دائما ما تحمل الينا ميزانيات المجالس الاستشارية في مصر ارقاما ترفع من ضغط دم المصريين وتثير بداخلهم الكثير من الاسئلة التي ليس لها جواب في الغالب سوي الترهل الذي تعيش فيه المؤسسات الحكومية.. أخر هذه الميزانيات كانت الميزانية الاخيرة للمجلس القومي لحقوق الانسان التي اثارت العديد من الاسئلة وعلامات الاستفهام حول مايجري داخل هذا المجلس الذي يثير من حين الي اخر لغطا كبيرا حول العمل الحقوقي المصري وجدواه والطريقة التي يتم بها الترويج لهذه المباديء في مصر. بمراجعة الميزانية التي أقرها المجلس الذي يرأسه الدكتور بطرس غالي الامين العام السابق للامم المتحدة ونشرها في تقريره الاخير للفترة المالية الممتدة من يوليو وحتي أخر ديسمبر الماضي نجد ان المجلس أنفق خلال هذه الفترة علي الاجور والبدلات فقط حوالي مليون و800 الف جنيه فيما أنفق علي شراء السلع والخدمات حوالي مليون و200 الف جنيه وذلك من المخصصات التي وضعتها له الحكومة من ميزانيتها وبحسبة بسيطة نجد ان إجمالي المبالغ التي ينفقها المجلس خلال العام الواحد علي الاجور يصل الي حوالي 3 ملايين جنية بالاضافة الي 3 ملايين أخري مصاريف إدارية .. المثير أن هذا المبلغ الكبير يذهب الي 75 محظوظا من أعضاء وموظفي هذا المجلس الذي لم يجتمع في الثلاث سنوات السابقة سوي 39 اجتماعا فقط بمعدل اجتماع كل ثلاثة اشهر فيما يحصل اعضاؤه علي بدلات حضور تبلغ 3000 جنيه في الشهر وهو امر لافت في مجلس قائم علي دعم العمل التطوعي من المفترض الا يتربح احد من العمل بة خاصة وانه يسعي للدفاع عن حقوق الفقراء. وكان من اللافت أيضا أن المجلس لم يتحدث في ميزانيته عن تفاصيل الخدمات وتعويضات العاملين التي أدرجها في تقريره رغم ان الشفافية كانت تحتم عليه ان يذكر كل هذه التفاصيل التي من دور المجلس نفسه أن يطالب الدولة نفسها بها عند اعلان ميزانيتها. ولايخفي علي احد ان المجلس لم يقم بدور فاعل في معالجة شكاوي المواطنين التي تصله حيث لم تتعد نسبة ردود الجهات الحكومية علي شكاويه 48 % والسبب الواضح لذلك هو ضعف متابعته لمسار هذه الشكاوي وتقاعسه عن الاتصال المتكرر بهذه الجهات للوصول لحلول واقعية لهذه الشكاوي. فإذا كانت الاموال السابقة قد انفقت للارتقاء بمستوي تعامل المجلس مع الشكاوي كان يمكن أن تصل إلي نتائج افضل. الامر الاخر ان هذا المجلس ينفق القدر الاكبر من وقته كله - بإعترافه في تقريره الاخير - في مقابلة الوفود الاجنبية حيث زار المجلس 36 وفدا أجنبيا في حين قام اعضاء المجلس وموظفوه برحلات خارجية بلغت 18 رحلة فيما لم يقم اي من اعضائه او هيئته التنفيذية _بإستثناء زيارتين رسميتين لاحد السجون بأي زيارة لمسئول حكومي واحد لحل مشكلة احد المواطنين او التحقيق في اعتداء أو انتهاك تعرض له مواطن وهو الدور الذي كان من المفترض ان يقوم به المجلس لتحقيق الهدف من انشائه. ويبقي بعد ذلك سؤال مهم وهو لماذا ندفع من اموال دافعي الضرائب 6 ملايين جنيه مابين اجور و مؤتمرات ضخمة في فنادق الخمس نجوم لمجلس لم يقدم انجازا حقيقيا وملموسا لحماية حقوق الانسان المصري طوال الثلاث سنوات السابقة ولماذا كل هذا البذخ في الانفاق علي مجالس كل وظيفتها مقابلة الوفود الاجنبية فقط في بلد يعاني بصفة مستمرة من تزايد معدلات الفقر وارتفاع نسبة البطالة. ميزانية غير مناسبة في البداية يؤكد الباحث الاقتصادي عبد الخالق فاروق أن حجم ما انفقه المجلس من اموال لايتناسب مع حجم النتائج التي حققها حتي الان علي مستوي حماية حقوق الانسان المصري كما لم ينجح في ان يقوم بدور المراقب والمدافع عن هذه الحقوق مشيرا الي ان ميزانية المجلس صورة مكررة من ميزانيات المجالس المشابهة الموجودة في مصر والتي لاترتبط بنوعية العمل وحجم الانجاز بقدر ماترتبط