حتي وقت كتابة هذه السطور، يكون قد مضي علي كارثة غرق العبارة المصرية (السلام 98) أكثر من عشرة أيام كاملة وعلي الرغم من مضي هذه الفترة الطويلة نسبياً، فإننا لا زلنا نجد أنفسنا صرعي تصريحات ومواقف وتصرفات مسئولينا في المواقع المختلفة المعنية بالتعامل مع هذه الأزمة أو الكارثة المروعة ويبدو الأمر وكأن الذين يتولون علاج ذلك الخطب الجلل والتخفيف من آثاره المأساوية هم مجموعة من الهواة أو المتطوعين، لا وزارات كاملة بأجهزتها وهيئاتها ومؤسساتها علي اختلاف مسمياتها الرنانة، والتي لا تحمل في حقيقة الأمر ولا تعني إلا مجرد أسمائها، ودون أي فائدة منها أو جدوي من وجودها. وإذا كنا في حل الآن من تكرار تصوير أو وصف الفاجعة التي حلت بنا بغرق العبارة، والذي تناولته الصحف ووسائط الإعلام الأخري محلياً ودولياً، إلا أن الذي دفعنا إلي الكتابة في ذات الموضوع، هو طريقة تعاملنا مع هذه الأزمة أو الكارثة ومسلسل المفاجآت المخزية الذي استتبعها. فعلي مستوي التصريحات الرسمية، فإن متابعاتنا لكم ونوعية تلك التصريحات التي خرج بها علينا مسئولونا في المواقع المختلفة وثيقة الصلة بالموضوع، إنما تؤكد علي افتقاد تلك التصريحات للموضوعية وللدقة الواجبة أيضا، إلا أن الأخطر من ذلك، أنها قد تسببت في إحداث قدر كبير من العذاب والمعاناة لأهالي الضحايا المكلومين وأقاربهم، إلي الحد الذي يستطيع معه أي متابع عادي ملاحظة وجود ارتباك وتخبط مواز ساد في أوساط صنع القرار أو دوائر الجهات المعنية بالتعامل مع الكارثة، فعندما لا يتحقق أو يتأكد شيء ذو قيمة من تلك التصريحات المرتبكة والمتناقضة أحياناً، وعندما يلجأ المسئول للأخذ بسياسة التبرير واختلاق الأعذار، وذلك رغبته في الهروب من الواقع والالتفاف حول الحقيقة، وعندما يحاول بعض المسئولين الإيحاء للقيادات العليا بأن "كله تمام"، ومرددين أسطواناتهم المشروخة التي يصدعون رؤوسنا بها عند وقوع أي مكروه أو كارثة، قائلين: "بأن ثمة ضوابط مشددة سوف يتم الأخذ بها لعدم تكرارها" إلا أنها تتكرر للأسف بعد وقت قصير، أفلا يعني ذلك كله أننا أمام حالة صارخة للأكاذيب وللتنصل المفضوح من المسئولية وتزييف وعي الناس وتغيب الحقيقة؟ أما علي مستوي الأفعال، فنحن نعلم جميعاً بأن العبارة التي غرقت تتبع شركة وحيدة تحتكر تقريباً أعمال النقل البحري للركاب من والي السعودية، وأن العبارات الأخري الي تتبع الشركة علي نفس الشاكلة، حيث تجاوزت جميعها العمر الافتراضي، كما أن حالتها متهالكة وغير آمنة، حتي أن إحداها كانت قد تعرضت للغرق قبل عامين، وعلي الرغم من ذلك، فقد سمحت السلطات المصرية المعنية باستخراج التراخيص التي تشهد بسلامتها البحرية ممهورة طبعاً "بختم النسر"! وبالعودة إلي الحادث نفسه، فإننا نؤكد علي أن السلطات المصرية وكالعادة للأسف لا تأخذ بالمنهج العلمي في مثل هذه المواقف (إدارة الأزمة)، فإذا كان البعض