشخص بشكل مؤكد هدفاً للعدو فسنمصي قدماً ونقضي عليه بكل وسيلة متوفرة لدينا . وفي جوابهم من ذلك استخدم المتمردون ما يتوافر لديهم من أسلحة أو ما يستطيعون صنعه بأنفسهم، لا بل انهم استخدموا وسائل بدائية كالعربات التي تجرها الحمير لاطلاق الصواريخ منها، كما انهم أخذوا يصنعون الألغام من القنابل التي أسقطتها الطائرات ولم تنفجر ويقدر وزنها بثلاثة ملايين طن، وكذلك من قذائف المدافع المتروكة. ودخلت كلمة جديدة في قاموس اللغة العسكرية وهي (Improvised Explosive Devices (IED) المؤلفة من الحروف الأولي من الصيغة الانكليزية والتي ترجمتها معدات التفجير المرتجلة . كانت هذه القذائف من أشد الأسلحة فتكاً التي في أيدي المتمردين. ان أعداداً كبيرة من الهجمات كانت تشن من قبل المسلمين السُنَة، ولكن وبحلول شهر حزيران (يونيو) 2003 أخذ الشيعة يشاركون فيها. وقد قام زعماء الشيعة الدينيون بتحذير السلطات الامريكية سراً قائلين انهم مع تقديرهم لقيام الامريكيين بالاطاحة بصدام حسين، فان الوجود الامريكي في العراق لأكثر من بضعة أشهر لن يكون أمراً مقبولاً من قبل أتباعهم.

تدمير الفلوجة

ان الخوف من ميتة عنيفة كان ولم يزل معششاً في عقول معظم العراقيين، علي الأقل أولئك الذين يعيشون في المدن الكبيرة، حيث الحماية التقليدية التي تقدم من أبناء العشيرة والجيران هي الأضعف. والقوات الامريكية لا تحفظ سجلات بعدد المتوفين المدنيين، كما زعم ان سلطة الائتلاف المؤقتة قد أمرت في ديسمبر 2003 وزارة الصحة العراقية بالتوقف عن جمع احصاءات عن الاصابات المدنية. ولكن منظمتين انكليزيتين حاولتا القيام بذلك. احداهما هي المجلة الطبية الانكليزية المحترمة جداً والمسماة ذي لانسيت (The Lancet) وقد أجرت مسحاً عاماً يستند الي عينة من 998 بيتاً في 33 مجمعاً سكنياً. جري ذلك المسح في ظروف صعبة للغاية، ونشر التقرير في نوفمبر 2004، فوجهت اليه انتقادات كثيرة بحجة أنه مبالغ فيه. ولكنه أُخضع الي تدقيق عسير ومراجعة معمقة قبل نشره. ولم يسبق قبله أن جري مسح شامل مثله. توصل التقرير الي النتيجة التالية: ان عدد الوفيات ذات الصلة بغزو العراق واحتلاله من المحتمل أن يبلغ نحو ألف نسمة، وقد يكون أكثر من ذلك بكثير.. وان أكثر من نصف الوفيات التي ذكر أنها سببتها القوات المحتلة هو من النساء والأطفال .
أما المنظمة الثانية والمعروفة باسم Iraq Body Count فقد قدرت الاصابات المدنية بطريقة مختلفة: انها لا تحصي الاصابات الا حين تذكرها اثنتان من وسائل الاعلام في الأقل. لذلك فهي تقول ان الأرقام التي تنشرها هي أقل من الأرقام الحقيقية. ولكنها مع ذلك أرقام مفزعة: لقد كانت من 1 مايو 2003 الي 30 أبريل 2004 تبلغ 6.331 اصابة، وكانت من 1 مايو 2004 الي 30 أبريل 2005 تبلغ 11.312 اصابة، وكانت من 1 مايو 2005 الي 28 فبراير 2006 12.617 اصابة. ان هذه الأرقام تعني أن متوسط الاصابات اليومي هو عشرون اصابة في اليوم الواحد في السنة الأولي، و(31) اصابة يومياً في السنة الثانية، و(36) اصابة يومياً في السنة الثالثة غير الكاملة.
من أسباب الموت والمرض الأخري الأقل اثارة، والذي سيبقي علي مدي عقود لأجيال قادمة، هو استخدام القذائف المعدنية ذات اليورانيوم المنضب في القتال ضد الدبابات. كانت هذه القذائف قد استخدمت في حرب عام 1991 وفي غزو عام 2003 معاً.
