أحيا الفلسطينيون في الأسبوع الماضي ذكرى يوم الأرض، رمز تشبثهم بها والوفاء لشهدائها . وفي الأشهر الثلاثة المقبلة سوف يحيون مناسبات يوم الأسير، رمز الدفاع عن الأرض، ويوم النكبة: اغتصاب 78% من أرض فلسطين، ويوم "النكسة": احتلال ما تبقى منها . يحيون هذه المناسبات في ظل هجمة استيطانية لالتهام ما تبقى من أرض فلسطين خارج قبضة الكيان الصهيوني الذي بات يسيطر، بصيغ مختلفة، على 85% منها . بذلك يصبح محض وهم إمكان التوصل بالتفاوض ل"حل الدولتين"، فما بالك بحل يلبي حق العودة والدولة وتقرير المصير، أي "الحل الوسط" الذي تكفله قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالصراع . لم يعد أحد يحترم عقله يجادل في هذا الاستخلاص . لكن ما لا يتنبه له بما يكفي هو: إذا كانت حركة "الكيبوتسات" قد أسست القاعدة التحتية للكيان الصهيوني، فإن الاستيطان في تراكمه تحول إلى حالة كيفية تدفع نحو المزيد من العدوانية والتطرف والتشدد لدرجة عدم استبعاد تجديد جرائم الطرد الجماعي في حال توافر ظرف مناسب للقيام بذلك . أما لماذا؟ التناقض بين "إسرائيل" "دولة للشعب اليهودي" والتوازن الديموغرافي القائم، يحل فقط إما باستقدام موجات هجرة يهودية كبيرة، وهذا مستبعد، أو بتنفيذ عمليات طرد جماعي للفلسطينيين تجعل المستوطنين اليهود أغلبية سكانية بين البحر والنهر، فيما هم ليسوا أغلبية، حسب تقديرات الديموغرافيين الصهاينة أنفسهم . ذلك دون أن ننسى أن توافر مثل هذا الظرف وارد بفعل أن المنطقة مرشحة لوقوع حرب تحوله، أي الظرف، من إمكانية نظرية إلى إمكانية واقعية . هذا ناهيك عن أن الكيان الصهيوني لم يتورع يوماً عن ارتكاب مثل هذه الجرائم، بل هي مقتضى من مقتضيات إنشائه وتوسعه ككيان عدواني إقصائي اقتحم المنطقة عنوة بوظيفة استعمارية إمبريالية لا لبس فيها . بذلك، وعليه، لم يبقَ للنخب القيادية وقت لترف الجدل حول عبثية أو لا عبثية مواصلة التفاوض الثنائي المباشر، أو حول الطرف الذي يتحمل مسؤولية الانقسام الداخلي المدمر، أو حول متى يجب إنهاء التناقض بين المستويين الشعبي والرسمي في المجابهة المفروضة مع الاحتلال، أو حول الخيار السياسي والميداني القادر على مواجهة الهجوم الصهيوني المتصاعد، أو حول ما إذا كانت الولاياتالمتحدة تريد أو لا تستطيع الضغط على قادة الكيان، بينما ثبت عداؤها حتى لأدنى الحقوق الفلسطينية، أو حول ما إذا كان بوسع طرف من طرفي الانقسام الداخلي قيادة الشعب الفلسطيني وتمثيله بمفرده، أو حول ما إذا كان بناء الوحدة من دون أساس سياسي وديمقراطي يخرج الشعب الفلسطيني من لعبة الاتفاقات والتفاهمات الشكلية لإنهاء الانقسام، أو حول الخ . . من أشكال الجدل البيزنطي الذي لم يجن سوى المزيد من إحباط الحالة الشعبية، والمزيد من إضعاف العامل الوطني، في مرحلة، عنوانها الأساس: ما تواجهه الدولة الوطنية العربية الحديثة من مخطط غير مسبوق يستهدف تدميرها وتجزئتها لمصلحة إقامة دويلات وإمارات التكفير الطائفي والمذهبي الإرهابي . بكل ما جلبه ذلك للقضية الفلسطينية من تراجع وتهميش لمصلحة محاربة الإرهاب . إن كان للإشارات السريعة السابقة من أهمية، فهي استحقاقاتها السياسية الفلسطينية . إذ طالما أن الاستيطان والسيطرة على الأرض وتفريغها من أهلها كان، ولا يزال، جوهر الصهيونية وهدف مشروعها الأساس، فإن حماية الأرض والدفاع عنها وتعزيز الصمود فيها هو محور كفاح الشعب الفلسطيني ومحك جدارة قياداته . لكن النخب القيادية الفلسطينية القائمة في وادٍ غير هذا الوادي فهي - بتركيبتها وصراعاتها وانقساماتها - عاجزة عن بناء استراتيجية وطنية موحدة، ركيزتها الأساسية: حماية الأرض وتعزيز صمود الشعب . بل لم يعد مبالغة القول: إنه بمقدار ما أن قيادات الكيان الصهيوني واضحة في أهدافها تجاه الأرض واستيطانها وتهويدها بمقدار ما أن المشروع الوطني الفلسطيني ملتبس بفعل ما يسود أطره القيادية من حالة ارتجال وتنابذ وأوهام سياسية تعكس مصالح نخبوية وفئوية ضيقة لا علاقة لها بما تتعرض له الأرض، ومثلها الشعب، من استباحة شاملة ومخططة . هنا ثمة حالة التباس وتيه وطني يتحمل مسؤوليتها طرفا انقسام "السلطة الفلسطينية" في الضفة وقطاع غزة، اللذان يتهربان، وكل منهما لأسبابه، من تلبية استحقاق بناء "الوحدة والمقاومة" وإحياء البرنامج الوطني: العودة والدولة وتقرير المصير، لمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في الوطن والشتات . بل ويتهربان حتى من إعادة توحيد وتعريف "سلطة أوسلو"، بما يجعلها، كجهاز إداري، قادرة على تلبية متطلبات مجالات التعليم، الصحة، التنمية، والقضاء لأربعة ملايين هم فلسطينيو الضفة وقطاع غزة، الذين يثقل كاهلهم، حسب إحصاءات فلسطينية رسمية، هموم بطالة تناهز 35%، و80% بين النساء، وفقر يناهز 50%، وتعليم جامعي تلقيني لا علاقة له بالبحث، وبطالة سنوية تناهز 40 ألفاً من خريجي الجامعات وطلبة الثانوية، وقطاع صحي يلهث وراء الامراض دون قدرة على مواكبة التطور الطبي، لدرجة أن يضطر الآلاف من الفلسطينيين إلى معالجة أنفسهم في مستشفيات غير فلسطينية، علماً أنه يمكن تأمين البنية التحتية والكادر المطلوبين فيما لو توحدت الجهود والطاقات والإمكانات وتم صبها بتخطيط سليم لتعزيز الصمود في مرحلة تحرر وطني لم تنجز مهامها بعد . قصارى القول: هذه هي مقتضيات المشروع الصهيوني، وهذه هي استحقاقات مواجهته والتصدي له، وإدارة الصراع معه، سياسياً وميدانياً، في محطة مفصلية تتطلب أول ما تتطلب إنهاء الانقسام المدمر وإطلاق خيار الوحدة والمقاومة القادر وحده على حماية الأرض وتعزيز صمود الشعب عليها . فتحقيق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، أعني إقامة دولة فلسطينية مستقلة وسيدة، ولو على حدود ،67 ليس على مرمى حجر، بل هو مهمة كفاحية، ذلك أن رحيل الاحتلال بمظاهره السياسية والاقتصادية والاستيطانية غير وارد من دون تحويله إلى مشروع خاسر بشرياً وسياسياً واقتصادياً . أما دون ذلك فعبث جربه الفلسطينيون على مدار نحو 25 عاماً من التفاوض ولم يجنوا سوى تآكل برنامجهم الوطني وانقساماتهم المدمرة وإضعاف قدرتهم على مقاومة مصادرة أرضهم واستيطانها وتهويدها . نقلا عن " الخليج" الاماراتية