السياسة والإرهاب الأعمى في الجزائر العربي مفضال يمكن اعتبار سنة 2007 في الجزائر سنة للتفجيرات المدوية، التي تجرأت على المنشآت العمومية البارزة مثل القصر الحكومي ومقر المجلس الدستوري والثكنات، إضافة إلى مقرات الأمن والثكنات العسكرية، وإلى مكاتب الأممالمتحدة. وقد استهدف أحد التفجيرات في السادس من سبتمبر/ أيلول الماضي موكب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. وإلى جانب هذه التفجيرات وغيرها، عرفت السنة المنصرمة كمائن وهجومات مسلحة استهدف أحدها منشآت نفطية في جنوب البلاد. وإزاء هذا التصاعد المثير للأعمال الإرهابية في الجزائر، وتعاظم عدد الضحايا الذين سقطوا جراء هذه الأعمال، تنامت التخوفات في داخل البلاد وخارجها، وعادت إلى بعض الأذهان الذكريات الدامية للعشرية السوداء الماضية، التي تواجهت خلالها القوات العمومية مع الجماعات المسلحة المنبثقة من الجبهة الإسلامية للإنقاذ بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وإلى جانب ذلك وجدت الأوساط المعارضة لسياسة المصالحة الوطنية ضالتها في تصاعد الأعمال الارهابية من أجل إعادة الاعتبار لموقفها. وكما سبقت الاشارة إلى ذلك في مناسبات سابقة، فإن الأعمال الارهابية التي عرفتها الجزائر في السنوات الأخيرة، ولاسيما بعد مبايعة “الحركة السلفية للدعوة والقتال" لتنظيم القاعدة وأمرائه، وحملها ليافطة “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، هي أعمال تفتقر إلى الغطاء والتبرير السياسيين اللذين كانا يتوافران، إلى هذا الحد أو ذاك. لأعمال الجماعات المسلحة التي كانت تطالب في العقد الماضي باحترام نتائج الانتخابات التشريعية لسنة ،1991 وتحتج ضد إلغائها وضد حل الحزب الإسلامي الفائز بها. وبالإضافة إلى افتقاره للغطاء السياسي المعبئ للرأي العام الوطني والخارجي، ينخرط تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي في معارك “كونية"، ويجند في هذه المعارك عناصر لاتنتمي إلى أقطار المغرب العربي الخمسة فقط، بل تنتمي كذلك، إلى عدد من البلدان الإفريقية مثل النيجر ومالي وتشاد. ومن المجحف حقاً، أن يجري ربط سياسة المصالحة الوطنية في الجزائر بمختلف مفاصلها بما آل إليه جزء صغير من العناصر المسلحة الذي ارتبط أخيراً بتنظيم القاعدة، وأن يجري تجاهل منطلقات وتطورات هذه السياسة ونتائجها الايجابية. وكما يعلم الجميع فقد حرصت السلطات العمومية الجزائرية منذ بداية الأزمة على محاورة ومفاوضة معارضيها وخصومها، بمن فيهم اولئك الذين حملوا السلاح ضدها. وعرضت السلطات المذكورة على زعيمي الجبهة الإسلامية للإنقاذ في بداية سنة 1994 مبادرة لمعالجة الأزمة تقوم على دعوة منهما إلى وقف الأعمال المسلحة، مقابل الإفراج عنهما وتمكينهما من متطلبات تكريس السلم والمصالحة. وعلى الرغم من الموقف السلبي للشيخين عباسي مدني وعلي بلحاج، فإن السلطات الجزائرية واصلت مساعيها، وأفلحت في إقناع قادة ماكان يسمى “الجيش الاسلامي للانقاذ" بالجنوح إلى السلم والعودة إلى الحياة الطبيعية. وإذاكانت سياسة المصالحة الوطنية قد دفعت الآلاف إلى تسليم السلاح في بداية سنة 2000 فإنها دفعت بآلاف آخرين في نفس الاتجاه، وحررت آلاف السجناء، ورعت الأسر المتضررة في السنتين الأخيرتين. وإذاكانت سبل الحوار غير متاحة اليوم بين السلطات الجزائرية والمبايعين لتنظيم القاعدة، الذين احترفوا الارهاب من أجل الارهاب، وعزلوا أنفسهم عن شعبهم وقضاياه الأساسية، فإن ذلك لا يمنع من إبقاء العرض الذي تتضمنه سياسة المصالحة الوطنية، مفتوحاً في وجه العناصر التي تجنح إلى السلم، وتتقي الله في