في ذكري عيدالنصر د. وليد محمود عبدالناصر أفضت هزيمة العدوان الثلاثي علي مصر عام1956 إلي ميلاد نظام دولي جديد, لاشك انه كان يمر قبل ذلك بمرحلة المخاض ولكنه كان ينتظر لحظة الميلاد التي جاءت بفضل هزيمة فرنسا وبريطانيا في حرب السويس, فقبل هذا التاريخ كان النظام الدولي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية لم يتبلور بعد.. وبالرغم من انه كان قد بدأ تخلي الامبراطوريات الاستعمارية عن بعض ميراثها الاستعماري خلال أو عقب الحرب العالمية الثانية, مثل بريطانيا في شبه الجزيرة الهندية وفرنسا في سوريا ولبنان, فانها تصورت ان هذا الاتجاه سيكون محدودا, ولم تدرك أن الحرب العالمية الثانية قد جسدت في جزء منها الحرب دفاعا عن الحرية, كما ان الحرب فتحت الباب امام الاتحاد السوفيتي السابق لنشر الافكار الاشتراكية عقب انتصار الجيش الأحمر علي النازية في ستالينجراد. ولئن كانت بوادر النظام الدولي الجديد قد بدأت تظهر في مؤتمر باندونج الافروآسيوي في اندونيسيا عام1955, والذي شكل فرصة للتشاور بين دول متشابهة الظروف وقيادات متشابهة التفكير, فان المحك الحقيقي لتغيير النظام الدولي جاء مع تأميم مصر لقناة السويس وتصديها للعدوان الثلاثي, وتأثير ذلك علي الشعوب العربية وشعوب العالم الثالث بأسرها, حيث ذكر الرئيس الكوبي كاسترو للرئيس الراحل عبدالناصر خلال لقائهما عام1960 بنيويورك ان ثوار كوبا استقوا القدرة علي مواجهة الطاغية باتيستا من جرأة مصر في اعلانها تأميم قناة السويس ومواجهتها للعدوان, فمن جهة, كان تأميم القناة ارساء لمبدأ حق الشعوب في السيادة علي مواردها الطبيعية, ومن جهة أخري, كانت القدرة علي الصمود لعدوان ثلاث دول منها قوتان كبريان بمعايير ذلك الزمان درسا عمليا في ان للإرادة الوطنية والتعبئة الشعبية دورا لايستهان به في قلب موازين القوة.. ويستحق موضوع تضامن الشعوب العربية مع شعب مصر في وجه العدوان الثلاثي ذكرا خاصا, فالقومية العربية فجرتها احداث التأميم وما بعده وصولا إلي تضامن الشعوب العربية مع شعب في وجه العدوان, سواء من متطوعين للقتال, أو حملة مقاطعة لتحميل أو تفريغ بضائع تحملها سفن الدول المشاركة في العدوان, أو المؤيدة لها, أو عمليات فدائية لضرب مصالح فرنسا وبريطانيا أو حلفائهما بالمنطقة, أو فضح للمتواطئين مع العدوان من بعض حكام الدول العربية أو نخبها السياسية سواء عن عمد أو لوقوعهم تحت ضغط فرنسا وبريطانيا, أو أخيرا إدراك عربي بأن العدوان جاء لإجهاض الدعم الذي تقدمه مصر الثورة لحركات التحرر الوطني العربية, وفي مقدمتها الثورة الجزائرية. واذا انتقلنا إلي النقطة الثانية الاساسية وهي طبيعة الهزيمة التي جري انزالها بالقوي المعتدية, فنقول اننا تعودنا ان نسمع من يقول ان مصر انتصرت سياسيا علي العدوان الثلاثي بينما منيت بهزيمة عسكرية, ويشير هؤلاء إلي واقعة انسحاب الجيش المصري من سيناء إلي الضفة الغربية للقناة امام الهجوم الإسرائيلي وبعد الانزال المظلي الفرنسي والبريطاني. والواقع غير ذلك, فأولا يجب ان نتوقف عند تعريف النصر والهزيمة بالمعني العسكري, وهو تعريف يتصل بقدرات واهداف كل طرف واذا اخذنا هذه العناصر في الاعتبار نري ان عملية الانسحاب المنظم وبخسائر محدودة من شرق القناة إلي غربها كان انجازا عسكريا لتجنب تدمير الجيش المصري بين شقي الرحي: الجيش الإسرائيل في سيناء والقوات الفرنسية والبريطانية في منطقة القناة, اخذا في الاعتبار ان الجيش المصري كان في مرحلة تغيير مصادر تسليحه متجها إلي الكتلة الاشتراكية عقب صفقة الاسلحة التشيكية, في حين كان الجيش الإسرائيل مدججا باحدث السلاح الغربي, والجيشان البريطاني والفرنسي غنيان عن التعريف فيما يتعلق بقوتيهما العسكرية بالرغم مما تعرضا له من انهاك خلال الحرب العالمية الثانية, كما اننا نجد تناغما بين الجيش المصري المقاومة الشعبية المنظمة والتي قامت الحكومة بتسليحها ونقلها إلي منطقة القناة دون تفرقة بين مواطن وآخر بسبب انتماء سياسي أو عقائدي, وهذا التنسيق هو الذي ادي إلي أن القوات البريطانية أو الفرنسية لم تهنأ بالسيطرة علي منطقة القناة, بل كانت في خضم حرب فدائية استنزفتها, وتزامن ذلك مع انتفاضات شعبية في مدن القناة بحيث جاء التدخل الخارجي ليمثل مخرجا للدول المعتدية لسحب قواتها والجلاء عن مصر في23 ديسمبر1956. ولئن كان البعض يزعم ان العوامل الخارجية هي التي حسمت العدوان الثلاثي لصالح مصر, فان الحقيقة تبقي ان الوحدة الوطنية للشعب المصري في مواجهة العدوان علي اختلاف انتماءاته الايديولوجية والسياسية والمقاومة الباسلة من الجيش والشعب, ونجاح القيادة السياسية في توظيف كل ذلك في سياق معطيات البيئتين الإقليمية والدولية كان له الدور الحاسم في افشال العدوان والانتقال بمصر والمنطقة بل والعالم بأسره إلي مرحلة نوعية جديدة تحقق فيها الانتصار لاصحاب الارض والحق وضرب بها المثل للشعوب العربية وشعوب العالم الثالث الأخري. ولانملك إلا ان نحيي ابطال المقاومة الشعبية في تلك الحرب وفي مقدمتهم السيد زكريا محيي الدين وكل من كمال الدين رفعت ومحمود عبدالناصر واحمد لطفي واكد وعاطف عبده سعد وعمر لطفي وعبدالمجيد محمد فريد ومحمد عبدالفتاح وسعد عفرة وسمير محمد غانم ومحمود سامي حافظ ومحمود محمود سليمان ومحمد غانم. عن صحيفة الاهرام المصرية 24/12/2007