علي الرغم من إشادة قمة أبو ظبي لدول مجلس التعاون الخليجية التي عقدت مؤخرا، بانجازات المجلس في المجالات الاقتصادية ودعم مشروعات التكامل فيما بينها، فإن القضية الأمنية، وهاجس المخاوف الإقليمية، وتطورات الملف النووي الإيراني، ألقت بظلالها علي اهتمامات دول الخليج، واحتلت مكان الصدراة في أجندة زعمائه. وفي هذا الإطار، يستمر التوجه العام لدول مجلس التعاون الخليجي في توجيه " رسالة " موحدة إلي إيران مفادها ضرورة عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الست، والتأكيد علي أهمية التزام طهران بالمرتكزات الأساسية لإقامة علاقات حسن الجوار، والاحترام المتبادل، وحل الخلافات بالطرق السلمية، وعدم استخدام القوة أو التهديد بها. وبالرغم من أن هذا التوجه العام كان من أبرز ما توصلت إليه القمة 31 لقادة دول مجلس التعاون الخليجي في العاصمة الإماراتية أبو ظبي في 6 7 ديسمبر الحالي، غير أن مسئولية " أمن الخليج " التي يضطلع بها القادة فرضت علي الجميع العمل علي صياغة رؤية خليجية مشتركة، سياسيا ودفاعيا، تحظي بموافقة جميع دول المجلس إزاء طرق التعامل مع الملف النووي الإيراني، والمخاطر التي تحيط بمنطقة الخليج علي جميع المستويات، بما في ذلك العمل علي تقوية ترسانة الأسلحة الخليجية، علي أوسع نطاق. ومع أن الوثائق الدبلوماسية الأمريكية التي نشرها موقع " ويكيليكس " أظهرت قلق الخليجيين إزاء توسع النفوذ الإيراني، وبرنامج طهران النووي، والمطالبة بموقف قوي إزائه، فقد بدا واضحا أن الجانبين العربي، والإيراني أبقيا ردود الفعل الصادرة عنهما في مستوي "الخطاب الهادئ " ، كسياسة خليجية ثابتة، في إطار المعلن،وهي السياسة التي كان من دلائلها سابقا ، حضور الرئيس الإيراني أحمدي نجاد لختام القمة الخليجية في الدوحة نهاية عام 2007. وعندما لوح وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي ( قبل إقالته مؤخرا ) لمسئولين خليجيين بأن " عصر القنبلة الذرية قد انتهي، وأن القنبلة الذرية لاجدوي منها سوي الإبادة.. " ، فقد رد عليه الأمير تركي الفيصل الرئيس السابق للمخابرات السعودية بقوله " إن إيران، هي الطرف الذي ينبغي أن يأخذ الخطوة الأولي، لتبديد المخاوف إزائها.. " وبينما طغت المسألة الإيرانية، وأمن الخليج علي أعمال القمة 31 للمجلس الأعلي لمجلس التعاون لدول الخليج، فإن القمة مثلت لحظة " مراجعة شاملة " لحصيلة العمل المشترك في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية والثقافية والإعلامية لمجلس التعاون علي مدي ثلاثين عاما هي عمر المجلس. مجلس التعاون الخليجي يعد مجلس التعاون الخليجي نموذجا لأنجح منظمة إقليمية في الشرق الأوسط، والأكثر انجازا علي مستوي الكيانات العربية في تاريخها الحديث. هذا، علي الرغم من الظروف والأحداث الكبري، والحروب التي شهدتها المنطقة علي الصعيدين الداخلي والإقليمي ، وقد توج المجلس مسيرته التي بدأت في عام 1980 بعدد من الانجازات منها :إنشاء هيئة المقاييس 2002، والاتحاد الجمركي 2003، والنظام الموحد لمكافحة الإغراق لحماية الصناعة الخليجية 2003، والسياسة التجارية الموحدة وتكامل الأسواق المالية 2005، والسوق الخليجية المشتركة 2008، والاتحاد النقدي الذي دخل حيز التنفيذ في 2010 بعد مصادقة السعودية والكويت والبحرين، وقطر، وانتظار مصادقة الإمارات وسلطنة عمان. وكان المجلس قد دشن المرحلة الأولي في مشروع الربط الكهربائي بين دول المجلس في 2009. ويجري العمل للانتهاء من الدراسات التفصيلية