كانت هناك لفترة طويلة سمة تقليدية في السياسات الخارجية لدول الخليج العربي، تتمثل في أن "المسكوت عنه" أكبر من المصرح به، ففي ظل أوضاع داخلية وتوازنات إقليمية وارتباطات دولية حساسة، عادة ما لايوجد مجال واسع للمواقف المجانية التي تتسم بها سياسات دول أخري في المنطقة، لكن في الوقت ذاته كان ثمة استثناء يمكن ملاحظته بوضوح شديد، وهو أنه إذا تعلق الأمر بالأمن، فإن الأمور تتخذ اتجاها آخر، كما حدث عندما غزا العراق الكويت عام 1990، وعندما بدا أن ثمة "عامل إيراني" داخل العراق هذا العام ( 2005)، ومايحدث حاليا بشأن البرنامج النووي الإيراني. لقد كان إعلان دول مجلس التعاون الخليجي عن مشروع إقامة "منطقة خليجية خالية من الأسلحة النووية" مفاجأة يمكن فهمها علي أكثر من وجه، لكن أكثر تلك الوجوه اقترابا من الواقع هو أنه "رفض محترم" للتوجهات المحتملة المتعلقة بمستقبل البرنامج النووي الإيراني، فيما يتعلق بالمخاطر التي يمكن أن تترتب علي مستوياته المدنية، والتهديدات التي يمكن أن تسفر عنها أبعاده العسكرية. وقد اتخذ هذا الرفض تلك الصورة المثالية التي لايمكن التحفظ عليها في العادة، وهي إقامة منطقة خالية من الأسلحة النووية، لكن المضمون واحد وهو أن دول الخليج تعلن علنا عن أن تهتم بما يحدث، وأنها " قلقة" بشأن احتمالات المستقبل، وأنها ليست "راكب مجاني" في قطار السياسة الأمريكية. إن مصدر القلق الأول بالنسبة لدول الخليج هو البرنامج النووي الإيراني ككل، بما في ذلك "مستوياته المدنية"، لذا فإن التصريحات التي أحاطت بالفكرة تشير إلي ارتباطها بمفهوم "المناطق اللانووية" بأكثر من ارتباطها بمفهوم المناطق الخالية من الأسلحة النووية، وتهدف تلك النوعية من المناطق (اللانووية) إلي منع جميع النشاطات النووية في المنطقة المعنية وليس فقط منع انتشار الأسلحة النووية فيها، فهناك تصريحات بشأن مخاطر مفاعل بوشهر الأول، وربما الثاني، لاعتبارات تتعلق بمخاطر الحوادث النووية والتلوث الإشعاعي والنفايات النووية، وكل مايتعلق بالأمان النووي، ومعني ذلك أن تقيد إيران برنامجها النووي السلمي، أو تقدم ضمانات صارمة بشأنه لدول الخليج، التي لاتبدو متأكدة من قدرات إيران علي الإدارة والسيطرة النووية، بصرف النظر عن الأبعاد العسكرية من حيث المبدأ. لكن الأهم من ذلك، بالنسبة لدول الخليج، هو احتمالات تطور البرنامج النووي الإيراني في اتجاه حيازة الأسلحة النووية، فقد عانت تلك الدول أولا من تجربة العراق القاسية عام 1990، عندما هدد الرئيس العراقي صدام حسين وقتها بضرب إسرائيل بالكيماوي المذدوج ثم قام باجتياح الكويت، ولم تكن برامج العراق النووية التي تم اكتشافها بعد ذلك ستهدد دولة كإسرائيل تمتلك سلاحا نوويا، وإنما سترسي وضعا جديدا في الخليج، ولم يكن هناك ضمان من أي نوع بأن صدام حسين سيقبل وقتها وليس هناك ضمان بأن تفعل إيران ذلك حاليا أو مستقبلا نزع أسلحة العراق