ان النتائج المستخلصة من دروع الدبابات العراقية المدمرة بواسطة مثل هذه القذائف، تبين أن مستوي الاشعاع فيها يبلغ (2500) مرة أكبر من المستوي المعتاد، والمعروف أن اشعاع الأنقاض لما يقدر بألف طن من اليورانيوم المنضب قد حملته الرياح في كل اتجاه. وقد أظهرت الدراسات التي أجراها اختصاصيون طبيون أن أعداداً كبيرة من الأطفال العراقيين قد أصيبوا بمرض اللوكيميا ( سرطان الدم ) وغيره من التشويهات الخلقية وذلك بعد حرب 1991.
هناك عدد من المدن العراقية تعتبر بحكم المبادة بفعل العمليات التي جرت ضد المتمردين. ولنضرب مثلاً علي مدينة واحدة وهي مدينة الفلوجة. لم يكن يميز الفلوجة في السابق الا القليل، ولكن هناك الكثير مما يميزها الآن. انها تكاد تكون مدمرة بالكامل. وقد وصف أحد المراسلين الزائرين الذي رافق القوات الامريكية، والتي أرسلت لقمع المتمردين هناك، المدينة بقوله انها لوحة من المباني المدمرة، والسيارات المحروقة، والجوامع المنهارة، وأكداس الأنقاض . وقد غادر نحو مئتي ألف نسمة من سكانها خلال القتال هاربين من المدينة. أما الذين بقوا فيها فقد اعتبروا من المتمردين، فقتل الكثير منهم عشوائياً، لا بل حتي ان سيارات الصليب الأحمر المحملة بالأدوية قد منعت من الوصول الي مستشفي المدينة وكان قد منع الدخول اليه أمام الجرحي.
بلغ القتال حداً من الضراوة بحيث ان الحاكم الامريكي بول بريمر رأي أن الاستمرار في العمليات العسكرية سيؤدي الي انهيار المفاوضات التي كان يجريها لتشكيل مجلس حكم مؤقت في العراق. ولكن قائد مشاة البحرية في الفلوجة مضي قدماً في العملية، كما انه عين ضابطاً كبيراً من البعثيين سابقاً ليساعده في السيطرة علي المدينة. قال بريمر انه يظن ان القائد العسكري الامريكي، الجنرال ريكاردو سانشيز (Ricardo Sanchez) ، والذي أراد ايقاف القتال مؤقتاً في الأقل كان قد استُغفل من قبل قائد مشاة البحرية في الفلوجة . ولئن كان الوضع في المقر مرتبكاً فانه كان علي الأرض كارثياً. وقد أفادت الأنباء أن الكثير من اطلاق النار لم يكن تحت السيطرة. وقد نقل أحد تقارير الأخبار نقلاً عن عريف في مشاة البحرية قوله انه رأي زملاءه يقتلون ثلاثين مدنياً عند نقطة تفتيش في يوم واحد فقط. قال ذلك العريف: اننا نقترف ابادة جماعية . وبحلول ديسمبر 2004 كانت أكثر من مئتي بناية قد سويت بالأرض، بحيث ان أسلاك الكهرباء المدفونة فيها قد تلفت الي درجة قال عنها المهندسون الامريكيون انها غير صالحة ويجب ابدالها.
بلغ وزن الذخيرة التي أطلقت حداً يفوق المعتاد. ان جندياً واحداً من مشاة البحرية أطلق خمساً وثلاثين قذيفة مدفعية ثقيلة أو أكثر، اضافة الي ثلاثين ألف رشقة من البنادق والرشاشات ضد قناص واحد كان يطلق النار. أما الأكثر تدميراً من القذائف الثقيلة والذخائر الخفيفة فهو السلاح الكيميائي المحرم دولياً والذي استخدمته القوات الامريكية في المعارك بحيث قال أحد العراقيين ان ذلك تذكير أسود بالغازات التي أطلقها صدام حسين علي الأكراد في 1988 . ذلك السلاح الكيميائي هو الفوسفور الأبيض الذي يحرق جميع الموجودين في مدي مئة وخمسين متراً بحيث تصبح جلود الضحايا بنية اللون. ان الفوسفور الأبيض محرم دولياً، وجري نفي استخدامه في البداية، ثم أقر ناطق عسكري بأنه قد استخدم ولكن فقط للاضاءة الليلية. غير أن صوراً وثائقية التقطها أحد الايطاليين تظهر واقعاً مختلفاً ومريعاً جداً: فبعض الضحايا راقدون في أسرتهم وأجسادهم محروقة بالتمام.. ان عدد الاصابات المدنية غير معروف، ولكن المعتقد هو أنه يبلغ الآلاف. لقد قيل للقوات الامريكية ان مدينة الفلوجة هي منطقة حرة للنيران وان أي شخص، من أي عمر أو جنس كان، هو هدف يجب اطلاق النار عليه. أما القائد الامريكي الذي هو برتبة جنرال فقد قال انه لا يعلم عن وجود أية اصابات مدنية.