لإنشاء شبكة السكك الحديدية لربط دول المجلس في غضون عام 2011، ويتوقع استكمالها في 2017. وتجري الجهات المعنية في الدول الأعضاء، والأمانة العامة الأعمال التمهيدية بشأن المنشآت الخاصة باستخدامات الطاقة النووية. أما علي الصعيد الأمني، فقد جري تطوير " قوة درع الجزيرة المشتركة "، وتوج التعاون في المجال العسكري والدفاع المشترك بإقرار " الاستراتيجية الدفاعية " لدول المجلس 2009، وإضافة لواء التدخل السريع، كما كان المجلس قد اعتمد الاتفاقية الأمنية الشاملة في 2008، واتفاقية دول المجلس لمكافحة الارهاب 2004، كما أقامت دول الخليج مركزا للمعلومات الجنائية ومكافحة المخدرات في الدوحة. وإذا كانت دول مجلس التعاون الخليجية قد اعتمدت صيغة تقوم علي دعم القوة الذاتية، والتكامل في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، ففي غضون ذلك يبدو التركيز علي المجال الاقتصادي، حيث أسهم الاتحاد الجمركي في تسهيل حركة السلع بين الدول الأعضاء، وزيادة حجم التجارة البينية بينها من 15 مليار دولار في 2002 إلي 61 مليار دولار في 2009، كما أسهمت السوق الخليجية في تسهيل حركة النقل والإقامة والعمل بين سكان المنطقة . وإذا كانت مسيرة مجلس التعاون الخليجة قد مكنته من عبور الكثير من المسائل الشائكة ومنها : الحدود، والسيادة، والعملة الموحدة، فإن الملاحظة النقدية التي يطرحها محللون خليجيون هي قصور المجلس بالنسبة لتحقيق درجة أعلي من الاندماج، ودعم فكرة المواطنة الخليجية، بالإضافة إلي البطء الشديد في تنفيذ القرارات والتوصيات التي يصدرها المجلس بالرغم من وجود لجنة مختصة بمتابعة تنفيذ القرارات، ولايخفي هنا أن جزءا كبيرا من تعطيل تنفيذ القرارات يعود إلي الدول نفسها، وتمسكها إلي حد كبير ب " اعتبارات السيادة " ورفضها النقد والمراجعة بأي صورة، وعدم قبولها التدخل في شئونها الداخلية، وهذه هي تقريبا نفس الاعتبارات التي تعوق تنفيذ الكثير من قرارات وتوصيات جامعة الدول العربية. وفي تصريح حديث للأمين العام لمجلس التعاون عبد الرحمن العطية يقول إن الأمانة العامة للمجلس ليست سلطة فوق الدول الأعضاء، ولايجب مقارنتها بالمفوضية الأوروبية التي تم منحها صلاحيات مستقلة فوق الدول، لمتابعة سير العمل واصدار اللوائح والتعليمات. وعموما يسود الاعتقاد بضرورة تطوير الأمانة العامة لمجلس التعاون كاستجابة تاريخية لمهمات جديدة يتعين علي منطقة الخليج الاضطلاع بها. أمن الخليج من المؤكد أن الأهمية الجيوبوليتيكية والجيوستراتيجية لمنطقة الخليج تجعل المنطقة مثار اهتمام القوي الكبري علي الصعيد العالمي. ومع ظهور حجم النفط الهائل في المنطقة، فقد تواكب ذلك مع ازدياد حجم المصالح الأمريكية بالمنطقة، وحلولها محل الوجود البريطاني شرق السويس. وقد تضاعف الوجود العسكري الأمريكي في الخليج (والوحدات البرية والبحرية )حتي بات الوجود الأمريكي البحري المكثف في مياه الخليج إحدي الحقائق الثابتة، وأحد مقومات السياسة الأمنية والدفاعية لمنطقة الخليج. صحيح أنه في إطار توافقات مجلس التعاون الخليجي، فقد تطورت قوات درع الجزيرة، والتي تتشكل من ست كتائب من دول المجلس، غير أن هذه القوات تشوب عملها مشكلات استراتيجية، ومشكلات في المعدات والتدريب الفني، الأمر الذي جعل دول المنطقة تنظر إلي هذه القوات علي أنها بمثابة الوجود الرمزي العسكري لدول المجلس. ومع اتجاه الولاياتالمتحدة لإعادة صياغة علاقاتها مع القوي الإقليمية في منطقة الخليج، خاصة في ظل احتدام أزمة الملف النووي