نعم، حكاية الأزمة اللبنانية تتكرر هي نفسها كل مرة، وذلك لسبب بنيوي واضح، جاء بمؤدي استحالة التوازن الجدي بين الطوائف اللبنانية، ذلك ان انتشارها الديموغرافي وتوزعها، لا يسمح بأفضل مما انتجته انتخابات نيابية، من المفارقات أنها لم ترض أبناء الطوائف انفسهم. ثمة إذاً، فرصة جدية، بعد أن تجاوز لبنان محنة إصابته بداء أو علة قد لا يتفق وضعها بحرب أهلية، ولا بتناحر طائفي، ولا بتناقض مذهبي، ولا باحتلال، ولا... ولا، فهذه كلها نتائج نجمت عن فقدان اللبنانيين لمسوغات التماسك والالتفاف حول هوية واحدة، وهي فرصة بالفعل إذا ما أدرك اللبنانيون أهمية اغتنامهم لتقاطع دولي، بدل الإجماع علي استغلاله، صار يشكل عامل تفرقة، بين من يعتبره حميدا، ومن يحسبه بغيضا، فعلي ما في هذا الأمر من عافية المجاهرة بالرأي، الا أنه يشير الي خلل بنيوي في بناء جمهورية ما بعد الطائف علي مخلفات ما قبله، فالفراغ الذي أنجبته الحرب اللبنانية، يجب إلا يعبئ تسوية إجرائية من شأنها ادارة التناقضات، ليس إلا، مثلما لا يمكن ان تنتهي بانتصار فريق علي آخر، ولا بالانحياز الي عروبة سوريا ضد عروبة مصر أو اليمن مثلا، قبل ان ينعقد اتفاق جدي بين الفرقاء، علي ما يتم بموجبه رسم سلم الأولويات في السياسة الداخلية والخارجية علي حد سواء. إن المأزق الراهن في لبنان، يتمثل بعدم وضع معيار صريح وواضح للبنانية المتخاصمين، بعد الاتفاق علي ماهية دولة، شرطها الأولي، حصر القرار وتمركزه في مؤسسات دستورية، يناط بها ترسيم حدودها الجغرافية، كما تعمل هي علي رسم سياساتها الداخلية والخارجية، وبمؤدي ذلك يتم الاتفاق علي الطريقة المثلي في الدفاع عنها، إذ لا يعقل ان تحمي دولة، لم تقم، فبذلك تكون بصدد الدفاع عن "حالة" هي المشكلة وفي الخروج منها يكمن الحل. فمن السخرية الا يقتصر الانقسام اللبناني علي الطوائف، فالأحزاب العقائدية والتي تزعم العلمانية قد اصطفت وراء الطوائف لتضفي علي هذا التجييش الغرائزي طابعا سياسيا، فبدل ان تكون في الطليعة لقيادة وعي الجماهير. أصبحت ملحقة في انجرارها وراء منطق طائفي، رغم ان نشأتها في الأساس كانت لمناهضته. ولربما استمد الانقسام في الرأي حول الهوية اللبنانية، مشروعيته السياسية من العلاقة المحتدمة بين الطوائف، وبذلك لا يمكن الجزم بالقول ان الازمة طائفية بالتمام، ولا هي سياسية بالكامل. هذا لأن النطاق الطائفي يتحدد بمؤدي الانخراط في اطار وطني أوسع، لم نسع اليه، ولم نستعد له، في كل الاجراءات الإدارية التي تكفل تذويب الطائفي بالوطني. بعد هذا، لا بد من الإقرار بأن معيار المحاصصة الطائفية يعزز دور الطوائف، ولا يبني وطنا، وكل اختلاف طبيعي لا بل ضروري علي ما فيه من غني، سيتحول الي انتصار طائفة وانكسار اخري، وفي هذا السياق لا تعجب ان تجيشت النفوس واستنفرت مشاعر الطائفة الشيعية، باعتبار ان كل تحديد للعلاقة مع سوريا يهدف الي تحجيمها، تمهيدا لكسرها. ومن المفارقات العجيبة في هذا السياق، ان الجميع يستنكر الشحن الطائفي، والكل يماشيه خاضعا له، لاعتبارات تتعلق لا بالمصلحة من محاصصة التوزيع الطائفي، فحسب، بل لمكونات بنية وجدانية متقوقعة في كيانات