يدعون الآن أن غرق العبارة مثل لنا أزمة مفاجئة (By Surprise) إلا أنه كان من المفروض أن نتعامل مع الحدث وكأنه أزمة متوقعة (Anticipated)، حيث سبق أن اصطدمت العبارة السلام 90 بسفينة بضائع إلا أن القدر شاء أن تتعلق العبارة المنكوبة بجسم سفينة الشحن ويتم انتشال ركابها عام 2001 وفي العام التالي مباشرة احترقت العبارة السلام 95 إلا أن العناية الإلهية قد تدخلت لإنقاذ 923 من ركابها، ومن ثم فقد كان لزاما علينا أن نتوقع تكرار حدوث مثل تلك الأزمات، ولا يمكن لنا في هذه الحالة القول بأن عنصر المفاجأة كان كاملاً في هذه الكارثة، بل إن الصحيح هو النظر إليها من زوايا "السمات المميزة للأزمة" وكيفية التعامل معها، أو تطويق الآثار المفجعة لها وذلك علي النحو الآتي: أولاً: أن الموقف كان يتطلب عملاً عاجلاً، يستدعي التدخل الفوري لمنع تدهور الأمور، إلا أن الذي حدث بالفعل مخالف لذلك تماما، حيث تم فقط تبادل الاتهامات بين الشركة صاحبة العبارة وميناء سفاجا (ميناء الوصول المفروض)، فعلي الرغم من أن انقطاع الاتصال بالعبارة قد حدث منذ الساعة العاشرة مساء، وعلي الرغم من أنه كان مقرراً لها الوصول إلي سفاجا في الثانية والنصف فجراً، إلا أن الجميع قد تغافل عن كل ذلك دون أي مبرر، الأمر الذي ترتب عليه أن جهود إنقاذ العبارة وركابها لم تبدأ في الحقيقة إلا في السابعة والنصف صباحاً، أي بعد حوالي ست ساعات ونصف الساعة من غرقها!. ثانياً: أنه كان من المفروض أن تتعامل أطراف الأزمة مع الكارثة باعتبارها موقفاً عصيباً يتزايد فيه الغموض بشأن طبيعة الموقف المطروح وبدائله المتاحة، كما كان يجب أن يتحلي الجميع بالإحساس بالأهمية القصوي لما يجري (Urgency.) إلا أن الذي تبدي لنا، أن كافة الأطراف المسئولة عن التعامل الفوري مع المصيبة، قد تعاملت مع الحدث وتوابعه ببرود أعصاب، يمكن أن يدخلها في دائرة المسئولية الجنائية عندما تقاعست عن عمل وأداء الفعل الواجب في مثل هذه الطوارئ، وذلك مثلما يحدث في أي دولة بالعالم تحترم مواطنيها، وتحرص عليهم أحياء كانوا أم أمواتا. ثالثاً: أن قلة المعلومات الصحيحة المتاحة، مع استمرار الضغوط بسبب ضيق الوقت، قد أديا دائماً إلي ارتفاع حدة التوتر بين أطراف الأزمة، وقد لمسنا ذلك بوضوح شديد في العديد من الممارسات مثل: 1 اضطرار أهالي الضحايا وذويهم للزحف إلي مدينة وميناء سفاجا للاستفسار عن ضحاياهم أو الأحياء منهم، أو للتعرف علي جثثهم، ولكن بدون أي جدوي، ليال وأيام عصيبة عاشها هؤلاء المعذبون، افترشوا خلالها طرقات المدينة وأرصفتها انتظاراً وسماعاً لأي معلومة مفيدة ولكن هيهات، ليس ذلك فقط، بل إن الذي حدث بعد ذلك لا يمكن تصوره أو تصديقه، حيث تناثرت التصريحات العجيبة التي أصابتهم بالصدمة وأصابتنا نحن أيضاً، فبينما هم ينتظرون ويطمحون فقط في معرفة حقيقة أماكن وجود جثث ذويهم لا معرفة الناجين منهم، إذا