أظهر الناجون غضبهم أمام الصحافيين، وكانوا ندرة نادرة، ممن كانوا يرافقون القوات وذلك بأن كانوا يصرخون: الامريكان هم الارهابيون. انهم يقتلون باستمرار النساء والأطفال العراقيين.. الموت للامريكان . وقال أحدهم: ليس لدينا دبابات ولا طائرات نفاثة.. سلاحنا الوحيد هو القرآن . سيظل العراقيون يتذكرون الفلوجة كما تذكر الروس ستالينغراد، فهي ايقونة الكفاح المستقتل لصد الغزاة. ومما لا يمكن تصديقه أن بعض الامريكيين في الأقل كانوا في غفلة عن الألم الذي سببوه، ففي احدي مراحل القتال قال قائد اللواء 82 المجوقل: نظن أننا سنري اليوم الذي نلعب فيه معهم كرة القدم ويعني سكان الفلوجة. ولكن لن يكون ذلك خلال أسابيع .
لم تكن الفلوجة هي المدينة العراقية الوحيدة التي دمرت بحثاً عن الأمن. ان قائمة المستوطنات المدمرة هي في الواقع طويلة. ويحسن بالامريكيين أن يتذكروا الملاحظة المريرة التي أسندها المؤرخ الروماني تاسيتوس (Tacitus) الي المتمرد بريتنز (Britons) وهو قائد أعداء روما الذي قال: ان الرومان يخلقون خراباً ويسمونه سلاماً .

انهيار النظام

ان السلام أو الاستقرار علي أقل تقدير هو ضحية حرب العصابات دائماً، لذا فقد شهد العراق بالطبع انهياراً في النظام العام، فبعد أن بلغ معدل البطالة ما يقدر بين (30) و(50) في المئة (بحسب المناطق المختلفة)، وهو معدل يفوق كثيراً ما يمكن أن يتحمله أي مجتمع من المجتمعات، غدا عدد كبير من العراقيين في عداد اليائسين المستقتلين الذين لا يردعهم رادع. ونتيجة لذلك تصاعد ارتكاب الجرائم الي مستويات غير مسبوقة، وان كان نزلاء السجون قد ارتفع الي نحو ستة عشر ألف سجين عند تاريخ كتابة هذا الكتاب. وبالنظر الي أن معظم العراقيين يحملون السلاح، فالجرائم بمعظمها تكون مصحوبة عند ارتكابها باستخدام العنف. وقد جاء علي لسان منظمة العفو الدولية في 9 مارس 2006 ان الأمر لم يقتصر فقط علي فشل الحكومة العراقية بتوفير الحد الأدني من الحماية لمواطنيها، بل انها اتبعت سياسة الاعتقال والتعذيب للأبرياء من الرجال والنساء. ان عدم معاقبة الذين اقترفوا التعذيب قد فاقم من تدهور حكم القانون .
كانت كل من الحكومة البريطانية أيام حكمها للعراق سابقاً والحكومة الامريكية اليوم قد زودت العراق بدستور. ان الدستور الانتقالي أي قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية الذي كتبه الامريكيون كانت قد تمت المصادقة عليه بتاريخ 8 مارس 2004 من قبل مجلس الحكم العراقي المعين من الامريكيين. كان ذلك الدستور قد كتب سراً من قبل قانونيين امريكيين دون مشاركة من العراقيين. مع هذا فان وزير الخارجية الامريكي كولن باول قد أثني عليه قائلاً: انه انجاز عظيم ، كما سماه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بأنه حجر الأساس لعراق ديمقراطي. وقبل ثمانين سنة بالضبط، أي في عام 1924، قام الانكليز بالاشراف علي مجموعة من العراقيين المرضي عنهم للقيام بعمل مشابه تماماً. وكما زعم الامريكيون في عام 2004 كذلك كان الانكليز قد أعلنوا في عام 1924 أن الدستور هو بشير الاستقلال. بيد أن العراقيين يتذكرون أن بريطانيا استمرت وبشكل مباشر أو غير مباشر بحكم العراق لمدة أربع وثلاثين عاماً تالية، ويسألون كم من السنين يا تري ستقوم امريكا فعلياً بحكم بلادهم؟
ثمة انطباع واحد يبدو واضحاً: فحين يفكر أبناء الشعب العراقي ببريطانيا والولايات المتحدة الامريكية فهم لا يفكرون بالديمقراطية، وانما تتحرق أذهانهم غضباً وحزناً بشأن الدمار الذي حاق ببلادهم بفعل الأجانب الغزاة.
