حاولت ان اسمع خلجات نفوسهم، ونبضات قلوبهم.. ولكن وجدت نفسي عاجزا عن ادراك عالمهم المتألق الرفيع.. كانت قدماي مشدودة إلي تراب مصر أما هم فكانوا يطيرون في اجواء السماء تحملهم أطيار الجنة وتشدو بلحن الخلود اليوم نصل إلي ختام ملحمة بطولات الشباب من أجل الحرية والاستقلال. كانت صورة الجامعة والحركة الوطنية والطلابية منذ عام 5391، وهو العام الذي اطلق عليه ثورة الشباب، المطالب بالحرية والاستقلال وجلاء المحتل الانجليزي عن أرض الوطن.. كانت صورة الجامعة وشبابها في عين الشعب والانجليز والملك والحكومات والاحزاب قوة هائلة، كان اسم الجامعة المصرية يقترن بالثورة علي الفساد، وكان الجميع يرهبون جانبها، فاذا خرجت الجامعة في مظاهرة، فمعني هذا اعلان حالة الطواريء في الجيش البريطاني، وفي البوليس المصري والاسراع باحكام اقفال قصر عابدين قصر الملك ومقر الحكم! ولقد بدأت مرحلة جديدة من مراحل النضال الوطني، بعد ان تبين ان المظاهرات والاحتجاجات لم تعد تجدي، وان الاحتلال البريطاني لا يفهم الا لغة القوة والمواجهة لذلك قرر الطلاب التدريب علي السلاح وعلي فنون حرب العصابات، فأقيمت مراكز التدريب داخل الحرم الجامعي وفي المدينة الجامعية لجامعة فؤاد الأول »القاهرة الآن« في عام 1591، وكان يتردد عليها عدد من الضباط الاحرار للمساعدة في التدريب، قبل قيام ثورة يوليو، ولأول مرة لم تتوقف الدراسة، بل سارت جنبا الي جنب مع التدريب العسكري، وكان الأب الروحي لهذه المعسكرات د. عبدالوهاب مورو باشا مدير الجامعة، الذي امدها بالعتاد وبالاموال لمواصلة الجهاد من اجل تحرير التراب الوطني، وكان عدد الذين يتدربون لا يقل عن عشرة آلاف طالب، وانضم اليهم عدد من الاساتذة، منهم الدكاترة: عبدالمنعم بدر عميد الحقوق، وامين الخولي الاستاذ بكلية الآداب وحسن فهمي الاستاذ بكلية الهندسة. وتشكلت لجنة من كبار اساتذة الجامعات الثلاث جامعة فؤاد الاول »القاهرة« وجامعة ابراهيم باشا »عين شمس« وجامعة فاروق الاول »الاسكندرية« .. لدعم الحركة الوطنية وبلورة فكرها، وكانت اللجنة تجمع بين شباب المدرسين وشيوخ الاساتذة، ومن ألمع الاسماء الدكاترة: عثمان خليل عميد الحقوق »جامعة فؤاد الاول« وحسن مرعي »جامعة ابراهيم« وعلي فتحي عميد الهندسة، ورشوان محفوظ نقيب اطباء مصر واستاذ العيون بكلية الطب وسعيد النجار المدرس بكلية الطب »جامعة فاروق الاول«. وانطلقت كتائب الفدائيين الي مدن القناة حيث توجد معسكرات قوات الاحتلال واستجابت حكومة النحاس باشا لمطالب الامة، والغت معاهدة الصداقة والتحالف مع بريطانيا التي وقعتها عام 6391، وكان ذلك في 7 اكتوبر 1591، وجاء الغاء المعاهدة صدمة لبريطانيا وحلفائها: فرنسا وامريكا، واعلن الغرب في اليوم التالي عدم موافقته علي قرار الحكومة المصرية بالغاء المعاهدة، وبدأت المقاومة الشعبية جهادها من 15 - 2591 ودارت معارك شرسة بين شباب الجامعة والانجليز، سطر فيها الشباب بدمائهم الذكية اروع ملاحم البطولة لاجبار المحتل الغاصب علي ترك البلاد لاصحابها. وفي معركة التل الكبير، احتسبت الجامعة عند الله ابنين من اعز بنيها الشهيدين: احمد المنيسي ابن كلية الطب، وعمر شاهين ابن كلية الآداب، قسم الفلسفة، وكان عمر قائدا لفدائيي الجامعة المصرية، ووقع عدد من زملائهما في الاسر نذكر منهم: اسماعيل ممدوح »الحقوق« واحمد فائز »الهندسة« وسمير مراد الشيخ »التجارة« ونجا من الاسر الطالب ادوارد جورج، وكان ادوارد آخر فدائي يقف الي جوار عمر شاهين لحظة استشهاده. وعندما اصيب المنيسي بالرصاصة الاولي في جبينه