الإيراني، وتردي الوضع الأمني في العراق، فقد سعت الولاياتالمتحدة إلي إشراك دول حلف شمال الأطلنطي (الناتو ) في تحمل أعباء أمن الخليج في إطار مايطلق عليه (الترتيبات متعددة الأقطاب ). وفي هذا الصدد، عقد مؤتمران هما : " تحولات الناتو وأمن الخليج " 2004، و"دور الناتو في أمن الخليج " 2005، حيث تم التوصل إلي تحديد المخاطر التي تهدد أمن الخليج وهي : 1- الارهاب، 2- انتشار أسلحة الدمار. الشامل، 3- الاتجار بالبشر، 4- المخدرات. وبالرغم من ترحيب دول مجلس التعاون الخليجي بالتعاون الأمني مع الناتو،فقد اشترطت أن يكون ذلك في إطار قاعدة الاحترام المتبادل، والبعد عن منطق فرض الهيمنة، وذلك لتحقيق المصالح المتبادلة بين الجانبين. ومع ذلك تدرك الدول الخليجية توجهات الولاياتالمتحدة والناتو الهادفة إلي " عولمة أمن الخليج "، فهناك اتفاقات أمنية بين دول المنطقة والناتو، وهناك " مبادرة اسطنبول للتعاون " في 2004، للتعاون في مجالات أمنية ومعلوماتية بين الجانبين. وبالطبع، يسعي الناتو لملء الفراغ في المنطقة بسبب غياب ترتيبات أمن " عربية قومية " في منطقة الخليج. الخطر الإيراني بعد غزو الولاياتالمتحدة للعراق في 2003، فإن إيران أصبحت الطرف الإقليمي الأكثر استفادة، علي الرغم من أنها أصبحت محاطة بالقوات الأمريكية في العراق، والخليج، وأفغانستان. وبالنظر إلي " غموض " وعدم شفافية البرنامج النووي الإيراني، فإن مخاوف الدول الخليجية هي مخاوف حقيقية، تعيق التقارب بين الجانبين، وبالتالي، شرعت دول الخليج في تنفيذ أضخم برنامج تسلح في تاريخ صفقات السلاح. وقد وقعت دول الخليج علي عقود تسلح تزيد قيمتها علي 63 مليار دولار، وتمثل 30 % من إجمالي نفقات التسلح في العالم ( 2004 2007 ) وبما يمثل عشرة أضعاف ما تنفقه إيران علي الأسلحة التقليدية. ويقول محلل عسكري إن لدي إيران 535 ألف مقاتل، ولدي دول الخليج 358 ألف مقاتل، وتمتلك إيران 257 سفينة حربية، متفوقة علي دول الخليج التي تمتلك 225 سفينة. وفي المقابل، فإن القطاع العسكري عموما في إيران يستهلك الجزء الأعظم من اجمالي الناتج المحلي. ولايخفي هنا، ميزة القيادة العسكرية الموحدة في إيران، بأكثر مما هو متوفر لدي الخليجيين، حتي مع وجود قوات درع الجزيرة.وذكرت صحيفة " فاينانشيال تايمز " أن دول الخليج العربية أنفقت 123 مليار دولار، فيما وصفت بأنها واحدة من أكبر عمليات إعادة التسلح في التاريخ في وقت السلم، وذلك في إطار سعيها لمواجهة القوة العسكرية لإيران، كما تم تنفيذ مشروع " الحزام الأمني " أو التغطية الرادارية الموحدة، ونظام الاتصالات المؤمن. ويري المحلل العسكري ثيودر كاراسيك أن دول الخليج الأصغر مثل الكويت والبحرين تنتابهما المخاوف بشأن الضربات الانتقامية، بسبب القواعد العسكرية الأمريكية في البلدين، الأمر الذي يرجح قيامهما بشراء صواريخ أرض جو مثل " باتريوت " من الولاياتالمتحدة. وفي معرض المقارنة الشاملة لتوازن القوة بين الجانبين يقال إنه من ميزات الخليجيين ارتفاع مستوي التدريب العسكري الذي تم في الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا وحتي في روسيا،واتباع الخليجيين لعقيدة عسكرية غربية، وسيطرة دول الخليج علي أهم ممرين مائيين وهما مضيق هرمز ومضيق باب المندب، هذا، مع ملاحظة أنه من أهم نقاط الضعف المؤثرة، هو عدم توفر مفهوم عام مشترك للأمن القومي العربي. غير أن الأمر الذي لفت الانتباه مؤخرا، هو ما أشارت إليه مجلة " نيوزويك " الأمريكية بأن السعودية تتجه إلي امتلاك السلاح