لقد كشف إعلان السيد محمود عباس نيته في عدم الترشح لأي انتخابات قادمة، أن مشروع التسوية يمر في منعطف خطير، وأن عمليات التجبير والتجميل التي استمرت لأكثر من عشرين عامًا، هي بمثابة عملية خداع متواصلة للجماهير الفلسطينية، وعلى السائرين في ركب التسوية ومنظريه تقديم الاعتذار على سنوات الضياع التي تسببت في تفكيك الشارع الفلسطيني وانقسامه بعد أن سار فريق فلسطيني وبدون مشاوره الآخرين في طريق التفاوض مع الكيان الصهيوني، فكان الانقسام الأول بعد أن كانت المقاومة تجمع كل الفصائل الفلسطينية قبل أوسلو، وبالرغم من اختلاف الأيدلوجيات إلا أن الهموم المشتركة والعدو الواحد ومقاومته بالحجارة والزجاجة الحارقة والسكين والطلقة وضراوة المواجهة اليومية مع الاحتلال كانت تجمعنا تحت راية واحدة وعنوان واحد هو تحرير الأرض وطرد المحتل. السيد أبو مازن مهندس أوسلو وهو الذي خط أول لبنه للانقسام الفلسطيني، بعد أن انقسم الشارع بين مؤيد للتفاوض والاعتراف ب (إسرائيل)، وبين أصحاب النظرة الثاقبة وأغلبية الشعب الفلسطيني، الذين كانت مواقفهم واضحة بعدم إمكانية تحقيق السلام مع العدو الصهيوني، باعتباره كيانًا استعماريًّا طارئًا يجب اجتثاثه من فلسطين, وعدم الاعتراف بشرعية احتلاله مهما كانت الظروف والمبررات، بالإضافة إلى أن العقلية الصهيونية التي فهمتها فصائل المقاومة، كانت تقول بأنه لا يمكن للمحتل الصهيوني أن يقبل التنازل عن شبر احتله من فلسطين، أو التراجع عن اغتصاب المقدسات التي يسعون إلى تهويدها، خلال جلسات تفاوض عبثية، جردوا خلالها فريق التسوية من كل عوامل القوة، أو أن هذا الفريق أراد ذلك عندما أدار الظهر للأغلبية من الفلسطينيين، بل سعى إلى تنفيذ الاتفاقيات الأمنية ولازال كما هو حاصل في الضفة المحتلة، ومع ذلك لم يحصل على الدولة الموعودة ذات السيادة المهدورة والمقومات المعدومة.. لم يحصل على تلك الدولة رغم النموذج الفلسطيني الجديد الذي يشرف عليه الجنرال دايتون.. لم يحصل على الدولة بالرغم من أن عنوانها لن يخرج عن التبعية للمنظومة التي تدعم الكيان الصهيوني وتسعى إلى تثبيته على أرض فلسطينالمحتلة. ماذا حقق السيد أبو مازن في فترة حكمه وإمساكه بمقاليد الأمور، بعد مؤامرة اغتيال الرمز (أبو عمار)، غير رعاية المخطط الأمريكي الذي طالب بانتخابات تشريعية، تفرز ممثلين يوقعون على إنهاء الصراع ووقف الانتفاضة والمقاومة، فلم تكن المبادرة للانتخابات فلسطينية خالصة، وإلا لماذا تأخرت انتخابات التشريعي لأكثر من عشرة أعوام؟! ولماذا يتم الآن تصوير الانتخابات على أنها حبل النجاة، وتقدَّم على جهود تحقيق المصالحة؟!. ليذهب أبو مازن إلى البيت ويستريح من العبث مع العدو الصهيوني في مفاوضات لا طائل منها، فلقد خابت الرهانات وسقطت كل الوعود، وخمدت كل المشاريع الدولية، ووصلت الأمور إلى مرحلة الاستهانة صهيونيًا بفريق التسوية، فلماذا لا يصارح السيد أبو مازن شعبه بفشل عملية التسوية، وأن الخيار الذي تمسك به لسنوات لم يكن هو خيار الشعوب المحتلة، وأن التبرؤ من المقاومة ولو كانت حجرًا، قد جعل الصهاينة يستخفُّون بهذه الزعامة التي لا تستند إلى قوة جماهيرية، فالتفاوض بعد التفريط بعوامل القوة وتقزيمها هو تفاوض المستسلم لا تفاوض الذي يسعى إلى استرجاع الحقوق. لقد أعلن أبو مازن سابقًا وأكثر من مرة، عزمه عدم الترشح لفترة ثانية، وكان أن