لم يسقط علي الارض، وظل في الميدان يقاتل، واصابته الرصاصة الثانية والثالثة، وروت دماؤه الطاهرة ثري الارض الطيبة، وكانت آخر كلماته لرفيق كفاحه عمر شاهين الذي لحق به الي السماء شهيدا: »عليها نحيا، وعليها نموت، وفي سبيلها نجاهد وعليها نلقي وجه الله«. ويقدم الكاتب الكبير المرحوم الاستاذ حسن دوح الذي كان رئيسا لاتحاد طلاب جامعة فؤاد الاول في ذلك الوقت والذي اوكل اليه مهمة الاعداد والإشراف علي معسكرات التدريب العسكري بالجامعة، وصفا انسانيا بليغا، يصف فيه لحظات المعارك الخالدة وهو يري امامه عشرات القتلي والجرحي في معركة التل الكبير، وعلي طول جبهات المقاومة الشعبية: »لقد قضيت ساعات في المشرحة اقلب الوجوه الساكنة، الراضية، واحاول ان اسمع خلجات نفوسهم، ونبضات قلوبهم، ولكني وجدت نفسي عاجزا عن ادراك عالمهم المتألق الرفيع ، كانت قدماي مشدودة الي تراب مصر، اما هم فكانوا يطيرون في اجواء السماء تحملهم اطيار الجنة، وتشدو بلحن الخلود.. شعرت انني الميت الوحيد بينهم، اما هم فقد امدهم الله بروح البقاء، وأبي الا استضافتهم في رحابه. كان يوما خالدا في تاريخ مصر، وهي تودع شهيديها: احمد المنيسي، وعمر شاهين، كان يوما وكانت امة قيادتها في يد شبابها ويد شهدائها. وخلال معارك التل الكبير وجه قائد القوات البريطانية انذارا الي السلطات المصرية بتسليم فدائيي الجامعة الذين احالوا حياتهم الي جحيم.. ورفضت الحكومة الانذار،ووقع حادث في الاسماعيلية يوم 52 يناير 2591، الحادث لم يكن سهلا أو بسيطا بل كان مأساة انسانية، هزت مشاعر الشعب، واثارت غضبه، في الاسماعيلية حيث يقع مركز قيادة القوات البريطانية، كان الانجليز يشعرون بالخوف والرعب من تسلل الفدائيين الي معسكراتهم وبصلف الغاصب المحتل امر الانجليز قوات البوليس المصري بترك مبني المحافظة لانها تقع علي طريق رئيسي بالنسبة للقوات البريطانية. واتصل قائد البوليس بوزير الداخلية، وكان الاستاذ فؤاد سراج الدين، الذي اصدر اوامره برفض طلب الانجليز، والتصدي لهم ولم تكن قوات البوليس تملك الا بنادق »لي انفيلد« القديمة، ولم ينتظر الانجليز طويلا، ووجهوا مدافعهم الثقيلة الي مبني المحافظة ودكوها، وتركوها تطوي تحت احجارها 85 شهيدا من رجال البوليس. لم يسلموا سلاحهم للعدو، ودافعوا عن شرف الوطن بجسارة وشجاعة، ولم تصمد بنادقهم القديمة امام نيران المدفعية الثقيلة للعدو المحتل، واستحقوا الخلود. وفي 62 يناير 2591 خرجت قوات البوليس في القاهرة في مظاهرة حاشدة كانت الجامعة قبلتهم الاولي لاعلان سخطهم علي همجية الانجليز التي اودت بحياة زملائهم في الاسماعيلية، وقد استغل الملك فاروق هذه الاحداث لصالحه حتي يتمكن من اسقاط وزارة الوفد برئاسة مصطفي النحاس باشا، وإعلان الاحكام العرفية، فدبر الملك مع الانجليز حريق القاهرة في ذلك اليوم. المثير للدهشة انه في الوقت الذي كانت فيه القاهرة تحترق، كان الملك قد دعا ضباط الجيش المصري الي قصر عابدين للاحتفال بعيد ميلاد ابنه ولي العهد الامير احمد فؤاد ابن الثاني عشر شهرا. ولم يذهب دم الشهداء سدي، فقد كان قوة هائلة، دافعة وراء انتصار ارادة الشعب، وعجلت هذه الاحداث الدامية بقيام ثورة 32 يوليو 2591، وتحقق لمصر جلاء الانجليز عن ارض الوطن عام 4591 وفق معاهدة الجلاء ولكن الانجليز، ظل يراودهم الامل في العودة مرة اخري الي مصر واضمروا امرا خفيا، فكان تحالف انجلتراوفرنسا واسرائيل، وقاموا بعدوانهم الغادر علي مصر في 92 اكتوبر 6591، كان هدفهم الاساسي العودة الي احتلال مصر من جديد، والقضاء علي زعامة