ليست نوستالجيا لكنها حقائق اتذكرها لأن ماهو علي الأرض قبيح . ورغم أن هناك ثورة عظيمة إلا أنها حتي الآن لازالت محاصرة بأسوأ ماكان في الماضي ورجاله وأفكاره . أتذكر اليوم أم كلثوم والسد العالي وآمال الشباب التي كان يسهل جدا تحقيقها !!. ليس هناك أي علاقة بين أغنية ام كلثوم انت عمري والسد العالي , ولو كانت هناك علاقة بين السد العالي والاغاني فهي أغنية عبد الحليم "قلنا ح نبني ودي احنا بنينا السد العالي وأغنية ام كلثوم "علي باب مصر " لكن بالنسبة لي تستدعي كلمة السد العالي في ذهني علي الفور موقفين مع الاغاني وموقفا مع الحياة . اما الذي هو مع الاغاني فحدث حين كنت طالبا في الاعدادية في مدرسة طاهربك بالاسكندرية وكان معنا في الفصل تلميذ من اصول بدوية لا اذكر من اسمه الا اللقب "التومي " ترك مصر بعد الثورة الليبية وغادر الي ليبيا مثل كثير من بدو الصحراء الغربية وانقطعت عني اخباره . كان التومي ذو صوت جميل يغني لنا في الفصل دائما وبالذات أغاني شادية وذات مرة زاحمه تلميذ من الفصل اسمه أحمد . وكان احمد هذا طويلا قوي البناء بحيث لا يبدو ابدا انه في السنة الثانية الاعدادية مثلنا . وقرر احمد ان يغني هو في الحصة الخالية فتركه التومي يغني , وكان لأحمد صوت جهوري اجش فظيع لكنه لم يتراجع وغني لنا اغنية عبد الحليم قلنا حنبني ودي احنا بنينا السد العالي وتحول الفصل الي كورس وأخذنا الحماس من الأغنية ومن حماسه وعلو صوته فنسينا ان حجرة الناظر هي المجاورة لنا وكانت النتيجة طبعا حضور الناظر مفزوعا وضربنا جميعا علي أيادينا بالعصي وضرب احمد وعبطه ايضا .لم يكن السد العالي قد بني بعد لكن اغنية عبد الحليم صارت محفوظة كأنها اغنيه عاطفية . جميع أغاني حليم الوطنية كانت كذلك .كان ذلك فيما اذكر عام 1960 وفي العام التالي حصلت علي الاعدادية بمجموع كبير يؤهلني لدخول الثانوي العام وزيادة الا اني اخترت المدرسة الصناعية . لماذا فعلت ذلك ؟ لسببين. ان التعليم لم يكن مجانيا بعد وخفت ان يعجز ابي عن مصاريف الجامعة بعد ذلك وقررت بعد ان انتهي ان اذاكر من جديد الثانوية العامة والتحق بالاداب التي اريدها حيث كنت قد اكتشفت حبي للكتابة , ولقد حدث ذلك فعلا فيما بعد , لكن لم يكن ذلك السبب الوحيد لدخولي الصنايع بل كان السد العالي احد الاسباب حيث كنا نعرف ان فرصة العمل فيه بعد التخرج كبيرة بعد ان صار يشكل رمزا لانتصار الارادة المصرية. في مدرسة اسكندرية الصناعية بمحرم بك وكانت جديدة وكنا اول طلابها لم ينقطع الحديث عن عملنا في السد العالي بعد التخرج وفي السنة الثالثة عام 1964قامت المدرسة بالرحلة الجميلة التي كانت مدارس الاسكندرية الثانوية كلها تحرص عليها ذلك الوقت وهي السفر الي اسوانوالقاهرة فكانت الفرصة لاقابل السد العالي وجها لوجه .وطبعا لم اقابله ذلك الوقت لأنهم كانوا لا يزالون يقومون بتحويل مجري نهر النيل الذي بعده سيبدا العمل في السد ثم يعود النيل الي مجراه الطيبيعي فيجد السد امامه فيتوقف خلفه مكونا بحيرة ناصر .في ذلك الوقت كانت اغنية ام كلثوم "انت عمري " تملأ فضاء مصر من المقاهي والبيوت وكل مكان فيه راديو او تليفزيون . كان لقاء السحاب كما سمي ذلك الوقت بين ام كلثوم وعبد الوهاب . انطلقنا من الاسكندرية في قطار الدرجة الثالثة الذي سيقطع الرحلة في اربع وعشرين ساعة ولم نشعر باي خوف او ضيق . كنا شبابا يتحمل وكنا ذاهبين لنري مشروع السد العالي الذي قد نعمل فيه . وكما كان يحدث زمان في القطارات مضي الليل كله في حكايات جميلة بيننا واحيانا مع اساتذتنا العظام الذين اذكرهم بكل خير لانهم