أميركا من الداخل.. اليهود ومنظماتهم سمير التنير تحتل المعضلة الديموغرافية موقع الصدارة في اهتمامات ما يسمى »الجاليات والمنظمات اليهودية« في الوقت الحاضر. الا ان ثمة وجها آخر لما اصطلح على تسميته ب»المشكلة اليهودية« التي برزت في أواخر القرن التاسع عشر تحت مظلة الاطماع الاستعمارية في الوطن العربي. وقد ترجم ذلك عبر اقامة دولة اسرائيل، منتصف القرن الماضي. ومن ثم اصبحت هذه المشكلة اسرائيلية بامتياز نتيجة البنية العدوانية لاسرائيل وأدائها الوظيفي في المنطقة العربية، وما يتمخض عن ذلك من تداعيات تمس اليهود في أربع رياح الأرض، ولا سيما الهجرة المعاكسة من اسرائيل الى دول الغرب، والتي بدأت تأخذ منحى آخر عنوانه الرئيسي تآكل الدعم الذي تقدمه الكتل البشرية اليهودية في مناطق العالم المختلفة لاسرائيل. وكانت دراسة اصدرتها مجموعة »مشروع اسرائيل« (مقرها في واشنطن وتهدف الى تحسين صورة الدولة العبرية) تحت عنوان كيف ينظر الجيل المقبل الى اسرائيل، ونشرت نتائجها في مجلة »نيويورك جويش ويك« الاميركية اواخر شهر حزيران من العام الماضي. وهي سلطت أضواء اضافية على المعطيات الرقمية اليهودية المقلقة في الولاياتالمتحدة. وتلك الأخرى المتعلقة بمواقف العديد من المجموعات اليهودية الجديدة التي تنحو باعتماد مقاربة اكثر واقعية للصراع العربي الاسرائيلي، والتي جعلت الكثيرين في اسرائيل يدقون ناقوس الخطر حول امكانية انحسار النفوذ والتأثير اليهوديين في الولاياتالمتحدة، في العقود القليلة المقبلة. وذلك على وقع الحراك والتغير المتسارع الذي تمر به هذه الكتلة البشرية »المميزة« التي لا تشكل سوى نسبة ضئيلة من تعداد السكان في الولاياتالمتحدة (3 بالمئة) ومع ذلك تمتلك نفوذا سياسيا واقتصاديا وثقافيا وفكريا لا يضاهيه نفوذ أي من المجموعات العرقية والدينية الأخرى. وعلى خلفية المواقف المتعاطفة مع الفلسطينيين بين اوساط النخب الشابة في اميركا والتي تنظر الى اسرائيل على انها عبء على الولاياتالمتحدة وليست حليفاً. اما السبب الرئيسي للتأييد الاميركي المطلق لاسرائيل فسببه المصالح الخاصة لليهود الاثرياء وليس كتعبير عن المصلحة القومية للولايات المتحدة. يساور القلق الجاليات اليهودية في الولاياتالمتحدة جراء التناقص الديموغرافي الذي يشير احد التقارير الى أنه بات ملموسا وخطرا بعد خروج ما بين 300 ألف 500 ألف يهودي من نطاق الطائفة اليهودية في اميركا خلال عقد واحد من الزمن. وتدل هذه المعطيات الرقمية على امكانية انحسار النفوذ اليهودي وبالأخص في الولاياتالمتحدة التي تعمل في مؤسساتها المختلفة جماعات ضغط يهودية ذات وزن كبير، ما يجعلها عاملا حاسما في رسم السياسات الخارجية الاميركية. وتتبدى ملامح هذه المعطيات التي تتوكأ على المتغيرات التي يشهدها العالم على الصعد المختلفة في السجالات الداخلية اليهودية المثيرة للاهتمام. تؤكد الباحثة الاميركية كارول سيلفرمان في دراسة اعدتها في جامعة فرجينيا الاميركية، ان منظمة »ايباك« اليهودية تتمتع بقدرة فائقة على التأثير في لجان الكونغرس، وأنها نجحت في ان ينظر الاميركيون الى سياستهم تجاه الشرق الاوسط على انها ذات ابعاد داخلية. ويحرص مندوبوها على حضور جلسات الكونغرس عندما تدور المناقشات حول اسرائيل وقضايا الشرق الأوسط. وبفضل »إيباك« وغيرها من المنظمات اليهودية استطاعت اسرائيل الحصول على مساعدات اضافية تقدر بأكثر من مليار دولار اميركي. اما اهتمامات »ايباك« الحالية، فتتضمن متابعة اهتمامات الادارة الاميركية بالملف النووي الايراني، التأثير فيه بحيث تتمكن من تحريض واشنطن على ضرب ايران. كما تومي اهتماما بضرورة استكمال