هل سبق لإذاعة في العالم أن لعبت دوراً بارزاً في تحرير شعوب من الاحتلال؟ وأين هي الإذاعة التي كانت اغنياتها أقرب إلي "الرسائل المشفرة" التي تحرك الثوار أو تمهد الأجواء لهجوم وشيك ناجح؟ هكذا فعلت إذاعة صوت العرب، التي تأسست في الرابع من يوليو عام 1953، ولم تكن مجرد إذاعة بل أداة "تثوير" و"تنوير" أسهمت بشكل فاعل في قضايا التحرير لشمال أفريقيا وجنوب اليمن وشرق أفريقيا، ونجحت الثورة المصرية في ذلك الوقت في استغلال إمكانيات الإذاعة لدعم الحركات الوطنية النازعة إلي الاستقلال من الاستعمار في الجزائر وتونس والمغرب، وقوت شوكة المناضلين العرب ودعاة القومية العربية في مواجهة القوي الرجعية، ولم تتغافل الثورة فيما بعد عن توظيف الإذاعة الوليدة في الصراع العربي- الإسرائيلي، وكلنا نذكر المقطع الذي جاء ضمن أحداث فيلم "الطريق إلي إيلات" عندما تمثلت إشارة بدء الهجوم علي المدمرتين الإسرائيليتين في أغنية "بين شطين وميه" للمطرب الكبير محمد قنديل، التي كانت أشبه بشفرة لا سلكية سرية. قوة وتأثير "إذاعة صوت العرب" كانت سبباً في أن تبادر حكومة فرنسا إلي توزيع أجهزة راديو مجاناً علي المواطنين الجزائريين لتلتقط بث "صوت العرب" للتعتيم علي ما تذيعه الإذاعة، وإخراس الصوت الذي كان يؤجج الحماسة والوطنية والرغبة في الثأر من المحتل الفرنسي لدي المجاهدين الجزائريين. وهي الإذاعة نفسها التي طالما ردد الإعلامي الكبير أحمد سعيد مؤسس صوت العرب في عهدها الذهبي بأن المواطن اليمني كان يقصد التاجر هناك لشراء جهاز راديو يشترط أن يسمع فيه "صوت العرب".. وأحمد سعيد. نصف قرن تقريباً أسهمت صوت العرب خلالها في تأكيد الدور المصري، والمساهمة في تحرير الشعوب الأفريقية والعربية حتي وصفت بأنها "حصن العروبة" و"صوت المناضلين" وهو الدور الذي دفع الإذاعي الكبير أحمد سعيد الي القول إن "عبدالناصر" احتل الأمة العربية بإذاعة "صوت العرب" وفي هذا السياق كان لبرنامج "أكاذيب تكشفها حقائق" الدور الأكبر في تعميق هذا الدور بما أثار مخاوف العديد من الحكام العرب في تلك الفترة من حقبة الستينيات في نفس الوقت الذي نفت فيه ثورة يوليو علي لسان عبدالناصر انها ضد الملوك العرب وهو ما أكده عبدالناصر نفسه بقوله: "لم نعزل الملك فاروق عن عرش مصر لأننا ضد الملكية كنظام، وإنما لمفاسده ومعاداته لأماني الشعب" ودلل علي صدق ما قال عندما أمر قيادات صوت العرب آنذاك بمناصرة الملك محمد الخامس وابنه الحسن وأسرته وتعيين فرنسا لعميل لها بدلاً منه، وبرر هذا الموقف بقوله: "محمد الخامس سلطان المغرب ثم ملك تخلي عن عرشه لينضم إلي الشعب ويرفض تكبيل فرنسا له، فهو ارتقي بنفسه من ملك يرث ملكاً إلي زعيم شعب يخلد للأبد، فادعموا ثورة الشعب من أجل فرض عودته علي فرنسا وتصفية الاستعمار الفرنسي". هذا النجاح المدوي كان سبباً في تمديد بث "صوت العرب" من ثلاثين دقيقة ثم 16 ساعة، إلي أربع وعشرين ساعة يومياً عام 1990 بعد أن أدي واجبه في دعم تطلعات الشعوب العربية، ونزوعها للحرية، لكن رأي البعض في المقابل أنه كان إعلاماً تحريضياً، وأن إذاعة "صوت العرب" المثال الأكبر والنموذج الصارخ لما يقال عن أن العرب "ظاهرة صوتية"، وأن الإذاعي الشهير أحمد سعيد بقدر ما كان إذاعياً متميزاً فهو -أيضاً- المخادع الإعلامي الأكبر، بعدما قيل أنه غرر بالشعب في مصر والمنطقة العربية، بإشادته المستمرة بأمجاد الأمة، بخطاب حماسي مندفع، وتحريض ضد بعض الأنظمة، وإن أجمع الكثيرون - اليوم- علي أن أحمد سعيد كان يمارس دوراً سياسياً أكثر منه إعلامياً. من هنا رأينا أن نحتفي بمرور 53 سنة علي بث إرسال "صوت العرب" بصوت المذيع الكبير حسني الحديدي بعبارته الشهيرة "القاهرة تخاطب أمة العرب".. والافتتاحية الموسيقية الغنائية التي طالما أثارت الشجن وداعبت الأجيال: "أمجاد ياعرب أمجاد" حتي جاء جيل يري فيها ما يري من سقوط وزيف وخداع تحولت فيه الأمجاد إلي خنوع واستسلام وانكسار، وفي سعينا للتذكير بالدور الوطني لإذاعة "صوت العرب" نأمل أن نستعيد الأمجاد.. ونتجاوز ما نعيشه من انكسارات.