نال الزعيم العظيم أحمد عرابى من الظلم والاغتيال المعنوى ما لم يتعرض لمثله أى من قادة الثورات المصرية، رغم أن أياً منهم لم ينج من محاولات التشويه، أومن الميل إلى التقديس والتأليه الذين لا يقلان إساءة إلى أى زعيم. فقد اقترن حلول الذكرى 134 لثورة 9 سبتمبر 1881 المجيدة، التى صار الاحتفال بعيد الفلاح بديلاً عن إحيائها، بترويج رواية قديمة خاطئة خلط فيها بعض المؤرخين بين عبارة شاع أن عرابى قالها للخديو توفيق عندما واجهه فى ميدان عابدين وبين هذه المواجهة نفسها. فقد ظن هؤلاء المؤرخون أن عدم وجود أصل لهذه العبارة فى حديث عرابى عندما واجه الخديو يعنى عدم حدوث هذه المواجهة من أصله!! وفى ظل عدم وجود تقاليد للبحث العلمى، لم يدقق هؤلاء حتى فى المصادر التى أشاعوا أنها لم تتطرق الى هذه المواجهة، مثل مذكرات الشيخ محمد عبده أحد قادة ثورة 1881. وليتهم يرجعون إلى هذه المذكرات بالفعل، وإلى غيرها من الكتابات العربية، فضلا عن الأجنبية مثل كتاب جاكوب لاندو (الحياة النيابية والأحزاب فى مصر 1866-1952) الذى يسمى تلك المواجهة (المقابلة المشهورة) ويرى أن ما طرحه عرابى خلالها (نقلة مهمة وكبيرة فى تقدم الوعى النيابى فى مصر). ولو أنهم قرأوا مثل هذه الكتابات جيداً، ولم يكتفوا بتصفحها على النحو الذى صار معتاداً فى عصر «التيك أواى»، لوجدوا سرداً تفصيلياً لوقائع يوم 9 سبتمبر المجيد الذى تبحث الأمم عن مثله لكى تفخر به، بينما ننكره نحن بدلاً من أن نباهى به فى العالمين. وإنه ليوم مجيد بحق. كان ظلم الخديو توفيق واستهانته بالمصريين عموماً، وجيشهم الوطنى الذى بذل معظم قادته جهوداً هائلة للحفاظ عليه بعد محمد على، قد بلغ المدى. ولذلك وجد أميرالاى أحمد عرابى أنه لا مفر من مواجهة الخديو، واتفق معه معظم قادة الجيش ونخبة مجتمعية حلمت بمصر حرة مستقلة عادلة، ففجروا أولى الثورات الوطنية الديمقراطية التى تواصلت حلقاتها بعد ذلك فى مارس 1919، ويوليو 1952، ويناير 2011 ثم يونيو 2013. وقد بدأ عرابى تحركه برسالة إلى نظارة الجهادية (وزارة الحربية ثم الدفاع بعد ذلك) لإبلاغها بأن آليات الجيش ستكون فى ميدان عابدين فى الساعة التاسعة من ذلك اليوم المجيد (الخامس عشر من شوال 1398 هجرية الموافق التاسع من سبتمبر 1881 ميلادية) وفقاً لما سجّله الشيخ محمد عبده فى مذكراته. كما كتب عرابى إلى الخديو شخصياً، وإلى قناصل الدول المعتمدين فى مصر ليطمئنهم بأن (الغاية داخلية محضة لطلب أمور عادلة، فليكونوا مطمئنين على أرواح رعاياهم وأموالهم وأعراضهم). وانطوت رسائل عرابى تلك على دلالتين رائعتين إحداهما تؤكد رقيا اتسمت به ثورات المصريين الوطنية الديمقراطية منذ بدايتها. وأما الدلالة الثانية فهى أن العدالة ظلت قاسماً مشتركاً فى هذه الثورات كلها. فكان أول ما صدر عن عرابى فى تحديد الهدف من وقفة 9 سبتمبر الحاشدة هو «طلب أمور عادلة». وظلت العدالة فى قلب الأمور التى طلبتها الثورات التالية. ووصف محمد عبده المشهد المهيب فى ذلك اليوم عندما (وصل عرابى وهو ممتط جواده شاهر سيفه ويحيط به عشرة من ضباطه كحرس له). وما كان للخديو إلا أن يخرج إلى شرفة القصر فى حراسة مشددة، فسأل عرابى عن سبب حضوره، مع تذكيره بأنه هو الذى رقاّه إلى رتبة أميرالاى. فواجهه عرابى بقوة وثبات الضابط الوطنى المصرى المعجون بطين بلده، وقال له ما لا يقل أهمية عن العبارة التى أُقحمت بعد ذلك على كلامه وهى (لقد ولدتنا أمهاتنا أحرارا.. ولن نوّرث بعد اليوم). فقد قال: (جئنا لطلبات عادلة، وهى عزل رياض باشا وانتخاب مجلس النواب وزيادة عدد الجيش والتصديق على قانون العسكرية الجديد وعزل شيخ الإسلام...). وما أشبه الليلة بالبارحة، إذ بدأت القوى الوطنية الديمقراطية فى ثورة 25 يناير بطلب عزل وزير الداخلية وإجراء انتخابات حرة نزيهة، كما بدأت هذه القوى معركتها ضد سلطة «الإخوان» بطلب عزل حكومة قنديل وتشكيل حكومة مستقلة وإصدار قانون ديمقراطى للانتخابات البرلمانية، قبل أن تدعو إلى انتخابات رئاسية مبكرة. وكما حدث فى مختلف ثورات المصريين، أدى تعنت الخديو إلى اندلاع الثورة الوطنية الديمقراطية الأولى فى تاريخنا الحديث، والتى نتجاهلها منذ عقود طويلة ونخطئ ليس فقط فى حقها (حقنا) بل حتى فى فهم مقدماتها وتوثيق كثير من أحداثها، فنظلم شعبنا الذى يبحث عن دولة وطنية حديثة ديمقراطية وعادلة منذ قرن وثلث قرن دون أن نيأس، وسيبقى حلمه بها قائماً إلى أن يراها واقعاً ملموساً. نقلا عن"المصرى اليوم"