بلاغَة ُالصامتين!! * عبد القادر مصطفى عبد القادر قد يكون لإيماءات الصامتين صوت أعلى من أي صوت..وربما تكون إشاراتهم أبلغ من أي حديث..وربما تكون أنات صدورهم أفصح من أي رسالة...!! فليس العجز عن الكلام عجز عن التعبير..وليس العجز عن البوح بمكنونات الضمائر عجز عن استخدام مفردات اللغة، إنما لكل وقت لغته، ولكل حدث حديثه، ولا يدرك ذلك إلا العقلاء الذين تساوت عندهم حالة الصمت مع حالة الكلام، أو الحكماء الذين ينقشون بالصمت أروع الكلمات، ويصنعون بالصمت أجمل المواقف. وحَرىٌ بالإيضاح في هذا المضمار..أن أفصل فصلاً قاطعاً بين صمت يفرضه عقل وفكر وحكمة وموازنة..وتحركه مصلحة عامة، وبين صمت يفرضه جهل أو جبن أو خوف، فشتان الفارق بين هذا وذاك، والمَعْنِىُّ في هذه السطور المتواضعة هو النوع الأول وهو ذاك الصمت الإيجابي الجميل الذي ينشأ عن اقتناع بأهميته وضرورته. إن الكلام مثل الحركة..والصمت مثل السكون، والبشر يحتاجون بين الحين والحين إلى لحظات توقف وسكون..لترتيب الأفكار..وتنظيم الخطوات..ولملمة شظايا النفس المبعثرة في متاهات الهوى والبحث عن التافه والمجهول من عرض الدنيا، وهنا يكون الصمت لحظة تجول وتحول..تجول فيما مضى لمراجعة النفس ومحاسبتها..وغربلة المواقف وفرزها..وتصحيح المسار كشأن الأذكياء الذين يتعلمون من سقطاتهم وأخطائهم..ثم يتحولون من الخطأ إلى الصواب، ومن الكبوة إلى النهوض والمواصلة. إن الثرثرة بعثرة لما مضى في دروب النسيان أو التناسي..وطمس لما انقضى من مآثر وفضائل ولو كانت مثل الجبال..وحَجْر وحَجْب طويل الأمد على الآتي من الفعل و القول، فالإنسان يخسر خسراناً كبيراً..إن سبق لسانه عقله..وإن تغلبت شهوة كلامه على فطرة صمته، بل إن المجتمع يخسر إن كَثُر فيه الضجيج الذي تتوارى بين أنقاضه شاهقة الحق..وتضيع في متاهاته بَيِّنَةُ الرشد، فلا يتبين الناس الطريق..ولا يهتدي الخلق إلى صواب، لأن الكل يثرثر..فلا مجال للسمع أو للتعقل. ولقد علمتنا الحياة عبر دروسها وتجاربها الشاقة..أن الكلام بلا روية..كشف للهوية..وإظهار للطوية..وبيان لحالة المتكلم، ومن ثم زوال غموضه وتَكَشُّف أسراره، وعليه فلا تعب ولا نصب في استبيان ما أراد أن يخفيه، وهذه أحد دروب السذاجة..أن تكون بائعاً لا مشترياً..وأن تكون متحدثاً لا مستمعاً..فيوماً ما سوف يجف بئر الكلام..أو سوف يزهدك الغير من كثرة التكرار..والدوران في نفس المدار..وسوف يصبح الحكم عليك أمراً سهل المنال..بعدما كشفت نفسك للآخرين بلا ثمن، إذ قدمت لهم الفرصة بكثرة الكلام الذي لا يفرضه موقف أو تستوجبه قضية. هناك من يكره الصمت..لأن الصمت غموض، وحصار الصمت سلوك يتجلى فيه الدهاء حتى يخلع الصمت رداء الغموض..إذ بين الفينة والفينة يداعبك عدوك بلعبة (بالونات الاختبار) لقياس قوتك أو حماسك من واقع رد فعلك إزاء قضية ما..فيفتعل لك أزمة ليرى صُنعك وصَنيعك، وأحسب أننا فرادى وجماعات وقعنا أسرى لهذه الفخاخ اللئيمة. لما أساءت الدنمارك إلى شخص الرسول الكريم عبر رسوم مسيئة..هاج الناس وماجو، وعلت بالنعيق حناجر تطلب المقاطعة لكل ما أنتجته الأيدي الآثمة، ثم إعلان القطيعة السياسية والاقتصادية..وهكذا فعل الكثيرون..ولكن ماذا حدث؟..هدأت النار المتأججة في الصدور بل ربما زالت دونما أثر أو تأثير..( وعادت ريمه لعادتها القديمة)، وكأن شيئاً لم يحدث..كل ما هنالك أن الطرف الأخر كشفنا..وقاس بدهاء رد فعلنا..وتبين على وجه اليقين حالنا..فليس أسهل عليه بعد ذلك من تحديد المنهج المناسب للتعامل معنا. يجب أن نعرف..متى يجب أن نتكلم؟..