تنفيذ القرار 1559 الخاص بلبنان ونزع سلاح حزب الله. وكان »لايباك« دور في اغفال ادارة بوش لحدود عام ،1967 وعودة اللاجئين، كي تحقق اسرائيل ما تصبو اليه من توسيع للاستيطان ورسم حدودها بالطريقة التي ترضيها. صدر في العام الماضي كتاب »اللوبي اليهودي والسياسة الخارجية الاميركية« وهو من تأليف جون ميرشهايمر من جامعة شيكاغو وستيفن والق من جامعة هارفارد. وقد حرص الكاتبان منذ البداية على التأكيد انهما وهما يناقشان نفوذ هذا اللوبي الكبير فإنهما يؤكدان ما يقوم به هذا اللوبي اليهودي انما هو يحمل مشروعا يتفق مع القوانين والتقاليد الاميركية في الحياة السياسية الاميركية، ولا يكاد يختلف عما تقوم به مجموعات الضغط المختلفة. كذلك يشير الكاتبان الى ان هذا اللوبي لا يعمل بشكل سري او في الخفاء، وانما تتم جميع اعماله في العلن ووفق القواعد المعمول بها في المجتمع الاميركي. اما هدف الكتاب فهو الاعتراف بأن اللوبي بتأييده غير المشروط لكل ما تفعله او تطلبه اسرائيل يضر في الواقع بالمصالح الاميركية العليا، فضلا عن انه في كثير من الاحوال لا يعمل في مصلحة اسرائيل نفسها. والمؤلفان يريان مع ذلك ضرورة الدفاع عن وجود اسرائيل، اما التأييد المطلق لكل ما تفعله، فأمر مختلف. والكتاب عبارة عن موسوعة عن اللوبي الاسرائيلي في اميركا، وما هي الهيئات التي تعمل في هذا المجال، وما هي اساليب عملها، وكيف تنسق في ما بينها. وما هي الاهداف التي تتوخاها، ومن هم أهم الشخصيات وراءها، وما هي رسائل الضغط على السلطة التشريعية من خلال تمويل الحملات الانتخابية، ومدى انتشار انصارهم في مراكز القرار وحجم السيطرة على الصحف والضغط المتزايد على الجامعات ومراكز الابحاث؟ ويعرض الكتاب ايضا مناقشة الحجج التي تقدم لتبيان اهمية اسرائيل للولايات المتحدة. مثل القيم المشتركة او الديموقراطية او محاربة الارهاب او التعويض عما اصاب اليهود من ظلم واضطهاد، او حتى باعتبار ان انشاء هذه الدولة هو تعبير عن ارادة الله، وغير ذلك مما يقدم من حجج في سبيل تبييض ساحة اسرائيل. ويتناول الكتاب تفنيد هذه الحجج مبيناً حدود كل هذه الاعتبارات وعدم صحة الكثير منها. وفي كل هذا يعرض الكتاب لكل حجة بالتفصيل ويتناولها بالتحليل لبيان اما فسادها او الحدود التي ترد عليها. ويرى المؤلفان ايضا ان جماعات الضغط هي جزء من المجتمع الاميركي. غير ان وضع اللوبي الاسرائيلي يستحق نقاشا عاما حول مدى خدمته او ضرره على الولاياتالمتحدة. ويأتي الكاتبان بأمثلة كثيرة تشير الى انه بسبب مواقف »إيباك« (وهي جماعة الضغط الأولى في اميركا) منعت الولاياتالمتحدة اسرائيل من التفاوض مع سوريا ومع جماعات معتدلة في ايران. كما ان »إيباك« هي التي أثرت على السياسة الخارجية الاميركية التي أيدت اسرائيل في حربها على لبنان، ولم تسمح بوقف الحرب باكراً. يبدو ان هناك توزيعا كاملا للأدوار بين اسرائيل وبين هذا اللوبي اليهودي. فحكومة اسرائيل تتخذ القرارات، ولكن اللوبي يوفر لها الدعم الكامل من تمويل وتسليح ودعم دولي واميركي. فالقرار يبدو اسرائيليا اما مسؤولية التنفيذ فهي اميركية. لكننا نرى انه من الخطأ الخلط بين اسرائيل واميركا. لقد نجح اللوبي الاسرائيلي في السيطرة على السياسة الخارجية الاميركية. ولكن اميركا ليست اسرائيل. والحقيقة ان اميركا هي غنيمة نجحت اسرائيل في اقتناصها. ولكنها مع ذلك تبقى ساحة مفتوحة امام الجميع. ورغم ان اسرائيل استطاعت خلال فترة تاريخية معينة ان تسيطر على اميركا فليس من العقل ان نتخلى عن هذه الساحة الثمينة لها. بل علينا ان نصارعها ونحاربها على نفس هذه الساحة المهمة. عن صحيفة السفير اللبنانية 24/9/2008