لاتوجد مشكلة كبيرة في إدراك الكيفية التي تري بها إيران، أو تتمني أن تري بها، أمن الخليج، فهي تعتقد ببساطة أنه _ بصرف النظر عن مشكلة الاسم - خليج فارسي، لكن لأن لديها قدرا من الواقعية يتيح لها إدراك أن التعامل مع الخليج كمنطقة نفوذ لم يعد ممكنا، يتم عادة تبني صيغة أن أمن الخليج مسئولية الخليجيين، ولأن تلك الصيغة أيضا لم تعد أكثر من عبارة إنشائية ملغمة غير قابلة للتطبيق، بالنظر إلي ما هو قائم علي الأرض، تحول أمن الخليج إلي "عدم أمن" يستعصي علي الترتيب، وفقا لرؤية أي من أطرافه، وأولها إيران. إن منطقة الخليج لاتزال تمثل معضلة أمنية من النوع الذي يبدو أنه غير قابل للحل، فلم يحدث أبدا أن تركت تلك المنطقة في حالة فراغ أمني، إذ كانت هناك دائما معادلات ما لترتيب أوضاعها الأمنية، لكن لم يحدث أبدا أيضا أن شهدت تلك المنطقة استقرارا أمنيا، لذا كان هناك جدل مستمر حول خيارات بناء الأمن فيها، وتري طهران منذ فترة أن هناك ما يمكن أن تقوله بهذا الشأن، لكن الأرجح أن أحدا لن يستمع إليها، وسوف تستمر المعضلة. إن عقدة أية تصورات إيرانية لترتيبات الأمن في الخليج هي أنها تصطدم علي الفور بسؤال حول ماإذا كانت إيران هي جزء من المشكلة، أم أنها جزء من الحل، فإيران _ حسب تعبير أحد الصحفيين العرب القريبين من شئون الخليج _ خائفة ومخيفة في نفس الوقت، وماتطرحه حاليا يبدو كجزء من عملية إدارة الصراعات وليس حل المشكلات، في انتظار إشعار آخر. إن أحد أهم تعريفات مشكلة أمن الخليج يؤكد علي أن ذلك الخليج المهدد في واقع الأمر هو منطقة الخليج العربي، التي تضم دول مجلس التعاون الخليجي العربية الست، والتي تتمتع بموقع استراتيجي واحتياطيات نفطية وفوائض مالية واستثمارات كبري، مع عدم قدرة دولها علي حمايتها بقدراتها الخاصة، في مواجهة عملاقين إقليميين مجاورين، هما إيران وعراق ماقبل انهيار نظام صدام حسين. لكن العراق وإيران لم يمثلا فقط ، مجرد قوي إقليمية تهدد أمن وموارد وتماسك الدول الست، رغم أنهما كانتا تفعلان ذلك طوال الوقت، فقد كانتا أيضا تتصارعان بعنف أدي سقوط أكثر من 750 ألف قتيل خلال حرب الثمانينيات، كما كانتا تتعرضان للاستهداف والتهديد من جانب القوي الكبري المتواجدة في الخليج، وقد انهارت إحداهما بالفعل تحت وطأة حربين كبيرتين عامي 1991 و 2003. ولقد قامت استراتيجيات دول الخليج العربية في التعامل مع الطرفين، علي مبدأين شهيرين هما توازن القوي في الخليج، والتحالفات الدفاعية مع الأطراف الدولية، وأدي هذا الوضع إلي تدويل كامل لأمن الخليج، عبر سلسلة من الاتفاقات الدفاعية التي أبرمتها السعودية ( 1945) والبحرين (1971-1991) وعمان (1980) والكويت (1987) وقطر (1992) والإمارات (1994) مع الولاياتالمتحدة. إن مبدأ توازن القوي قد توقف عن العمل بتصدع العراق عام 1991 قبل انهيار قوته بشكل كامل عام 2003، ولم يبق سوي " التحالفات الدفاعية" مع الولاياتالمتحدة، لكن مشكلة التحالفات الدفاعية أنها كانت دائما مسببة للمشاكل، فعلي الرغم من أنها لم تهدد التوازنات الداخلية، إلا أنها أثارت بعض الفئات الاجتماعية، ودفعت في اتجاه ظهور أعمال إرهاب تستهدف إخراج ماأسمتهم " المشركين من جزيرة العرب"، مما دفع بعض الدول كالسعودية إلي طلب نقل القواعد العسكرية من أراضيها. كما أن بعض دول الخليج قد أرهقت أو واجهت إحراجا دائما في التعامل مع المقترحات الأمريكية الدائمة بإقامة نظم للدفاع الصاروخي، أو التصورات الخاصة بدعوتها إلي مواجهة مكشوفة مع إيران، وأحيانا تتم الإشارة إلي الثمن الكبير الذي يدفع ماليا في إطار الحفاظ علي تلك التحالفات، بعيدا عن معادلة النفط مقابل الأمن، فتلك الدول تريد الحفاظ علي أمنها بالصورة التي تحددها، وليس الاندماج بشكل كامل في التصورات الأمريكية