ببيروقراطية الادارة المصرية التي تعطي كل الصلاحيات للادارة المختصة التي بدورها تحدد ماتريده من قواعد دون الارتباط بمعايير محددة للعمل وبالتالي يصبح كل مايقوم به المجلس قانونيا حتي اذا كان مخالفا لما استقرت عليه الامور في مثل هذه المؤسسات وبالتالي يصبح من حق المجلس ان يحدد المصاريف والاجور التي يراها مناسبة ويقوم بصرفها بشكل قانوني تماما بغض النظر عما اذا كان حقق اهدافه المطلوبة أم لا. ويضيف فاروق ان الرقابة التي تراقب ميزانية مثل هذا النوع من المؤسسات هي الرقابة اللاحقة للجهاز المركزي للمحاسبات والذي ينحصر دوره في التاكد من وجود الفواتير الدالة علي صرف المبالغ الموجودة في الحساب الختامي للمجلس فقط. ويشير فاروق الي انه بالرغم من غموض ميزانية المجلس او غيره من منظمات حقوق الانسان فإن هذه المؤسسات نجحت في امرين مهمين هما نشر ثقافة حقوق الانسان بين المصريين حيث اصبح المواطن الان يدرك ان هناك مؤسسات مهمتها حمايته والاستماع لشكواه وتوصيلها الي كبار المسئولين بالاضافةالي تقديم الدعم القانوني لغير القادرين كما انها نجحت في الاونة الاخيرة في الكشف عن العديد من الانتهاكات والتجاوزات التي ارتكبت في حق العديد من المواطنين وهو ما جعلها تمثل اداة ضغط جيدة من اجل وقف هذه التجاوزات. وأوضح ان المجلس يضم في عضويته عددا من الشخصيات المخلصة للفكرة والتي تسعي بجدية لتحسين اوضاع حقوق الانسان ولكن المطلوب من المجلس منذ بداية تشكيله وحتي الان اكبر بكثير من قدراته كمجلس تابع لمجلس الشوري مشيرا الي ان تفعيل دوره وزيادة قدراته ترتبط بتوفر قدر من الاستقلالية له أثناء عمله. مجلس بلا صلاحيات ويتعجب أحمد سميح مدير مركز اندلس لدراسات التسامح ومناهضة العنف من قيام الحكومة بمنح هذه المبالغ الي المجلس ثم تتجاهل بعد ذلك الرد علي شكاويه أوالتعاون معه مشيرا الي ان هذة الميزانية الضخمة التي توازي ميزانيات اربع او خمس مؤسسات حقوقية في مصر تخدم مجلس استشاريا تنحصر مهامه وفقا لنص المادة الثالثة من قانونه في اصدار الفتاوي والتوصيات وابداء الاراء والمقترحات فيما يعرض عليه او يحال اليه من السلطات والجهات المختصة بشان المسائل المتعلقة بحماية حقوق الإنسان وتقديم مقترحات وتوصيات إلي الجهات المختصة في كل ما من شأنه حماية حقوق الإنسان، وإصدار تقارير عن أوضاع وتطوير جهود مصر في مجال حقوق الإنسان علي المستوي الحكومي والأهلي. ووفقا لتلك المادة لا يجوز للمجلس أن يعرض لقضية او رأي مالم تحلها اليه الحكومة والجهات المختصة . رغم ان مبادئ باريس التي نظمت انشاء المجالس الوطنية لحقوق الانسان اكدت علي دور المؤسسات الوطنية في تعزيز وضمان المواءمة بين التشريعات والأنظمة والممارسات الوطنية والصكوك الدولية المتعلقة بحقوق لإنسان التي تكون الدولة طرفاً فيها، والعمل علي تنفيذها بطريقة فعالة لتشجيع التصديق علي الصكوك والمواثيق والاتفاقيات والانضمام إليها وكفالة تنفيذها . وأضاف سميح ان القانون لم يعط للمجلس أيضا اي دور في اعداد ايه برامج متعلقة بتدريس قوانين حقوق الإنسان واكتفي في البند التاسع والثاني عشر من المادة الثالثه في القانون 94 لسنة 2003 "بالتنسيق مع مؤسسات الدولة المعنية بحقوق الإنسان وتقديم المقترحات اللازمة لدعم القدرات المؤسسية والفنية في مجالات حقوق الإنسان" ، وهو ما يجعل المجالس الاخري أكثر فاعلية منه مؤكدا علي ضرورة مراجعة قانون انشائه لزيادة قدراته خلال الفترة القادمة. الاهتمام بالمواطنة وعلي جانب النشاط الذي يقوم به المجلس قال سميح ان هناك قصوراً من جانب المجلس في متابعه قضايا المواطنة فهو لم يتفاعل خلال العام الماضي كله سوي مع قضية واحدة وارسل اليها بعثة تقصي حقائق بينما قامت مؤسسات صغيرة بإرسال من اربع الي خمس