يقول بول بريمر في كتابه المعنون: سنة قضيتها في العراق متحدثاً عن جهوده لاختيار رئيس وزراء للعراق، بأنه رفض المرشح الذي قدمه وسيط الأمم المتحدة الأخضر الابراهيمي، وهو وزير خارجية جزائري سابق. أراد الابراهيمي من بريمر أن يختار حسين الشهرستاني، وهو عالم نووي درس في امريكا وقد سجنه صدام حسين عام 1979 لمدة أحد عشر عاماً لرفضه التعاون مع برنامج صدام حسين السري لصناعة السلاح. هرب حسين الشهرستاني من السجن في عام 1991 وقضي عدداً من السنوات في العمل في الخارج ضد صدام. وعند عودته الي العراق بعد الغزو في عام 2003، أسس جمعية خيرية خاصة لمساعدة العوائل التي تضررت من الحرب. لذا وجده الابراهيمي مرشحاً لائقاً جداً، ولكن الشهرستاني، شأنه شأن المرجع الشيعي آية الله السيستاني، كان قد رفض اللقاء بمسؤولي سلطة الائتلاف المؤقتة. وحين نقل بريمر ذلك الي الرئيس بوش، فان هذا وكما كتب بريمر، توجه فوراً الي صلب المسألة كما كان يراها وهي ان المهم أن نحصل علي شخص يكون مستعداً للنهوض لشكر الشعب الامريكي علي تضحياته في تحرير العراق. وأنا لا أتوقع أن نختار رجلاً يقول: نعم، فيبصم علي ما نريد. ولكني أريد علي أقل تقدير، شخصاً يكون ممتناً لنا.. علينا أن نتأكد أن رئيس الوزراء الجديد لن يطلب منا أن نغادر في يوم الحصول علي السيادة . وقد قام بريمر بتذكير الرئيس الامريكي وكولن باول ورامسفيلد ورايس الي أي درجة من عدم الشعبية قد آل اليه الائتلاف الذي يتعرض الي ردح متواصل من الدعاية العربية ويخضع الي مخاوف متزايدة تتعلق بالأمن. ولعل الانتهاء الرسمي للاحتلال سيساعد في الحصول علي قبول أكبر بالحاجة الي قوات الائتلاف . ولكن بوش لم يتزحزح. وتم تجاوز الشهرستاني. ومن ثم عين بريمر الدكتور اياد علاوي الذي وعد أن تكون أولي أولوياته مسألة الأمن ، وجري هذا التعيين علي الرغم من معارضة الأخضر الابراهيمي علي أساس العلاقة الطويلة التي تربط علاوي بوكالة الاستخبارات الامريكية.

بوش يتحدث عن فئة وبريمر عن ازمة

في عيد الفصح عام 2004 ألقي الرئيس بوش خطاباً بالراديو ندد فيه بفئة صغيرة تحاول أن تخرج الديمقراطية العراقية عن مسارها ثم تستولي علي السلطة . ولا شك في أن عبارة فئة صغيرة هذه قد استعصت علي البلع في بلعوم بريمر؛ ففي ذلك الوقت كتب هذا الأخير يقول: ان الحالة الأمنية العامة استمرت بالتدهور. فقد شن المتمردون هجمات علي أنابيب النفط، وبذلك حرمت الحكومة من الايرادات النفطية. وكانت الضربات تتوالي علي قوافلنا العسكرية الناقلة للتجهيزات حتي بدا الأمر في 17 أبريل وكأن علي أن أقرر توزيع الطعام بالبطاقات في سلطة الائتلاف المؤقتة. قفز عدد الهجمات قفزة كبيرة في منطقة أبو غريب الواقعة غربي بغداد والتي تسكنها أغلبية سُنيَة، كما ان التقارير الاستخباراتية أفادت بوجود خطط لحدوث انتفاضات شديدة في مدن سُنيَة أخري مثل بيجي وتكريت والموصل . ومن الواضح أن من الصعب التوفيق بين كلام الرئيس بوش وكلام بريمر.
