الفنان محمد الطراوي ل " محيط " : أعشق الحرية وسأعتزل العمل العام في مصر محيط – رهام محمود محمد الطراوي " إبحار في الأبيض " هو أحدث معرض للفنان المصري الكبير د. محمد الطراوي ، والذي تحتضنه قاعة بيكاسو ، وبين لوحات المعرض تظهر براعة الفنان في تجسيد الأمكنة التي تشع رونقا بألوانها الشفيفة ، وقد التقته " محيط " ودار الحوار حول معرضه والمشكلات التي تعترض العمل العام في مصر وخاصة في مجال الثقافة وكيف ينظر للساحة التشكيلية المصرية وموقفها عالميا . محيط: ما الرؤية التي تحملها لوحات المعرض الجديد ؟ أعتبر أن معرضي الجديد استطعت أن أطبق فيه معنى أن يكون الفنان متعدد التجارب ومتمرد غير متقولب على نمط واحد ، لأن ذلك ضد الإبداع في أي مجال ، والمشكلة أن المبدع حينما يجد أن المتلقين استقبلوا أعماله بشكل إيجابي وتآلفوا معها فإن ذلك قد يدفعه إلى تكرار نفسه والذي يحجر على مكامن الإبداع الداخلية لديه ويدفعه للكسل وعدم المغامرة ، وفي معرضي الجديد استخدمت خامة مختلفة ، كما حاولت الولوج لعالم أكثر رحابة وهذا أهم عنصر في تأهيل المبدع ليحظى باحترام الجمهور . اعتاد جمهوري على أسلوبي الذي أجسد فيه المكان ، ولكني في المعرض الجديد قدمت مجموعة من النسوة او الوجوه الإنسانية بنوع من التمرد على تجربتي الفنية السابقة ، وقدمت لغة مرئية بصرة مختلفة برأيي ، وما أسعدني هو احتفاء الجمهور بالتجربة الجديدة .. مجموعة الأعمال التي أطرحها تمثل بعض من النسوة من البدو ومن أماكن أخرى ، واستخدمت فيها أسلوبا إيحائيا أي لا يقوم على الإدراك المباشر ، وهي محاولة للإفلات من أثر الواقع والدخول في مرحلة أكثر عمقا ورحابة بخامة معقدة شديدة الصعوبة لم تألفها العين المصرية في هذه الموضوعات ، ومعروف أن الألوان المائية خامة من النوع " السهل الممتنع" وتحتاج لعلاقة عشق بينها وبين الفنان لتبوح بأسرارها الكامنة والكاملة . محيط: كيف كانت بداياتك الفنية ، وما أهم الخامات التي استخدمتها ؟ بدأت مثل أي طفل، تراوده موهبة ما معينة، أحب أن يفرغ هذه الطاقة من خلال ملكة خاصة به، وقتها كنت لا أعلم أني قد أصبح فنانا، ولكنني كنت مصرا على أن أكون كذلك، وشجعتني أسرتي وخاصة والدي إلى أن التحقت بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، ثم حولت دراستي إلى القاهرة. هذه الدراسة هي التي وفرت لي المناخ المناسب كطالب للتعرف على أساتذة كبار، وارتياد المعارض، وكان هذا بمثابة بداية مشروع صغير لفنان، تتلمذ على أيدي فنانين كبار وعظام. وبعد تخرجي في الكلية، التحقت بالصحافة، وعرض علي أن أعمل في مجال التدريس حتى وقت قريب. اما عن الخامات فقد استخدمت العديد منها ، ولي تجربة مكونة من سبعة أعمال لفتت نظر الجميع، استخدمت فيها الألوان الزيتية، ولم أوقع على الأعمال لأحدث صدمة لدى المتلقي ، ولكن بعد حصيلة السنوات أردت أن أقدم نفسي بوجه آخر وخامة غير التي اعتدت عليها. محيط: معروف أنك تتبنى المواهب الفنية الشابة .. كيف يحدث ذلك ؟ كنت قوميسير صالون الشباب في الدورة السابعة عشر، وكانت تجربة مثيرة جدا بالنسبة لي ؛ حيث تحولت إلى تلميذ وأستاذ في الوقت نفسه وبلورت أفكارا كثيرة ، احتضنت وقتها مجموعة كبيرة جدا من الشباب، وكنا نتناقش كثيرا في أعمالهم، وأذكر أن أحد الشباب كانت اللجنة قد رفضت مشروعه وبعد حواري معه وإضافة لمسات بسيطة فاز بالجائزة الأولى، وأرى أن القوميسير عليه التجاوب مع الشباب باعتبارهم أصدقاء له ، ومن خلال معارفي بالمواهب الجديدة اكتشفت خريطة فنية مهمة تمتلكها مصر ، مع حرصي على تذويب الفواصل بيننا دائما شخصيا وفنيا . الشيء المؤسف أن فكرة التبني انقرضت بين المبدعين الكبار ، ولكنني تعلمت تبني المواهب من مدرسة " صباح الخير " و " روزا اليوسف" والتي تمتعت فيها بمكانة كبيرة لإصراري على المنافسة مع حداثة عمري . محيط: كيف أثر عملك بالصحافة على إبداعك ؟ الصحافة ومجال الإعلام بوجه عام يدفع الموهوبين للأمام ، وتعطيه الشهرة المطلوبة ، ولكن تحدث المشكلة إذا لم يكن الشخص موهوبا بحق ولا يمتلك أدوات جيدة ، وأذكر أن رسومي الصحفية كانت تمثل لي إطلالة أسبوعية على الجمهور ، ومعرض دائم لي ، وهذا على المستوى الأدبي، أما على المستوى التقني فالصحافة تمنح مناخا جيدا ؛ حيث يستطيع المبدع أن يبذل أقصى طاقة له، ويتسابق مع الزمن، ويمتلك مهارة السرعة في الآداء للحاق بموعد الطبع ، وأفادني ذلك كثيرا ، جعلني أكسر حدة ذلك المسطح الأبيض الذي أراه كوحش يطاردني . محيط: إبداعك كفنان منفصل عن رسومك الصحفية .. كيف تم ذلك ؟ افتتح الفنان فاروق حسني وزير الثقافة المصري أول معرض أقمته، قال لي وقتها : " توقعت أن أشاهد أغلفة مجلة صباح الخير كسائر الفنانين الصحفيين الذين يقيمون المعارض"، فقلت له أنني أقدم لغة أخرى مختلفة ومفهوم آخر بمعارضي. المشكلة هنا أن الفنان يجب أن يتحلى بالجرأة لانتقاء أعماله وأن يتمكن من الإنفلات من مقتضيات العمل الصحفي وهو أمر عسير للغاية . من لوحات المعرض حينما أرسم لوحة أتعامل معها بحرية كاملة كمبدع ؛ وأكون وحدي صاحب القرار في صياغتها فكريا وإخراجها فنيا وهو أمر يختلف عن الرسم للصحافة بالطبع الذي يقف على قدم المساواة مع الكلمة المكتوبة ، ويكون وراءه رؤية تتمثل في تكثيف المكتوب لمرئي ، وهو يحتاج قدرة عالية من الفنان أيضا لإيجاز الموضوع وأن يخط بلغة تتجاوز قدرات اللغة ، لأنها لغة تدرك بالعين وكونية ، وبالتالي فهي أسرع وأقوى في توصيل الرسالة للجمهور . ولكن المشكلة حاليا في ندرة الرسامين الصحفيين المهرة . وما أرسمه توظفه الدور الصحفية لما يخدم المادة المكتوبة كثيرا ، وأعتبره شكلا من الرقي أن تتمكن الصحيفة من اختيار الأعمال التشكيلية وتفعيلها مع المواضيع المكتوبة . الفنان بداخلي يريد أن يكون طليقا على المسطح ، حرا في أدوات التعبير عن نفسه ، ومن هنا تجاوزت دوري الصحفي وتشبعت منه وتفوقت على نفسي به . محيط: ما الذي تنوي تنفيذه بعد توليك مسئولية الإشراف على بينالي الطفل ؟ أنا في مرحلة جمع مشاكل البينالي حتى أتمكن من حلها ، والبينالي ليس تجميع أطفال للرسم ولكن الفكرة أن تختار الموهوبين الصغار وتضعهم على الطريق الصحيح في مجال إبداعي سليم ، واعمل على تغطية مصر في بينالي الطفل والبحث عن الموهوبين الحقيقيين ، ومن هنا نخرج عن ظاهرة المركزية المسيطرة على الفعاليات والمسابقات الفنية ، ولذلك سنعلن عن البينالي في جميع قصور الثقافة المصرية في كل المحافظات، وسيستمر البينالي أسبوعا كاملا، ونعلم أن هؤلاء الأطفال سيشكلون الخريطة الإبداعية غدا لمصر. محيط: ما رأيك في الساحة التشكيلية حاليا، وهل يوجد حركة نقد حقيقية توازيها؟ هناك اختلاف واضح بين الحركة الأدبية والفنية في مصر ؛ ففي مجال الأدب نجد الإنتاج كبير والنقد ضئيل ولا يوازيه ، والعكس صحيح في الفن فالنقاد أكثر من حجم المنجز الإبداعي ، ولكن ذلك لا يعني اننا لا نملك بالفعل نشاطا واضحا وملموسا في مجالات الفن التشكيلي وذلك على المستوى الرسمي الممثل في وزارة الثقافة والشعبي أيضا ، ولكن يجب أن نلتفت لأن الكم الفني المنجز يطغى على الكيف دائما الذي تقلص فيه حجم التميز . وعن الحركة التشكيلية المصرية ككل ، أرى أن تمثيل مصر في العالم العربي أكبر من أوروبا وشرق آسيا ؛ لأننا لازلنا تحكمنا مسألة الإنتماءات وتجذبنا المحلية عن العالمية ، ولكني أرى أن العمل الفني لغته عالمية تخاطب الإنسان في كل مكان ، وفي ظل العولمة وبعد أن أصبح العالم قرية صغيرة لابد أن نراعي هويتنا ولكن نخاطب العالم أيضا ولا نخرج عن حلبة المنافسة ، ولا أعرف كيف تحل هذه المشكلة رغم امتلاكنا لمواهب تفوق كثير من الأسماء الشهيرة عالميا . أما بالنسبة للنقد فهو جسر ممتد بين المبدع والمتلقي ، ولكننا نستهين بالنقد ونتعامل معه بمنطق " الفهلوة " ، وخطاب النقد الفني استاطيقي ، ونغفل مثلا النقد الإنطباعي والفلسفي وغيره من اتجاهات النقد الفنية المعروفة ، بحيث يتحول النقد لعملية إبداعية موازية للفن الأصلي ، ويتوغل الناقد في لغة الفنان ويحللها للجمهور وبه تكتمل منظومة الإبداع . محيط : كيف تنظر لأزمة أتيلية القاهرة التي وصلت لعزل مجلس إدارته الذي كنت عضوا به ؟ أرى أن تضارب عملية صناعة القرار في مصر أدت إلى تدمير أتيلية القاهرة وهو منبر ثقافي هام ، وأرى أن عزل مجلس الإدارة قرار معيب وقد تم الطعن عليه ومازالت القضية تنظر بالقضاء المصري ، ويؤسفني أنني خضت هذه التجربة على المستوى الشخصي ، وتحول الأتيلية لبؤرة صراع وهو مناخ لا يشجع على تقديم الثقافة ولا يفترض أن يشترك فيه المبدعون الحقيقيون . وأحمد الله أني لم أتأثر بهذه المشكلات ، لأن الجميع ينظر لي كفنان في المقام الأول وليس موظف في العمل الثقافي العام ، وهدفي بالأساس من عضوية الأتيلية أو نقابة التشكيليين هو خدمة الناس وليس لي أية مصالح شخصية . وبغير أن ينصف القضاء أتيلية القاهرة ، لن اكون عضوا فيه وليس بمجلس إدارته فحسب . محيط : ما رأيك بأداء نقابة التشكيليين وخاصة انك مسئول لجنة العلاقات العامة ؟ هناك بعض اللجان أبلت بلاءَ حسنا وأخص بالذكر اللجنة الاجتماعية، والعلاقات العامة، لكن أداء النقابة بالمجمل لا يتجاوز 50% ؛ ويرجع ذلك لفكرة تصفية الحسابات الشخصية بين بعض الأعضاء ، وقد تأثر أداء النقابة أيضا بمرض النقيب ، وتراجع عزيمة بعض الأعضاء ، كما أن موارد النقابة لا تؤهل لدعم الأفكار الجديدة ، وأيضا تسود ظاهرة تصيد الأخطاء بين الأعضاء . اردت ان نستثمر أفكار الجمعية العمومية للنقابة وليس مجلس الإدارة فحسب ، وأن نعطي ظهورنا لكل الصراعات التي تبدأ مع تولي أي شخص المسئولية بالعمل العام . وتكمن مشكلة العمل العام في مصر بأنه شكلي يجمل المنظومة الرسمية ولا يدعم الثقافة الحقيقية أو ينهض بالوطن . محيط: هل سترشح نفسك كنقيب للتشكيليين؟. لن أتقدم للانتخابات مرة أخرى، وقررت أن تكون هذه الدورة هي الأخيرة في العمل العام بمصر ، وسوف أتفرغ لفني وإبداعي .