حتي وقت كتابة هذا المقال كان فريقنا القومي لكرة القدم قد أدي أداء رائعا ووصل إلي "المربع الذهبي" حيث تصبح المسافة مع القمة لا تزيد عن عقلة إصبع. وبغض النظر عما سوف تؤول إليه الأمور فإن ما جري كان نتيجة مجموعة من العوامل اللازمة لكل نجاح: التخطيط الجيد، والتدريب بإصرار شديد، ولياقة بدنية مرتفعة، وطموح لا يحد، وجماعية وجمال في الأداء الفردي، وتوفيق وحظ لا يأتي- كما قال نابليون- إلا لمن يستحقهما. ولست خبيرا كرويا بأي معني حتي ولو كنت أتمني أحيانا أن يكون لدي قدرة (حسن المستكاوي) ونفاذ بصيرته، وربما لم يحدث في تاريخ البطولات الرياضية أن أصبح لدينا هذا القدر من المحللين الذين جعلوا اللعبة والبطولة أكثر غني وإثارة ومتعة. ولكن وسط كل ذلك "العرس" الحضاري والباعث علي الفخر جري أمر يستحق التسجيل والتنويه، والمناقشة أيضا. وبدأت القصة بعد مباراة زامبيا وقبل التدريب الأول للفريق المصري، إذا بالفريق والمسئولين عنه يقومون بذبح عجل وتوزيع لحمه علي فقراء غانا علي أرض الملعب. وكانت وكالات الأنباء العالمية التلفزيونية والإذاعية والتابعة للصحافة المكتوبة قد بدأت في مراقبة الفريق المصري بجدية بالغة بعد فوزه الباهر علي فريق الكاميرون. صحيح أن الفريق المصري كان علي القمة بوصفه حامل اللقب، ولكن الدنيا تتغير، وما بين 2006 و2008 كانت القوي الكروية الأفريقية قد انتابتها تغيرات عظمي ظهرت علي فرق الكاميرون وساحل العاج وغانا والتي ضمت لاعبين ينتمون إلي أندية القمة في العالم مثل الأرسنال وشيلسي وبرشلونة وغيرها من قمم رياضة كرة القدم. ولذلك كان الفوز علي الكاميرون الممتلئة بالنجوم والسحرة شهادة علي أن "الفراعنة" لديهم من الفنون ما يحير العمالقة. وهكذا أصبح الفريق المصري وطاقمه الفني وحتي الإداري قصة مثيرة لكل أجهزة الإعلام التي ما لبثت أن وجدت الفريق المصري يطارد عجلا في الملعب حتي أمسك به وتم طرحه أرضا بعنف شديد وهو علي الأرض وأخذ "كابتن" الفريق أحمد حسن في ذبحه حيث انبثق الدم من عنقه ولكن اللاعب إبراهيم سعيد أخذ بعضا منه حتي يفك النحس الذي انتابه خلال الشهور والسنوات الأخيرة. كان المشهد مغايرا كلية للصورة العامة للفريق المصري والقائمة علي تقاليد حضارية عميقة. ولم يكن في هذه التقاليد ما يخل أبدا بالإيمان العميق للفريق والذي يظهر في السجود عند تسجيل الأهداف، والصلاة العامة للفريق كله بعد المباراة، وتمتمات الدعاء أثناء المباراة من حارس المرمي. كل ذلك كان أمرا مقبولا وجميلا وحضاريا، فما أروع أن تظهر الأمم إيمانها، وما أجمل أن تتمتع الرياضة بحالة من الصفاء الروحي والنفسي مما يعطي للاعبين قدرات بدنية وعقلية كبيرة. ولكن كل ذلك جانب، وذبح العجل بهذه الطريقة جانب آخر. صحيح أن "الأضحية" وتوزيع اللحوم علي الفقراء هي من التقاليد المشتقة من الفداء بذبح عظيم كما حدث للنبي إسماعيل عليه السلام والذي أصبح تقليدا عظيما في نهاية مراسم الحج. ولكن هذا التقليد تم تنظيمه وتهذيبه ورفع قيمته من خلال إجراء عمليات الذبح داخل