ومتى يجب أن نصمت؟.. فليس الصياح والعويل دليل حياة، وليس الرد العشوائي الانفعالي أسلوب دفاع، ومن حكمة الخالق أن خلق لنا لساناً واحداً وخلق لنا أذنين..كي نسمع أكثر مما نتكلم..بل و وضع على جارحة اللسان سدَّين..أسنان وشفتين..كي لا تخرج الكلمة إلا نقية هادفة مؤثرة، وهنا أتذكر حكمة نطق بها لسان خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز لما سُئل..متى تحب أن تتكلم؟..قال أحب أن أتكلم عندما أشتهى الصمت..قيل له ومتى تحب أن تصمت؟..قال أحب أن أصمت عندما اشتهى الكلام، والمغزى من وراء هذه الحكمة رائع للغاية..خاصة عندما يصدر من صاحب أكبر منصب بدولة الخلافة، فالكلام عند اشتهاء الصمت سوف يكون مغلفاً بالحكمة..ممزوجاً بالتأني..محاطاً بالتعقل..ومن ثم يمضى نحو أهدافه بلا إثارة، والصمت عند اشتهاء الكلام وقار وهيبة..وكبح لجماح المفردات المتأججة، ومن ثم تضييق الخناق على بواعث الشر و مكامن التناحر. وبنظرة سريعة على واقعنا المتوتر..نجد أن كماً هائلاً من المشكلات التي تهدد استقرار المجتمع يكمن في العجز عن الصمت، وما الأخبار الكاذبة، والشائعات المغرضة، والفتاوى المنحرفة، والشعارات البراقة، والنميمة، والغيبة..إلا أمراض خطيرة تنشرها كلمات رنانة في محيط المجتمع، فتزلزل استقراره وتهدد أمنه. نعم..إن اختلاف الرأي وتباين الرؤى أمر طبيعي بين البشر لأنهم هكذا خُلقوا..لكن يجب أن نواجه أنفسنا بعدة أسئلة قبل أن نتحدث عن حق الاختلاف..يجب أن نعلم أولاً..لماذا نختلف؟..وكيف نختلف؟..وما هي مبررات الاختلاف؟..وما هي أهداف الاختلاف؟، حتى لا يكون الاختلاف مجرد معارك كلامية جدلية لا تسمن ولا تُغنى من جوع.
والحقيقة أنا لا أؤيد مطلقاً حلقات العراك والصياح والجدال العقيم التي تعقدها بعض الفضائيات..تحت مبررات البحث عن الحقيقة، فالحقيقة تتوه في غابة الجدل، والمحصلة الحقيقية هي دفع الناس بلا روية إلى دائرة فقدان شهية الصمت، وإلى بلوغ الذروة في شهوة الكلام. وأخيراً..فلدى في القرآن الكريم مشهد يجسد حكمة الصمت..وروعة الصمت..وعظمة الصمت، عندما تكون له دواعيه وضروراته، وأبرزها الحرص على وحدة المجتمع..لما ذهب نبي الله موسى عليه السلام لمناجاة ربه ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر، وترك في قومه هارون أخاه وشريكه في الرسالة..ماذا حدث؟..عَبَدَ القوم في غيبة موسى عجلاً صنعه السامرى من حلى القوم..فلما رجع موسى عليه السلام وجد هذا الانحراف..فغضب..وألقى الألواح..وأخذ برأس أخيه ولحيته يجره إليه غيظاً وحنقاً، وقال كما حكي القرآن (قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا. ألا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي). وهنا بيت القصيد..أجاب هارون على السؤال كما حكي القرآن (قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي). معنى هذا أن هارون عليه السلام قد (صمت) لحكمة ولوقت معين عن (الشرك الأكبر)..لماذا؟..حفاظاً على (وحدة المجتمع)، وخشية من تفرقه حتى يرجع موسى فينظران معاً كيف السبيل لإرجاع الناس إلى الحق. وعلى قدر فهمي المتواضع استخلص الآتي:- 1. وحدة المجتمع وتماسكه فريضة. 2. الصمت الحكيم ليس معناه الرضا عن الأزمات..ولكن معناه التفكر من أجل اختيار أفضل الطرق لعلاجها. 3. ليس صحيحاً أن يتحدث كل من ملك صوتاً في شئون العامة..ناهيك عن الصياح والعويل غير المبرر، إنما يجب أن يترك المجال لأولى الأمر. 4. أن نعمل سوياً في صمت خير ألف مرة من أن نملأ الأرض كلاماً بلا عمل، أو أن يقدح بعضنا بعضاً بحثاً عن مجد شخصي..لا يتحقق إلا من فوق جماجم الآخرين. ** مصر