في هذه الأثناء استمرت حالة الشعب العراقي بالتدهور. وقد كتب أحد مراسلي جريدة واشنطن بوست في نوفمبر 2004 يقول: ان سوء التغذية الحاد بين صغار الأطفال، وكان شديداً خلال نظام العقوبات، قد تضاعف منذ قادت الولايات المتحدة غزو البلاد قبل عشرين شهراً؛ فمعدل سوء التغذية الآن هو أعلي من معدله في هاييتي . وأشارت تلك المقالة الي أن (60) في المئة من سكان الأرياف و(20) في المئة من سكان المدن لا يحصلون الا علي مياه ملوثة وأن المجاري لم تزل في حالة يرثي لها. وقال كاتب المقالة المذكورة: ان السكان يقولون ان حكومة صدام أصلحت الكهرباء خلال شهرين بعد انتهاء حرب 1991، ثم نقل الكاتب عن وزير التخطيط العراقي قوله: مع أن نسبة كبيرة في العراق مربوطة بشبكات الماء والكهرباء والمجاري، الا أن الامدادات غير مستقرة الي حد كبير بحيث لا تحدث فارقاً حسناً في حياتهم . والواقع أن نحو (70) في المئة من العراقيين لم يزالوا غير قادرين علي الحصول علي ماء نظيف للشرب والاستحمام. أما الثلاثون في المئة الباقون فان عدداً منهم من الذين يحصلون علي الماء النظيف يترتب عليهم لهذا الغرض أن يسيروا الي مصادره التي تبعد ربع ساعة مشياً لملء الأواني وحملها في أثناء العودة.
وبما أن الكهرباء تعمل مدة قصيرة فقط لا تتجاوز بضع ساعات يومياً فقد تعطلت خدمات كثيرة كمعالجة النفايات وعمليات التجميد والتبريد، وهي من الضروريات في منطقة تبلغ فيها درجة الحرارة في الصيف أكثر من (120) درجة فهرنهايت (أي خمسين درجة سنتجريد). وبما أن المعامل وغيرها لا تستطيع العمل الا جزءاً من اليوم، هذا اذا عملت، فهي بالتالي لا تستخدم عمالاً بمثل الأعداد السابقة، ما أدي الي زيادة نسبة البطالة الي (40)، في المئة وهي ترتفع الي (50) في المئة في بعض المناطق. وكما قال وزير الكهرباء العراقي: حين تفقد البلاد الكهرباء فانها تتحطم .
ان توليد الكهرباء يعتمد بالدرجة الأساسية علي النفط. وكان انتاج النفط متناقصاً الي حدود أدني فأدني. وفي ديسمبر 2005 ويناير 2006 كان هذا الانتاج قد هبط من معدل ما قبل الحرب البالغ مليونين ونصف المليون برميل في اليوم الي أقل من نصف ذلك، أي نحو مليون ومائة ألف برميل يومياً. ولم تكن المسألة محصورة فقط بهبوط الانتاج وبأن زيادته كثيراً أمر غير محتمل في المستقبل المنظور (ويقدر ذلك بعشر سنوات بحسب التنبؤ السائد)، بل يضاف اليها أن سوء ادامة الحقول النفطية أدي الي حدوث أضرار طويلة الأمد فيها بسبب الطريقة التي استغلت بها تلك الحقول، ما أدي بدوره الي تقليل مقدار الاحتياطي فيها والقابل للاستخراج في المستقبل. وهكذا كان العراق يخسر ايراداته الحالية، وليس هذا فقط بل يخسر كذلك موجوداته التي يعتمد عليها في المدي البعيد.