بعثات تقصي حقائق في التوترات الطائفية التي تمت العام الماضي وقامت بتقديم توصيات بطريقة حلها الي الجهات المسئولة حتي تقوم باتخاذ الاجراءات اللازمة لحلها مشيرا الي ان قضايا المواطنة تحتاج من المجلس الي جهد كبير وتعاون مع المنظمات من اجل نشر مبادئها في مصر. اما نشوة نشأت مديرة البحوث والنشر بالمنظمة المصرية لحقوق الانسان فتؤكد ان تقرير حالة المواطنة الذي اعده المجلس يعتريه العديد من أوجه القصور منها إرجاع التقرير لاسباب الاحتقان الطائفي إلي الهبوط العام في المستوي التعليمي و الديني و الثقافي و الإعلامي و السياسي غافلاً أهم من هذه العوامل و هو العنصر الاقتصادي حيث انه من المعروف أن ارتفاع نسبة الفقر داخل المجتمع تؤدي إلي انتشار التطرف والإرهاب. مشيرة الي ان لجنة المواطنة في المجلس ركزت بشكل أكبر علي عقد اجتماعات منتظمة و إصدار مشروعات بيانات ورصد، دون وضع آلية محددة يتم من خلالها تسوية الأزمات التي تثور حيث أن معظم هذه النزاعات من الممكن حلها عن طريق الحوار. كما لم يتضمن التقرير توصيات محددة لملف المواطنة مكتفيا بعرض التوصيات الصادرة عن كل ورشة عمل أو مؤتمر عقدها المجلس وهي في اغلبها غير كافية لنشر مباديء المواطنة الصحيحة في مصر . المشكلة الاخري في أداء المجلس هي تعامله الغريب مع شكاوي المواطنين حيث كشف تقريره الاخير ان المجلس يعتبر كل مايقوله المواطن في شكواه الي الجهات المسئولة علي أنها مجرد إدعاءات وهو مايضعف محتوي الشكوي عند المسئولين ويؤكد لهم ان المجلس جهة حكومية بامكانهم عدم الرد عليها او الرد بلا حل لصاحب الشكوي لافتة الي ان التقرير اسهب في سرد نشاطات المجلس الداخلية والخارجية علي حساب قضايا حقوق الانسان الامر الذي جعل المنظمات تصف التقرير بانه تقرير انجازات للمجلس وليس تقريرا يدافع عن حقوق الانسان. سبوبة حقوق الانسان ويري الدكتورعصام الدين محمد حسن الخبير الدولي في نظم ادارة منظمات حقوق الانسان ان تجربة وجود مجلس قومي يدافع عن حقوق الانسان في مصر مازالت جديدة وتحتاج الي صبر كبير في انتظار نتائجها مشيرا الي وجود أوجه تشابه بين تجربة المجلس المصري لحقوق الانسان وتجربة لجان الانصاف والمصالحة في المغرب عند بدايتها خاصة وان الحكومة المغربية كانت تتجاهل في البداية توصيات المجلس مشيرا الي وجود فارق جوهري بينهما تمثل في رئاسة ناشط حقوقي مغربي بارز لهذه اللجان وهو ادريس بن ذكري الذي سعي بكل قوته للاستفادة من اشارات التحول السياسي في المغرب لتقوية اللجان وتحويلها الي جهاز فاعل وحقيقي. وفي تعليقه علي ميزانية اجور المجلس قال حسن ان الواضح منها ان بها جزءاً كبيراً يتم صرفه علي ضيافة الوفود الاجنبية التي تزور المجلس بالاضافة الي بدلات السفر وحضور الندوات وهي كلها امور تبتعد عن الدور المطلوب من المجلس في الدفاع عن حقوق المواطن المصري كما ان الاصل في العمل الحقوقي هو التطوع وليس العمل بأجر مشيرا الي ان هذه الازمة لاتخص المجلس وحده ولكن باقي منظمات حقوق الانسان التي حولت العمل الحقوقي الي مجال للإرتزاق والتربح الامر الذي ادي الي شيوع لفظ مثل "سبوبة" حقوق الانسان وغيرها الامر الذي اثر بشكل سييء علي نظرة الناس والمسئولين للمدافعين عن حقوق الانسان. وقال حسن ان مجرد قيام المجلس بنشر ميزانيته بهذا الشكل فهو امر يجب تشجعيه في الوقت الذي تخفي فيه منظمات غير حكومية ميزانيتها كما ان اثارة الجدل حول محتواها هو امر طبيعي في ظل مناخ الشفافية الذي ننادي به في مصر موضحا ان المطلوب من المجلس خلال الفترة القادمة العمل بشكل مؤثر علي الاهتمام بقضايا حقوق الانسان في الداخل و دفع جهود الاصلاح بنشر مباديء الثقافة المدنية لمواجهة صعود التيارات الدينية بالاضافة الي الاهتمام بقضايا المواطنة.