النووي، مثل العديد من الدول النامية الأخري، وذلك لتوجيه رسالة قوية إلي إيران،والمجتمع الدولي، الذي فشل حتي الآن في منع ايران من امتلاك السلاح النووي، أو اجبارها علي الخضوع لنظام حظر الانتشار النووي ( تقرير جيمي كونينهان ). وبالرغم من ذلك، فإن انتوني كوردسمان المحلل في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن يؤكد أن موارد اليورانيوم السعودية وقدرتها علي استخراجها هي مجرد افتراضات، علي أفضل تقدير. ولكن هذا التصور لم يمنع آخرون من ترديد مخاوف تعلنها دوائر غربية تتشكك بأن السعودية ترتبط بمعاهدة دفاع نووية مع باكستان،لتبديد مخاوف العالم الإسلامي من إيران الشيعية، أو أن تكون السعودية قد ساهمت ماليا في برنامج باكستان للأسلحة النووية. ومن المعروف أن كلا من السعودية والإمارات بدأتا في تنفيذ البرامج التي تمهد لامتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية، وقد وقعت السعودية اتفاقا للتعاون النووي في 2008 مع الولاياتالمتحدة، وتؤكد حقها في تخصيب مخزونها من اليورانيوم. وتؤكد شركة وود ماكنزي لاستشارات الطاقة أن الطلب علي الطاقة في شبه الجزيرة العربية سيزيد بمقدار 85% عام 2030 مقارنة باستهلاك عام 2008، وإلي أن يتسني للمنطقة تطوير مصادر أخري للطاقة، فإن نقص الغاز في الخليج يعني أن إحراق الزيت سيحرم الأسواق العالمية من حوالي 5.1 مليون برميل من النفط يوميا. ويقول مارك هيبس من مؤسسة كارنيجي للسلام إن حاجة السعودية للطاقة الكهربائية تنمو بسرعة بسبب المخاوف من مرحلة نفاد النفط، كما أن التحدي النووي الإيراني يحتم علي السعودية البدء بمشروعها النووي. وقد اتفقت السعودية مع شركات يابانية علي البدء في بناء اثنين من محطات الطاقة النووية، بالإضافة إلي إنشاء مدينة الملك عبد الله للطاقة النووية. علاقات مستقبلية علي الرغم من حالة الاستياء التي تسببت فيها تسريبات ويكيليكس في عواصم الخليج، وفي طهران، وواشنطن، إلا أنه يبدو أنها لن تنعكس سلبا علي مجمل العلاقات ولن تؤدي إلي تغييرات جذرية جديدة، ذلك أن هناك ثوابت تعرفها كل الأطراف في هذا الصدد. ويقول محلل سياسي عربي إن طهران تعلم جيدا أن الدول الخليجية بحاجة لواشنطن، وواشنطن بحاجة للدول الخليجية بسبب المصالح النفطية والاقتصادية والاستراتيجية. ومع ذلك، فإن السؤال الذي أثير مؤخرا في دوائر الخليج هو : لماذا لا تشارك الدول الخليجية في المفاوضات التي تجريها الدول الكبري مع إيران باعتبارها طرفا مباشرا ومعنيا بمضمون هذه المفاوضات ؟ وقد طرح هذا التساؤل صراحة وزير خارجية الإمارات في إحدي الندوات متسائلا : لماذا يعتقد الغرب ومجموعة 5 + 1 أن الملف النووي الإيراني يخصهم فقط ؟. غير أن الذي يتردد في هذا الصدد هو أن واشنطن ردت عليه بوضوح بأن شراكة دول الخليج ، في المفاوضات، ليست في مصلحتها. وما يهمنا الإشارة إليه هنا، أن قمة أبو ظبي الخليجية الأخيرة حرصت علي دعوة إيران إلي الحوار، وإلي حل سلمي للملف النووي، وعلي نفس المستوي، قام الرئيس الإيراني أحمدي نجاد بالاتصال الهاتفي مع أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني وهنأه بفوز بلاده باستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم في 2022، مؤكدا استعداد الجمهورية الإسلامية للتعاون مع قطر لإقامة المونديال علي أحسن وجه. ورد عليه أمير قطر بأن " إيران تتألق كالقمر، وقد حققت ازدهارا في شتي المجالات، ومنها الرياضة، وأن استثمار هذه الخبرات يصب في مصلحة دول المنطقة ".