كانت الاستجابة التي أقدم عليها الامريكيون تتلخص باستقدام شركات نفط بريطانية وامريكية. كانت المفاوضات مع هذه الشركات قد بدأت في واشنطن حتي قبل الغزو، واستمرت في بغداد بواسطة سلطة الائتلاف المؤقتة قبل منح السيادة العراقية بوقت غير قصير. وأسفرت النتيجة عن مقاولات تسمي اتفاقيات تقاسم الانتاج لمدة تبلغ خمساً وعشرين سنة أو حتي أربعين، وبموجبها تقوم الشركات الامريكية والانكليزية التي عقدت معها المقاولات التي كانت في صالحها كثيراً بتقديم رأس المال اللازم للبدء بانتاج النفط العراقي. كان ذلك في الظاهر يبدو حلاً بارعاً بل حتي مفيداً، في الأقل للسلطات الامريكية. ولكن الخبراء الدوليين المستقلين أشاروا الي أن تلك الاتفاقيات قد تكلف العراق ما يصل الي مئتي مليار دولار من الايرادات. ان هذه الخطوة لتسليم احتياطيات النفط في العراق الي الشركات الامريكية والبريطانية هي، بالنسبة الي معظم العراقيين، بل الي عدد من الأجانب أيضاً، بمثابة تأكيد بأن غرض الغزو الحقيقي هو ضمان حصول الامريكيين علي نفط العراق الخفيف والرخيص الانتاج. انهم لمزيد من التأكيد، يشيرون الي حقيقة مفادها أن المبني الحكومي الوحيد الذي جرت حمايته تماماً من قبل الجنود الامريكيين في بداية الاحتلال لمنع نهبه في عام 2003، كان مبني وزارة النفط التي تحوي دراسات جيولوجية مفصلة عن حقول النفط العراقية.
ثمة علامات أن الدوائر العسكرية الامريكية قد غدت مستميتة أو تكاد لكونها مدفوعة الي عمل ما تُعَد الجيوش كلها لعمله: ألا وهو استخدام القوة، وهذا علي الرغم من المحاولات التي بذلت لغرض الانهماك في برامج النشاط الاجتماعي التي تُستلهم من تجربة الحرب الفييتنامية. ان القوات الامريكية كانت، في وقت كتابة هذا الكتاب، قد عادت الي شن أعمال عسكرية واسعة تشمل آلاف الجنود والدبابات والطائرات ضد مناطق يشتبه بأنها تؤوي المتمردين. ان تلك القوات قامت كذلك بما ينظر اليه العراقيون علي أنه هجوم علي ثقافتهم وديانتهم كالهجوم الذي شن يوم 28 مارس 2006، علي مسجد للشيعة في بغداد حيث قتل سبعة وثلاثون من المصلين الذين كانوا يؤدون صلاة المغرب. وقد قال وزير الداخلية العراقي، وهو شيعي انما هو علي أية حال وزير معين من قبل امريكا، معلقاً علي الحادث في التلفزيون العراقي: ان دخول المسجد وقتل المصلين هو انتهاك فظيع . وقال وزير عراقي آخر متكهناً أظن أننا سنتخذ موقفاً حازماً ضد القوات الامريكية بسبب هذه الجريمة . وعرض التلفزيون صوراً بثتها المحطة طوال الليل لجثث ملقاة في برك من الدماء علي أرض الجامع.
هناك علامات متزايدة تدل علي أن هذه الأعمال تسبب عداء يتفشي في المجتمع ليس فقط في أوساط العرب السُنَة، بل كذلك في أوساط الشيعة الذين تفضلهم امريكا علي غيرهم.
كان رئيس الجمهورية السابق بوش الأب، وهو يبدي انطباعاته عن حرب الخليج لعام 1990، قد أوضح لماذا لم يوافق علي السياسة التي اتبعها ابنه في ما بعد، فكتب يقول: لو أننا كنا سرنا علي طريق الغزو لكانت الولايات المتحدة لم تزل دولة احتلال في بلدٍ معادٍ بشكل لدود . ان هذا هو ما حصل بالضبط. فحتي ريتشارد بيرل، وهو أحد المهندسين الرئيسيين للغزو الامريكي والاطاحة بصدام، قد اعترف في نقاش جري حديثاً مع رئيس اللجنة الوطنية الديمقراطية هاورد دين بأن الاحتلال العسكري الامريكي للعراق ربما كان خطأً . كما ان زلماي خليل زاد، السفير الامريكي في العراق، وأحد كبار المحافظين الجدد المناصرين للغزو الامريكي، أقر لمراسل من جريدة لوس أنجلوس تايمز في 8 مارس 2006 قائلاً: لقد فتحنا الصندوق السحري ، ففتحنا الباب للشرور، والمسألة الآن هي: ما هو الطريق الي الأمام؟ .
عن القدس العربى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.