جمال عبدالناصر قائد ثورة يوليو والعودة الي الملكية العميلة، والغاء تأميم قناة السويس الذي اعلنه الزعيم الخالد جمال عبدالناصر يوم 62 يوليو 6591 واعادتها مرة ثانية الي سيطرة الغرب الاستعماري، والقضاء نهائيا علي حركات التحرر في افريقيا، وعلي ثورة الجزائر، التي كانت مصر تدعمها بالسلاح وبالتأييد المعنوي علي المستوي القومي والدولي، حتي تنال حريتها واستقلالها من فرنسا. وخرج الشعب المصري يواجه العدوان الثلاثي، وكانت الجامعة وشبابها في طليعة المجاهدين.. وقد ابلي جواد حسني ابن كلية الحقوق، جامعة القاهرة، وقائد فدائيي الكلية بلاء رائعا، كان ملحمة بطولة، وكان جواد طالبا بالسنة النهائية، ووقع في اسر الفرنسيين في منطقة بورفؤاد بعد ان كبدهم خسائر فادحة في جنودهم، وارادوا الانتقام منه، فحرقوا اهدابه، نزعوا اظافره، شوهوا عينيه، وقد سجل الشهيد قبل وفاته بدمه قصة اسره وتعذيبه يوما بيوم، ابتداء من يوم الاسر في 61 نوفمبر، وكتب بدمه علي حوائط السجن: اسمي جواد حسني، طالب بكلية الحقوق فوجئت بالغرباء يقذفون ارضي بالقنابل فنهضت لنصرة وطني ولبيت نداءه والحمد لله شفيت غليلي في اعداء البشرية، وانا الآن سجين وجروحي تنزف بالدماء، انا هنا في معسكر الاعداء، اتحمل اقسي انواع التعذيب، ولكن يا تري هل سأعيش حتي أري مصر حرة مستقلة، ليس المهم ان اعيش، المهم ان تنتصر مصر، ويهزم الاعداء. وللدور البطولي، والخطير الذي قام به الاسير جواد حسني، ضد الفرنسيين، جاء قائد القوات الفرنسية الكولونيل »بازان« لاستجوابه، ورفض ان يبوح بأي كلمة عن فدائيي الجامعة، ولا بأي سر من اسرار الوطن. ومن صفات كل محتل غاصب الغدر والخيانة، ونقض الوعود، فقد اوهمه القائد الفرنسي انه سيطلق سراحه، تقديرا لبطولاته، وامره بالخروج من حجرة الاسر، واثناء سيره علي شاطيء البحر، امر القائد الفرنسي جنوده باطلاق رشاشاتهم علي ظهره فسقط شهيدا في 2 ديسمبر 6591. وقد استغرق العدوان الثلاثي علي مصر 35 يوما، كانت هي الاخطر في حياة مصر، واشتدت المقاومة الشعبية.. وبصمود الشعب تحقق النصر، في 51 ديسمبر لينتهي التآمر الثلاثي بلا كسب عسكري ولا سياسي لأطراف العدوان. وخلال الايام من 51 الي 42 ديسمبر انسحبت القوات المعتدية، واصبح يوم 32 ديسمبر عيدا للنصر. ما اعظم عطاء شباب الجامعات المصرية كان شعارهم دائما »أفعال لا أقوال« تضحيات وفداء من اجل حرية الوطن واستقلاله.. ومن حسن حظ البلاد في ذلك الوقت، انه لم يكن قد تم اختراع الشعارات الجوفاء: بالروح بالدم، نفديك.. الخ، تلك الشعارات التي نكبت بها الامة العربية منذ خمسينيات القرن الماضي وتسلط وسيادة النظم الشمولية .. نظم القهر والتعذيب لسنوات طويلة، وإلا ظلت ثورة الشباب والشعب مجرد وقفات احتجاجية، مكتفية بالشجب والإدانة.. ولا أكثر من ذلك، ولظلت البلاد ترسف في قيود الاحتلال لعقود طويلة، ولكن الله سلم.. اما انتفاضة طلاب الجامعات عام 8691 بعد هزيمة 67 المفزعة ، فلها حديث آخر ان شاء الله. قرآن كريم قال الله تعالي: »وعباد الرحمن الذين يمشون علي الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما«. صدق الله العظيم مقال في كلمات بموت هذا الإنسان، أشعر ان رأسمال الكبرياء والاحترام والعظمة نقص كثيرا. الوطنية أصبحت صناعة أهم من صناعة السينما! ضمير بلا اعتقاد في الله، يكون كمحكمة ليس بها قضاة. التنمية لا تكون بالعلم وحده، انما ينبغي ان يقترن العلم بتنمية الضمير واحياء القيم الفاضلة. النفاق شيء شائع في أي أرض تحكمها ارادات فردية، ولا يستتب فيها حكم القانون.