لأمن الخليج. لكن الأهم أن تلك المعادلة خلقت مأزقا خليجيا، فلم يكن ثمة وضوح في الخط الفاصل بين هدف مساعدة الدول علي الدفاع عن نفسها، ومهاجمة الأطراف الأخري انطلاقا من القواعد العسكرية القائمة، ففي حرب أفغانستان عام 2001، تم استخدام القواعد العسكرية الموجودة في قطر والبحرين وعمان، وفي حرب العراق عام 2003 تم استخدام القواعد العسكرية الكويتية، والتسهيلات العسكرية القائمة في الدول الأخري، رغم معارضتها غزو العراق. لقد تسبب ذلك في مشكلة من قبل مع العراق، ويتسبب حاليا في مأزق مع إيران، فهناك تهديدات عسكرية إيرانية واضحة بأنه سيتم استهداف القواعد العسكرية الأمريكية في الخليج في حالة استخدامها في شن حرب ضدها من جانب الولاياتالمتحدة، وعلي الرغم من أن كل دول الخليج تقريبا قد أعلنت أنها لن تسمح باستخدام تلك القواعد في حرب محتملة ضد إيران، إلا أن الجميع يدركون انه إذا نشبت الحرب، لن تكون هناك ردود أفعال منضبطة، فكل شئ جائز في حروب الخليج. من هنا جاءت الهواجس المتعلقة بالمقترحات الإيرانية الخاصة بترتيبات الأمن في الخليج، فإيران تري أن مسئولية أمن الخليج يجب أن تكون خليجية، وماتعرضه ببساطة هو أن يتم إبعاد القوي الدولية " الأجنبية" المتواجدة عسكريا في الخليج، علي أن يتم التفاهم حول توقيع اتفاقيات لعدم الاعتداء بين إيران ودول الخليج العربية، ويتم دفع دول الخليج للتفكير في تلك التصورات عبر زيارات واتصالات وتهديدات مستمرة تفاقم حالة الشك في النوايا الإيرانية، التي يبدو أنها تتعلق بطموحات هيمنة وليس تطمينات أمنية، فقد سبق لصدام حسين أن عرض عقد اتفاق عدم اعتداء مع السعودية قبل أن يجتاح الكويت. الأكاديميون في الخليج يرون أن ماتطرحه إيران لايمت لفكرة ترتيبات الأمن الإقليمية بصلة، فأفكار إيران ليست تعاونية وإنما دفاعية، وكأنها تريد أن تستبدل التحالفات الدفاعية الدولية بتحالف دفاعي إقليمي، يعني في حده الأدني " أننا لن نعتدي علي الضفة الأخري إذا تم إخراج هؤلاء من المنطقة"، أما في حده الأقصي فإنه يعني " أننا يجب أن نشكل حلفا دفاعيا أو أمنيا خليجيا ضد الغرب"، وهي مسألة غير مقبولة من جانب دول الخليج. أما بالنسبة للدوائر السياسية، فإن المسالة أكثر وضوحا، فإيران في الحقيقة _ وفقا لمدركات دول الخليج _ هي مصدر التهديد، ولايمكن الثقة فيما تطرحه، ونظامها السياسي الحالي يثير هواجس لاحد لها، فمحمد خاتمي قد ذهب، وقبول ماتعرضه إيران يمكن أن يمثل كارثة، لكن في الوقت نفسه، يجب التعامل بجدية _ حسب مايثار في دوائر خليجية مختلفة _ مع المخاوف الإيرانية من قواعد الخليج العسكرية، فهي تهدف إلي ردع طهران وليس مهاجمة إيران. إن دول الخليج تدرك أن إيران هي واحدة من دول المنطقة، وأنه لامناص في النهاية من إيجاد صيغة للتفاهم مع إيران، وقد كاد ذلك أن يتم في فترة حكم محمد خاتمي، لكن مايحدث هو أن التوجهات الإيرانية الحالية في ظل رئاسة أحمدي نجاد لاتوفر مجرد الحد الأدني _ حسب مصادر خليجية _ للتفاهم حول الأمن، فهناك ميول هيمنة وتهديدات مكشوفة وبرنامج نووي وتدخلات حساسة، بما لايتيح فرصة للتعامل مع أي شئ تطرحه إيران بجدية. وعلي أي حال، فإن المصير المتصور لمبادرة إيران الأمنية ليس أسوأ من معظم التصورات التي طرحت في فترات مختلفة، والتي لاتزال تمثل خيارات مثارة، لأمن الخليج، فقد رصد أحد مستشاري إحدي وزارات الدفاع الخليجية ما لا يقل عن 12 تصورا مطروحا نظريا، وأحيانا عمليا، لتأمين المنطقة، تعتمد علي أطر مختلفة لبناء قوة ذاتية خليجية، أو تحالفات مع دول عربية، أو تدويل كامل لأمن المنطقة بالتعاون مع دول غربية أخري أو حلف الناتو، وتواجه كلها مشكلات في التطبيق بدرجة أو بأخري، والمثير أن الخيار الإيراني ليس من بينها، فلايزال خيار غير جاد.