مؤسسات محددة تحافظ علي نظافة الذبيحة والمكان الذي يتم فيه ثم بعد ذلك يتم توزيعه علي الدول الفقيرة والفقراء فيها. ومعني ذلك أن عمليات الذبح لم تعد متروكة للأفراد والجماعات الصغيرة لكي تذبح بالطريقة التي تحلو لها، وإنما أن تتم من خلال متخصصين وبوسائل متخصصة ودون اختلاط الإنسان بالدم وما يخرج عن الحيوان ساعة الذبح. وباختصار طورت البشرية كلها، وخاصة المجتمعات الإسلامية طريقة الفداء لكي تجعلها عملية حضارية في جميع جوانبها. ولكن يبدو أن لاعبينا المصريين قد تأثروا كثيرا بالتقاليد التي باتت ذائعة في المجتمع المصري فيما يتعلق بعمليات الفداء. فقد باتت العملية شائعة جدا إلي الدرجة التي نجد فيها عربات وبيوتاً ملطخة تماما بالدماء وعلي شكل كفوف ملوثة. وهكذا عادت ممارسة نبيلة في مقصدها تتحول إلي عملية بدائية للذبح تشبه تلك التي كانت تحدث في المجتمعات البدائية حيث كان الفداء نوعا من "القرابين" التي تقدم لآلهة تظهر كما لو كانت متعطشة للدماء حتي ولو كان المقصود منها الإحسان للفقراء في النهاية. وفي الحقيقة فإن الفكر الإنساني طور فكرة الإحسان كما طور كل الأفكار الأخري عندما حول العملية كلها إلي مؤسسات متخصصة ومعقدة تأخذ بيد الفقراء وتعطيهم القدرة علي العمل والإنتاج والمساهمة في الحضارة الإنسانية. وعندما يخصص بيل جيتس مئات الملايين من الدولارات من أجل القضاء علي مرض الملاريا فإنه يقدم خدمة بالغة لفقراء أفريقيا؛ وعندما يقدم مئات غيرها للبحوث العلمية التي تحاول التوصل إلي علاج لمرض الإيدز فإنه بقدم خدمات جمة للفقراء الذين يموتون بهذا المرض اللعين. وبهذه الطريقة حدث تغير هائل في فكر الإحسان والصدقة للفقراء حيث لم يعد الغرض سد الحاجات الآنية للفقراء والمحتاجين وإنما مساعدتهم للخروج من حالة الفقر التي يعيشون فيها. وربما يسأل سائل وهل كان عجل واحد أو ثمنه في كوماسي بغانا يستطيع أن يحقق هذه الأهداف التي نتحدث عنها؟ والإجابة بالطبع هي لا، ولكن الأسلوب يظل واحدا سواء كان المذبوح بقرة واحدة أو عجلاً واحداً حيث كان بوسع لاعبينا تقديم المال مباشرة لواحدة من دور الأيتام أو مؤسسة من مؤسسات الهلال أو الصليب الأحمر أو أي من المؤسسات الأهلية التي تساعد الفقراء. مثل هذا السلوك كان سيوفر علينا الكثير ممن يعتقدون أن طقوسنا الإسلامية فيها بعض من وحشية ودموية. وفي ظروف أخري كان ممكنا لمثل هذه الواقعة أن تمر، ولكن في ظروف عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر فإن عملية الذبح التي جرت علي أرض ملعب في كوماسي لم تكن تعبر عن حضارتنا ومدنيتنا بل لم تكن معبرة عن الشوط الذي قطعناه في البطولة والذي كان يعبر عن حالة مثالية من السلوك الحضاري. تري.. هل تجاوزت إلي موضوع كثير الحساسية ولا يجوز الحديث عنه؟ والإجابة أرجو ألا أكون قد فعلت ذلك فما قصدت إلا الخير وسمعتنا وسمعة حضارتنا في عالم بات الذبح العلني والتبرك بالدماء من علامات البربرية.. فتعالوا نترك العجول لحالها أما العقول فدعونا نطلقها بلا حدود !!.