الإستراتيجية مقابل إزالة إسرائيل أسلحتها النووية، إذ أنه كان سيفضل علي الأرجح قطبية ثنائية نووية في الإقليم. وبالتالي فإنها ليست مستعدة لقبول أفكار غير محددة تتجاوز أمنها المباشر. الأهم من ذلك ما لايقال كثيرا، وهو الجانب الحقيقي في الصورة من جوانبها الإستراتيجية التي لاتخلو من التفكير بمنطق أسوأ حالة، إذ توجد نقطتان: الأولي، أن نوايا إيران ربما لاتتجه بالفعل نحو الدول الخليجية، إذ إن المؤكد هو أنها لا تفكر حاليا سوي فيما تعتبره "الشيطان الأكبر"، الذي أصبح يتواجد علي حدودها من الشرق والغرب، لكن هناك ما يؤكد أيضا أن الشاه قديما كان يفكر في الخليج والمنطقة عندما أطلق البرنامج النووي عام 1974، و أن الجيوستراتجيا قد تعود للعمل، كما أن السلاح يخلق استخداماته حيث يكون ذلك متاحا، وبالتالي عندما يتم امتلاك السلاح قد يتم النظر نحو "الجوار"، وربما الدول البعيدة أيضا التي قد يتأثر دورها رغم عدم تأثر أمنها، ففي المنطقة يكتسب استعراض القوة أو حتي مجرد وجودها أحيانا نفس مستوي أهمية التهديد باستخدامها. الثانية، أنه علي مستوي الإستراتيجية العسكرية التي لايمكن تجاهلها ببساطة، فأنه حتي لو كانت الولاياتالمتحدة هي الهدف بالنسبة لإيران، فإن طهران ليست لديها القدرة علي ضرب الأراضي الأمريكية، وإنما تهديد مصالحها في المنطقة، يتضمن ذلك قواتها في داخل العراق وحقول النفط في الدول العربية المجاورة والقطع البحرية الكبري في مياه الخليج، والقواعد العسكرية الأمريكية الكبيرة المنتشرة في عدة دول خليجية، وهي دول صغيرة المساحة بدرجة لايمكنها معها أن تتعايش مع مجرد فكرة أنها في يوم ما قادم قد تكون هدفا نوويا، حتي لو كان ذلك مجرد تصور نظري لايستند إلي تقديرات محددة، فالمسألة النووية كلها قامت علي استخدام حقيقي لمرة واحدة في اليابان، والباقي نظريات وسيناريوهات ومحاكاة. تظل المشكلة هنا تتعلق بإيران، فكل مايثار حول نوايا إيران النووية يرتبط بدافع رئيسي هو مخاوف إيران من استهداف الولاياتالمتحدة (أو إسرائيل ربما) لها، بالأسلحة التقليدية التي تمكنت ترساناتها المتطورة من إسقاط نظام صدام حسين، وبالتالي فإن إيران لاتخشي من أسلحة نووية خليجية مفترضة، بعد أن انتهت مشكلة العراق، وإنما من الأسلحة الأخري غير الخليجية، وعلي ذلك لن تعمل الصفقة ببساطة بالنسبة لإيران التي تهمها أسلحة أخري، توجد أصلا خارج نطاق السيطرة الخليجية، وهنا سيقفز سؤال: مالذي سيجعل إيران توافق علي العرض الخليجي، وهل يمكنها أن تحصل علي ضمانات كافية؟، وهل يمكن أن يقبل مسئولون مثل أحمدي نجاد يفكرون في صراع الحضارات عمليا نزع خيار إيران النووي؟، وهي كلها أسئلة ستشكل (أو يفترض ذلك) جدول الأعمال الخليجي النووي في الفترة المقبلة، بافتراض أن أهمية فكرة " المنطقة الخليجية اللانووية" تتجاوز كونها موقفا معلنا رافضا لاحتمالات خطرة، أو منبها علي أن ثمة وعيا كاملا بها.