بالسادة المسئولين المحترمين يخبرونهم بأن الجثث قد نقلت إلي مشرحة زينهم بالقاهرة، ثم قيل لبعضهم إن الجزء الآخر منها قد نقل إلي الغردقة والمنيا وقنا، وهكذا كان مطلوباً منهم أن يصبحوا "كعب داير" بين هذه المحافظات لسماع أو معرفة حقيقة ما حدث لذويهم من ركاب العبارة المنكوبة. لذلك لم يكن غريباً أو مستهجناً أن يضطروا لاقتحام وإحراق مكتب الشركة المسئولة عن العبارة، ولكن الغريب الذي صاحب ذلك أن تلجأ الدولة للدفع بجنود الشرطة المدججين بالهراوات وبالقنابل المسيلة للدموع، لا لشيء إلا لأنهم اقتربوا من ميناء سفاجا محاولين دخوله، ظناً منهم وهذا حقهم بأن دخولهم قد يجيب علي الأسئلة المعلقة التي تؤرقهم بخصوص ضحاياهم، والتي لم يكلف أي مسئول نفسه بمشقة شرح حقيقة ما حدث لذويهم والإجابة علي الأسئلة الحائرة علي ألسنتهم. 2 لجوء المسئولين عن الإدارة العشوائية للأزمة للإدلاء بمعلومات متناقضة وربما كاذبة، والشيء المحزن في ذلك أن يقف هؤلاء يدلون بأكاذيبهم أمام رئيس الدولة، فبينما تأكد بالفعل أن العبارة قد أرسلت استغاثات إلي الجهات المختصة إلا أن أحداً لم يتحرك لإنقاذها أو إنقاذ ركابها علي أقل تقدير، كما أن السيد رئيس هيئة مواني البحر الأحمر قد أفاد أثناء اجتماعه مع أعضاء لجنة الطاقة والإنتاج الصناعي والنقل بمجلس الشعب بأنه لم تصدر أي اشارات استغاثة من قائد الباخرة، إلا أن أكثر الذي يثير الأسي علي ما آلت إليه احوالنا، هو إفادته بأن الهيئة التي يترأسها "بكل فخر" لا تتحمل أي مسئولية من قريب أو بعيد عما حدث للعبارة، مذكراً بأن مهمة هيئته "الموقرة" تقتصر فقط علي المراقبة والتأمين لمسافة تمتد من 15 إلي 20 ميلاً فقط من الميناء في عمق البحر، حيث يقتصر دورها علي إفساح الممرات الملاحية للسفن القادمة أو المغادرة في هذه المسافة، والأدهي من كل ذلك قوله بأن هيئته ليس من بين مهامها الإنقاذ أو تلقي نداءات الاستغاثة! فإذا كان ذلك صحيحا. فمن إذن المسئول عن كل ذلك؟ أما الجديد في مفاجآت كارثة العبارة فهو أمران علي درجة عالية من الاهمية من وجهة نظرنا، الأول اتضحت معالمه في اعلان منشور بالاهرام بتاريخ 8 فبراير، تطلب فيه الهيئة العامة لمواني البحر الاحمر توفير عبارات "حديثة" (لاحظوا معي صفة العبارات المطلوبة) للعمل علي الخطوط الملاحية المنتظمة بين المواني المصرية والسعودية، هذه واحدة، أما الامر الآخر والمثير فإنه يتعلق بالمفاجأة التي تحدث عنها الدكتور/ محمود محيي الدين وزيرالاستثمار في اجتماع مجلس الوزراء في نفس يوم نشر الاعلان، السيد الوزير قال واعلن ان شركة السلام للنقل البحري لا تمتلك العبارات: السلام (94)، (95)، (98) لكنها تمتلك فقط العبارة السلام (89)، أما العبارات الثلاث التي سبق ذكرها فهي ملك لشركة "بنمية" واستطرد موضحا: بأن هذا الموقف قد يؤثر علي الوضع القانوني للحادث!! (علامات التعجب من عندنا).