طائفية. لا يمكن تقويضها بالقول، انما بقوة الفعل يمكن تكريس مواطنية تحتاج الي أداء مؤمنين بالوطن لا بالطائفية وهذا يحتاج الي أداء رجال غيرين من النوع الذي يغلِّب العام علي الخاص، فينتصر للمصلحة الاستراتيجية علي المصلحة الراهنة، نحتاج الي ساسة يصنعون التاريخ وليس الي من يزيدهم مسار التاريخ. فالمسألة إذاً، ليست بسهولة اللغو الكلامي عن إلغاء الطائفية من النفوس قبل النصوص. فهذا يستلزم ايمانا راسخا بصعوبة اقتلاع هذه العلة المتجذرة حتي في وجدان المدني المتخطي بمكتسبات وعيه العلماني ما تشبعت به تربيته ونشأته في مجتمع أهلي يتغذي ويتعيش علي الطائفية. إذ لا يمكن ان ننتشل أنفسنا من هذا المستنقع، ونحن نعيش مفارقة التنديد بالطائفية، في الوقت الذي نعزز فيه نسقا طائفيا قدرته أقوي من رغبتنا علي التخلي عنها، ومن سخرية القدر ان استنكار الطائفية اصبح بمثابة خبزنا اليومي من الوقت الذي نتآكلها او تتآكلنا، فالطائفية لا تنحصر بالانحياز الي هوي القطعان ومصلحتها بالسير وراء كراز الطائفة، كما لا تختزل بفائدة مادية يتحصل شيء منها ليدفع شيئها الأكبر بالتقاتل والتناحر، الاقصاء والإلغاء، الخ. إن الوضع السياسي الراهن، لا يبشر بأكثر مما نسمعه عن استعادة الدولة لاستقلال، لا استقرار فيه. ما دامت العلة الطائفية متحكمة في موجبات العقد السياسي بين طوائف متوافقة متآلفة علي ما يبقيها طوائف متحالفة في وطن لا أولوية فيه، الا لحماية أمنه من انفراط عقد الطوائف، ولكي لا نغالي في تشاؤمنا من خواء النبذ الطائفي الدفين هذا الذي لن يؤدي لا اليوم ولا في الغد الي أكثر من توازن شكلي بين طوائف لا يستقر أمنها، إلا بأرجحية طائفة علي أخري، فالتاريخ يعلمنا انه حينما تقوي الطوائف تدخل في حروب وصراعات لا تنتهي الا بانكسار يتم بموجبه تحالف غشاش ومسموم بين طائفة مهزومة وأخري منتصرة، وهكذا... تبقي دوامة الاستقرار المهدد بمتغيرات الوضع الداخلي والخارجي لسياسة لا يتأبدها ثبات تمنياتنا دوام الصحة والعافية، ولا يرسخها تغنّينا بتعايش المسلمين والمسيحيين، باعتباره انجازا لا يضاهي، ففي ظل هذا الوضع يغدو من الطبيعي ان يستلب الأداء السياسي لقادة دولتنا العتيدة الي الهواجس المتوجسة خوفا علي السلم الأهلي، باعتباره مسوغا وحيدا لوجود لبنان، بينما نجد ان المبررات البنيوية لاستمرار وجوده، تكمن في العمل علي الغاء عقد التوافق بين الطوائف، بغية تكريس مواطنية تضمن بناء وطن فيه طوائف، لا طوائف في وطن وهذا من شأنه ان يضع حدا لحال التراشق حول "عروبوية" هذه الطائفة ولبنانوية تلك، فالمسألة لم تعد تحتمل، ما لم نحسم خياراتنا المتمثلة بإلغاء الطائفية، من اجل الاتفاق علي معيار أوحد يكبح جنوح الاختلاف علي قضية، تنوع الآراء فيها شيء صحي، اذا ما اقترن بصمامات أمان دستور دولة مدنية، لا دستور دولة طائفية، وهذا كله بهدف قطع دابر الفتنة من النفوس الطائفية الأمارة بسوء تدبيرها لانقلاب، يتحين فيه المهزوم فرصة تغيير الاحوال من أجل الانقضاض علي استقرار هش، لأنه مستتب بقوة انكسار طائفة تسمح لنفسها بأن تستدر دعما خارجيا فتستقوي علي غيرها، لكي تنتصر. عن الاتحاد