إخوتها وبلادها. ولا يتناقض العرض المذكور مع اعتماد أقصى درجات الصرامة، ومع تعزيز المقاربة الأمنية. وفي مواجهة تصاعد التفجيرات الارهابية المفتقرة إلى الغطاء السياسي الوطني والمندرجة في خدمة أهداف ومصالح غير جزائرية، يتقدم على بلحاج، الذي كان يصنف في خانة الرجل الثاني في قيادة الجبهة الاسلامية للانقاذ المنحلة، بصيغة للمعالجة تتخذ شكل مؤتمر وطني تشارك فيه كافة الأحزاب. بما فيها الجبهة الاسلامية، ويتم في إطار هذا المؤتمر إيجاد حل سياسي. وإذا كانت يومية “لوموند" الفرنسية الصادرة في التاسع من الشهر الجاري، والتي تحدث إليها بلحاج، قد أشارت إلى ما عرفه خطاب هذا الأخير من تجدد يتمثل في تبني الديمقراطية والتعددية بعد أن كان يسخر منهما، فإن الرجل مازال مصراً على رفض إدانة التفجيرات الارهابية، ويزعم أن تنظيم القاعدة في الجزائر موجود في وسائل الإعلام وليس على الأرض. ولكن هذا الزعم نفسه لا يعفي من استنكار وإدانة التفجيرات التي حصلت على الأرض وسفكت دماء الجزائريين، وأزهقت أرواح المئات منهم. والمعروف أن بلحاج حرص باستمرار على رفض الدعوة إلى وقف أعمال الجماعات المسلحة، على عكس عباسي مدني، الذي أيد تلك الدعوة في سنة ،1998 ووصل الأمر بالرجل الثاني في الجبهة الاسلامية إلى تزكية اغتيال تنظيم القاعدة لأحد الدبلوماسيين الجزائريين في العراق سنة 2005. وبإصراره اليوم على التملص من إدانة التفجيرات الإرهابية في الجزائر ينزع بلحاج المصداقية عن دعوته إلى إيجاد “حل سياسي" لمعالجة تصاعد الأعمال الإرهابية. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه يتعلق بطبيعة “الحل السياسي"، الذي من شأنه وضع حد لتعاظم الإرهاب الأعمى. هل يعرض “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" مطالب سياسية، يمكن الاستجابة لها من خلال “الحل السياسي" المنشود؟ هل يمكن إرضاء التنظيم المذكور بطرد اليهود والنصارى من البلدان المغاربية؟ أم باسترجاع الأندلس؟ أم أن الحل السياسي موجه لإرضاء بلحاج وزملائه المتشددين في الجبهة الإسلامية، وإرضاء الحلفاء من أمثال أيت احمد وطالب الابراهيمي ومولود حمروش وعلى يحيى عبد النور؟ ولماذا إرضاء هؤلاء؟ هل لأنهم يمارسون تأثيراً قوياً في تنظيم القاعدة يسمح لهم بحمله على وقف أعماله الارهابية؟ أم لأنهم يتحكمون في الشارع الجزائري، رغم أن من شارك منهم في الانتخابات الرئاسية كانت حصيلته هزيلة جداً؟ بعيداً عن مثل هذه التساؤلات، يتبين أن السلطات الجزائرية ليست في وضعية تتيح لها المفاضلة بين الحلول، أو تسمح لها بانتقاء هذه المقاربة أو تلك، بل إنها في وضعية تفرض عليها التركيز على المقاربة الأمنية في مواجهة من اختاروا الارهاب من أجل الارهاب، وتدفعها للاستفادة من التعاون الخارجي الواسع. ومن حسن حظ الجزائر أن الطابع الارهابي الأعمى الذي يميز أنشطة “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي"، وامتداده الجهوي الحافل بالمخاطر يفتح أمامها أبواباً واسعة للتعاون الدولي في عدة مجالات تسليحية واستخباراتية وتكوينية. ومن حسن حظ الجزائر كذلك أنها تتصرف اليوم في موارد مالية مهمة تسمح لها باقتناء الأسلحة والمعدات اللازمة لمواجهة الإرهاب، وتسمح لها أيضا، بتجنيد الموارد البشرية الضرورية في هذه المواجهة. وإلى جانب المجهود الأمني الكبير، الذي يتعين على السلطات الجزائرية القيام به، هناك مجهودات أخرى ذات أهمية بالغة تفرض نفسها، وتتعلق هذه المجهودات على الخصوص بتحسين الأوضاع الاقتصادية، وتطوير الخدمات الاجتماعية، والعناية بالشأن التربوي. عن صحيفة الخليج الاماراتية 17/2/2008