انتهت فترته الرئاسية في يناير 2009م، وقَبِلَ بالتجديد لعام آخر بمباركة من وزراء الخارجية العرب، وتبخرت التصريحات السابقة حول عدم الترشح وكأنها لم تكن، وتم انتهاك القانون الأساسي، حيث تعتبر فترة حكم (أبو مازن) من أكثر الفترات انتهاكًا للقوانين والدستور، حتى لم يعد هناك ناظم لمؤسسات السلطة الثلاث، وأصبح السيد أبو مازن يتحكم فيها من خلال سلطة الرجل الواحد، وهذه الديكتاتورية معتبرة عند الغرب، طالما كان فيها تحقيق لمصالحهم وخططهم في فلسطينالمحتلة والقائمة بالأساس على حفظ الكيان الصهيوني وحمايته. إذا كان السيد أبو مازن جادًّا في عزمه على عدم الترشح للانتخابات، فإنه من الواجب على (أبو مازن) تجاه نفسه أن يسعى إلى تحقيق المصالحة الفلسطينية القائمة على أساس الثوابت الوطنية، فقد تُسجل له وطنيًّا، وتمحو بعض المحطات السوداوية في تاريخه السياسي، والذي سجل فيه انقسامين تاريخيين في القضية الفلسطينية، ابتداءً من أوسلو وانتهاءً بمباركة لمخطط "دايتون رايس" في الانقلاب على نتائج الانتخابات التشريعية، فهل السيد أبو مازن يقبل بعد قراره أن يمد اليد للآخر الفلسطيني؟!! ولتعلَن الوحدة من جديد على أسس وطنية خالصة، بعيدًا عن الاشتراطات الخارجية. أما إذا كانت هذه الخطوة مناورة سياسية من أجل استجلاب العطف الشعبي بعد انتكاسة مشروع التسوية والأداء المفضوح للسلطة ودوائرها المختلفة داخليًّا وخارجيًّا ووقوعها أكثر في خانة العداء لمصالح الشعب الفلسطيني بقصد أو بدونه، أو لتكون خطوة موجَّهة لأمريكا والكيان الصهيوني والمجتمع الدولي من أجل العمل على زحزحة الموقف الصهيوني في المفاوضات، فهذا هو الرهان الخاسر، والسراب الذي سعت وراءه السلطة وفريق التسوية، ولم تجنِ منه إلا ابتعادها عن طموح وتطلعات شعبها في التحرير والاستقلال، وغاصت في سلطة أمنية تحفظ أمن الكيان الصهيوني، بل والمستوطنين في الضفة المحتلة. والمضحك في الأمر يتعلق ببعض المطالبين للسيد (أبو مازن) بالعدول عن قراره، ولا أريد أن أتحدث على الأطراف الخارجية، وهي صاحبة أجندة تسعى أن تحققها، ولن تجد لذلك سبيلاً إلا سلطة تؤمن بالمفاوضات، وتنبذ المقاومة كما هو نهج السيد (أبو مازن) السياسي، ولكن هناك بعض المواقف من فصائل المنظمة وحركة فتح تطالب (أبو مازن) بالعدول عن قراره، وهل عجز الشعب الفلسطيني عن اختيار زعامة جديدة تكون على قدر من المسئولية والصمود في مواجهة كل التحديات؟!!. ولكن في اعتقادي أن هذه الأطراف تعتقد أن ما أقدم عليه السيد أبو مازن مناورة سياسية، وأنه باقٍ في سُدة السلطة وزعامة فتح وقيادة المنظمة، فلا سبيل أمامها إلا إظهار ولائها بمطالبة الزعيم العدول عن قرار عدم الترشح. لعل ما أقدم عليه السيد أبو مازن من قرار، يطرح علينا سؤالاً كبيرًا: هل نحن بحاجة إلى رئيس وانتخابات وسلطة؟! في ظل واقع الاحتلال الذي يقطم الأرض في الضفة، ويهوِّد الحجر والشجر في القدس، ويسعى إلى هدم المسجد الأقصى؟ ما نحتاج إليه قائد يحمل سلاحه ويقود مسيرة التحرير، ويجمع بين أطياف الشعب الفلسطيني، ويوحِّد الجهود في مواجهة الاحتلال، ويعمل على تعزيز صمود الشعب في أرضه، ولن يكون إلى ذلك سبيل إلا بإنهاء سلطة أوسلو، وإعادة دفة الأمور للشعب الذي أكد جدارته في حماية مسيرة التحرير وحماية المقاومة في كل المنعطفات الخطيرة التي مرت بها القضية الفلسطينية. المصدر: الإسلام اليوم