يدرك كل من أمعن النظر في خسارة الفلسطينيين التدريجية لأراضي بلادهم لصالح الصهيونية منذ مطلع القرن العشرين, أن لتلك الهزيمة -في وجه من وجوهها علي الأقل- علاقة بنزاعاتهم وشقاقهم الداخلي. ومن يومها ظلت هذه الشقاقات داءً فلسطينياً لازماً, إن لم يكن عربياً كذلك. وبالطبع فإن انقسام الفلسطينيين علي بعضهم بعضاً ليس وحده سبباً كافياً لإلحاق الهزيمة بهم. ولولا الحماية البريطانية للمشروع الصهيوني في فترة ما بين الحربين العالميتين, لما قامت له قائمة وما ازدهر. ولولا صعود هتلر وما ارتكبته النازية الألمانية من فظائع بحق اليهود, لما حدث ذلك الفيض العارم من الهجرات اليهودية إلي إسرائيل. لكن وعلي رغم ذلك كله, تظل الحقيقة أن الفلسطينيين لم يواجهوا عدوهم وقوفاً علي جبهة وطنية واحدة يوماً ما. فعلي امتداد عقدي العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي, استعرت الخصومات والمواجهات بين الحسينيين والنشاشيبيين, واعترك المتشددون مع المعتدلين, بينما اختصم دعاة الكفاح المسلح مع أنصار التسوية السلمية للنزاع. وبالنتيجة فما أفاد الإسرائيليين شيءٌ أكثر مما قدمه لهم الاحتراب الفلسطيني من خدمة لا تقدر بثمن, وخاصة أن هذا الشقاق الفلسطيني جاء في مواجهة جبهة صهيونية موحدة ومتراصَّة الصفوف. واليوم تحل علي الفلسطينيين لحظة حاسمة من لحظات تاريخهم المأساوي. فالوحدة هي العنصر الأهم الآن, علي رغم قربهم من أي وقت مضي, من الانزلاق إلي الحرب الأهلية. ولذلك فالسؤال الملح هو: هل آن لهم توخي الحكمة السياسية الكفيلة بمنعهم من الانزلاق إلي حافة هاوية الانتحار الوطني؟ فالشاهد أن أمريكا وإسرائيل لا تدخران جهداً في تقويض حكومة "حماس" المنتخبة ديمقراطياً. والتكتيك المتبع لهذا ليس عزل "حماس" دولياً وتجفيف مصادر العون عنها فحسب, وإنما بتمويل وتعضيد شوكة حركة "فتح" المنافسة لها في المقابل. ويا لها من فرحة إسرائيلية ما بعدها فرحة, لو تطورت هذه المناوشات الدامية التي شهدها قطاع غزة مؤخراً, بين مقاتلي حركة "حماس" من جانب وقوات الأمن الفلسطيني من جانب آخر, إلي حرب شاملة, من شأنها وضع حد نهائي للتطلعات والأحلام الوطنية الفلسطينية! فذلك عين الهدف الإسرائيلي الخبيث... أي تأليب الفلسطينيين علي بعضهم بعضاً وشق صفوفهم. وعندها يكون إيهود أولمرت قد أثبت فريته القائلة إن الفلسطينيين عاجزون عن حكم أنفسهم, وإنه "ليس ثمة شريك فلسطيني" يمكن التفاوض معه, وإن علي العالم أن يوافق علي خطته الرامية إلي الترسيم أحادي الجانب للحدود النهائية لدولة إسرائيل. فهل من خدمة أكبر من هذه يسديها الشقاق الفلسطيني لإسرائيل؟ وبما أن خطة "أولمرت" ستلتهم حوالي 35 في المئة من أراضي الضفة الغربية, فما الذي تبقَّي للفلسطينيين من أرض يقيمون فيها دولتهم المستقلة؟ أما السبب الحقيقي وراء خشية كل من واشنطن وتل أبيب من "حماس" ورفضهما التعامل معها, فهو إدراكهما لحقيقة أن "حماس" تعد خصماً أكثر تنظيماً وأقوي شوكة وعريكة من "فتح" التي جري تدجينها وإفسادها خلال بقائها علي رأس الحركة الوطنية الفلسطينية, زهاء أربعين عاماً. وعلي رغم التنازلات الضخمة التي قدمتها "فتح" لإسرائيل, فإن ما عاد علي الفلسطينيين من تلك التنازلات, لم يكن سوي الفتات والرماد. لكن ها هي "فتح" تسعي مجدداً لاستعادة ما خسرته من امتيازات مالية وسياسية في انتخابات يناير من العام الجاري. ففي الخامس والعشرين من مايو, أطلقت عدة فصائل فلسطينية ما أسمته ب"الحوار الوطني" علي أمل الوصول إلي إجماع فلسطيني. لكن ما أن تبين انسداد الطريق أمام ذلك الحوار, حتي وجَّه محمود عباس إنذاراً في اليوم التالي لبدء الحوار, جاء فيه أنه وما لم يتم التوصل إلي إجماع فلسطيني خلال مدة عشرة أيام, فإنه سيطرح للاستفتاء الشعبي العام خلال الصيف الحالي "وثيقة المصالحة الوطنية" التي أعدتها مجموعة من القادة الفلسطينيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية. وتنص هذه الوثيقة المهمة علي أن الهدف الوطني لكافة الفلسطينيين هو إنشاء دولة مستقلة لهم تكون عاصمتها القدس, تشمل حدودها كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967. كما تدعو الوثيقة إلي قيام حكومة وحدة وطنية, تشكل "حماس" و"فتح" طرفين أساسيين فيها. كما تشجب الوثيقة كافة أشكال المواجهات المسلحة بين الفصائل الفلسطينية, إلي جانب دعوتها لكل من "حماس" ومنظمة "الجهاد الإسلامي" للانضمام إلي "منظمة التحرير الفلسطينية" باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. إلي ذلك أوكلت الوثيقة مهمة التفاوض عن الفلسطينيين إلي "منظمة التحرير" والسلطة الفلسطينية. وبالمثل دعت الوثيقة إلي إنشاء جبهة مقاومة فلسطينية موحدة, شريطة أن ينصب هدفها علي الأراضي المحتلة وليس إسرائيل. ومن بين ما دعت إليه الوثيقة إطلاق سراح كافة السجناء الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وحق جميع اللاجئين الفلسطينيين في العودة والتعويض, تنفيذاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 194. جدير بالذكر أن الموقعين علي الوثيقة المذكورة هم: مروان البرغوثي, القائد الكاريزمي لمنظمة "فتح" في الضفة الغربية, والشيخ عبدالخالق النتشة ممثلاً لحركة "حماس", فضلاً عن توقيع عدد من الشخصيات القيادية عن حركة "الجهاد الإسلامي" وفصيلين علمانيين هما "الجبهة الشعبية" و"الجبهة الديمقراطية". وتعد الوثيقة علي قدر من الكياسة والحكمة, لكونها تعكس الحس العملي البراجماتي لرجال دفعوا ثمن وطنيتهم, سنوات طويلة من عمرهم قضوها في الحبس والسجون الإسرائيلية. غير أن السؤال: هل تقبل حكومة "حماس" بهذه الوثيقة؟ فربما يري فيها إسماعيل هنية رئيس الوزراء الحالي, مجرد مناورة سياسية من جانب محمود عباس, ترمي إلي تجريد حكومته _حماس- من سلطاتها وشرعيتها, بل ولابتزازها ولي ذراعها لإرغامها علي تقديم تنازلات مجانية لا مقابل لها من الجانب الإسرائيلي. وتلك هي في الواقع معضلة "حماس". فهي تواجه مقاطعة دولية واسعة, تكابد بسببها في إطعام شعبها وسد جوعه ورمقه, في ذات الوقت الذي تواجه فيه معارضة مسلحة من جانب منظمة "فتح" داخلياً. وفوق ذلك كله فهي مطالبة الآن بتقديم تنازلات علي مذبح الضرورة السياسية, وهي تنازلات تنهش في صميم نخاع "حماس" ومبادئها. لكن وعلي رغم كل هذه المصاعب, فربما كان هذا الطريق هو الوحيد والوعر لإرغام إسرائيل علي العودة إلي طاولة المفاوضات. وهل كان درب التحرير الوطني مفروشاً بالورود والرياحين يوماً من الأيام؟!