كانوا يشرحون الدروس باخلاص ولا يشحعون احدا علي الدروس الخصوصية ,وترك لنا المدرسون الحبل علي الغارب تلك الليلة فانطلق بعضنا في النكت العادية وغير العادية حتي وصلنا اسوان ولم ينم اي واحد فينا اكثر من ثلاث ساعات متقطعة وعلي الفور اخذونا الي فندق لا اذكر اسمه لكنه ليس كاتاراكت طبعا . كانت الحرارة عالية رغم اننا كنا في فصل الشتاء وكانت بالنسبة لنا نحن السكندريون عالية جدا لكنا كنا سعداء مجانين بالسعادة وحين ذهبنا الي موقع العمل ورأينا عشرات الحفارات والاف العمال كنا لا نصدق وشرح لنا مهندس روسي ومعه مترجم مايحدث بالضبط وراحت عيني علي لافتة كبيرة كتب عليها باقيخمسة وستين يوما علي تحويل مجري النهروعرفنا ان اللافتة يتم تغييرها كل يوم ليعرف العاملون ان الوقت اقترب ولا ينقطع حماسهم . امضينا ثلاثة ايام في المدينة التي كان صوت ام كلثوم فيها ايضا اذا جلسنا علي مقهي تغني انت عمري وعدنا فخورين بما عرفناه من معلومات عن توليد الكهرباء والتوربينات التي ستستخدم في ذلك وكيف ان الكهرباء ستعم مصر كلها والبحيرة التي ستقوم خلف السد. وبمشاهد العمل الجبار الذي لا ينقطع . في القاهرة كانت قصة اخري مع الايام الثلاثة التي سنمضيها فيها اهمها بالنسبة لي اني تخلفت عن العودة الي الاسكندرية لاني اردت البقاء في الجمالية لاشاهد شخصيات نجيب محفوظ لكن هذه قصة اخري . استمعت في القاهرة الي ام كلثوم تغني انت عمري اكثر مما استمعت في الاسكندريه وبالطبع اسوان . وحين عدت الي الاسكندرية لم يكن تبقي علي امتحان الدبلوم غير وقت قصير . اخذنا جميعا نحلم بيوم التخرج لنعمل في السد لعالي وحين تخرجنا كان هناك اكثر من سد عال في الاسكندرية وغيرها هي المصانع الجديدة التي كانت تبني كل يوم. وفي شهر واحد بعد التخرج كنا جميعا نعمل في شركات الاسكندرية الجديدة والقديمة , وكان حظي انا ان عملت في ثلاث شركات , كانت الاولي هي شركة السيوف للغزل والنسيج التي بعد ان قبلت فيها وجدت انها بعيدة عن البيت .قلت لماذا اتعب نفسي .وهكذا لم اذهب لاستلام العمل- شوف البغددة- والتحقت بالعمل في ادارة النقل وامضيت فيها شهرا واحدا حتي قابلت احد الزملاء وحدثني انه يعمل في شركة الترسانة البحرية وكنت هي الاقرب الي بيتي وكانت ايضا تعطي المؤهل المتوسط راتبا شهريا مقداره خمسة عشر جنيها ,اي بزيادة ثلاثة جنيهات عن المرتب المقررللمؤهلات المتوسطة . كما كان صاحب المؤهل العالي يحصل فيها علي عشرين حنيها والمقرر في غيرها ثمانية عشر. علي الفور تقدمت للترسانة والتحقت بالعمل في اليوم التالي للتقدم -اليوم التالي من فضلك لاحظ ذلك - وكان رقم تعييني فيها " 532" لا انساه . وفيها ذاكرت والتحقت بالجامعة وتركتها وعدد العاملين فيها اثنتي عشر الفا . كنت فيها وهي تبني من البداية وكنا نبنيها كأنما نبني وطنا وسدا عاليا كبيرا آخر, ولقد فعلنا ذلك . هذه كانت أيام الأمل الذي يمكن تحقيقه وكان أول الطريق له أن تجد حين تتخرج من المدرسة او الجامعة المشروعات تفتح لك صدرها وتضمك اليه .كم عدد العاطلين من شبابنا الآن في مصر , سبعة ملا يين وأكثر . والأمل الأكبر أن ينتهي ذلك .وانظر حولك تري كيف تم تدمير كل المصانع التي بنيت في الستينات وبيعها وتخريبها لكن السد العالي لم يقدر علي تخريبه أحد ولا تشويهه أحد . وكما الهمتنا اغنية عبد الحليم العزيمة حفظ السد للاغنية صدقها الأبدي . وأملي الأخير أن تحقق لنا هذه الثورة يوما ثقتنا في تحقيق الآمال . ليس مهما أنا أو جيلي . لكن هؤلاء الذين صنعوها من الشباب . أن تظل هذه الثورة مثل السد العالي صامدة للزمان ؟