تشغل كرة القدم الأوروبية العالم. من يراقب شوارع بيروت "مثلا" يشاهد أعلام المنتخبات المشاركة في البطولة الأوروبية على الشرفات وفي المحال التجارية والملاهي. يشارك الجمهور اللبناني على طريقته في هذه البطولة، ربما لأن لبنان وسط العالم، هو مركز العالم ولكنه ليس مركزاً لنفسه. بعيداً عن معاني الجمهور اللبناني لنتأمل قليلاً في الثقافة، يجمع النقاد والكتّاب على أن العلاقة الشائكة بين الثقافة وكرة القدم، استمرت عهوداً طويلة ولم تشهد معظم سنوات القرن العشرين، الذي تطورت فيه هذه اللعبة تطوراً هائلاً، إلا كتابات أدبية قليلة تمحورت حول الكرة بشكل أساسي. مع أن هذه السنوات شهدت زيادة كبيرة في عدد المجلات والجرائد الرياضية وظهور كتب لتعليم فنون الكرة والتمارين عليها، إلا أن ثمة مفكرين يقولون بصعوبة الفصل بين عنصري اللعب والجد في الثقافة، لأن النشاط الفكري في أي عصر، ينطوي على سمة من اللعب الجاد. تعددت آراء المبدعين حول كرة القدم وتباينت طرق تناولها في الأعمال الأدبية، بين أعمال تؤرخ لها وأساليب لعبها وأهم لقطاتها المصورة وأخرى تستخدمها كوسيلة لعرض مشاكل الشباب، مثل البطالة والمخدرات وفقدان الهوية والقدوة. قال المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي "إن كرة القدم مملكة الوفاء البشري التي تمارس في الهواء الطلق". أما الروائي الفرنسي البير كامو، الذي كان حارساً لمرمى فريق جامعة الجزائر سنة 1930، قال: "تعلمت أن كرة القدم لا تأتي مطلقاً نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها، ساعدني ذلك كثيراً في الحياة خصوصاً في المدن الكبيرة حيث لا يكون الناس مستقيمين عادة". من ناحيته، يقرر الفيلسوف جان بول سارتر أن "كرة القدم هي مجاز الحياة" ويرد عليه الفيلسوف جيفون مصححاً: "الحياة هي مجاز كرة القدم". في رأي الشاعر تي. إس. إليوت أن "كرة القدم هي العنصر الأساسي في الثقافة المعاصرة". كان الشاعر والمخرج الإيطالي بازوليني أول من قال إن كرة القدم هي "لغة" لأنها تزخر بمجموعة من الرموز التي يمكن فهمها والتعامل معها من دون الحاجة إلى أية لغة أخرى، ضمها إلى أعماله الروائية كجزء أساسي من الحياة، رأى أن كرة القدم هي العرض الذي حل محل المسرح، وأنها تحولت إلى ما يشبه الطقوس الإغريقية التي مهدت لظهور المسرح في تاريخ الأدب العالمي. من أقواله اللطيفة أن ريفيرا يلعب الكرة شعراً، كورسو يلعبها نثراً، ماتزولا يلعبها شعراً تتخلله بعض الجمل النثرية، وهو نفسه كان يلعب في مركز الجناح الأيمن وكان لاعباً ماهراً. عندما سأله صحافي عما كان يريد أن يكونه لو لم يكن أديباً وسينمائياً قال: "لاعب كرة ماهر. بعد السينما والجنس، تعتبر كرة القدم من أعظم المتع بالنسبة اليّ". العجيب أن شاعراً بقامة مونتاليه، وهو من الشعراء الإيطاليين الأفذاذ وحائز على جائزة نوبل للآداب، اهتم بالكرة وكان يحلم ببطولة لا تكون فيها أهداف: "أحلم بيوم لا يسجل فيه أحد هدفاً في العالم كله"». كذلك اهتم فائز آخر بنوبل بكرة القدم، هو كاميلو خوسيه ثيلا، الذي كتب "11 قصة عن كرة القدم"، ووضع حكمين في جهنم لأنهما لم يقرآ فولتير. أشرف الحروب يقول الشاعر الأميركي أرشيبالد ماكليش إن الشعر وكرة القدم لا يجتمعان. أما الشاعر محمود درويش فيقول إنه يستمتع بمشاهدة كرة القدم ويعتبرها "أشرف الحروب"، سبق أن كتب مقالاً عن اللاعب الأرجنتيني دييغو مارادونا. ما قاله درويش نقرأه مفصلاً عند الشاعر والروائي الأميركي بول أوستر الذي اعتبر في مقالة قصيرة عن أبرز دروس الألفية المنصرمة، أن هذه الرياضة هي "البديل عن سفك الدماء" في الحروب الكونية. اختار أوستر أمثولة كرة القدم بصفتها "معجزة" الأمم الأوروبية في ممارسة كراهية الآخر، من دون الاضطرار الى تمزيق أوصاله في ساحة قتال: «تخوض البلدان اليوم حروبها في ملاعب كرة القدم، بجنود يرتدون السروال القصير، المفترض أن هذه لعبة، وأن التسلية هي هدفها. غير أن الذاكرة الخفية لتناحرات الماضي تخيم على كل مباراة، وكلما سُجّل هدف ترددت أصداء الانتصارات والهزائم القديمة". يشير أوستر الى أن عنف هذه الرياضة لم يكن وحده سبب انزعاج الملوك القدامى، لأنهم في الواقع كانوا يخشون من أن يؤدي الكثير من الانغماس في هذه اللعبة الى إلهاء الناس عن الوقت المخصص للتدرب على الرماية، فتصبح المملكة بذلك أضعف في استعدادها العسكري لمواجهة الغزو الخارجي. هذا الإفتتان الغريب بكرة القدم له أسراره ومكنوناته في تاريخ البشرية، منذ سنوات طويلة، يجري اللعب بطرق متنوعة، كتعبير عن الشخصية لكل شعب، وانقاذ هذا التنوع اليوم، كما قال الكاتب ادوارد غاليانو أشد أهمية من أي وقت مضى، "لأننا في زمن التماثل الإجباري، ومن لا يموت من الجوع يموت من الملل". قد تكون الكرة التي تركلها أقدام اللاعبين قناعاً للكرة الأرضية نفسها، او للرأس البشري نفسه. ليست لعبة كرة القدم مجرد جهد عضلي يتمتع بها الناس في أروقة الملاعب وقبالة شاشة التلفزيون، إنها "ملحمة العصر". حتى لو انطلقت في التاريخ من النزوع العنفي عند الإنسان، فهي لم تعد تنفصل عن السياسة والاقتصاد والسلام في القرن العشرين، وبداية القرن الواحد والعشرين. إنها لعبة مفتوحة على الأقنعة والاحتمالات والتأويلات، او هي الرديف لمعان كثيرة، كتب كريستيان موتين في "موسوعة اساطير الكرة" ان "الكرة تشبه العوالم المجهولة وتحيط بها الأساطير"، ويؤكد أن "معظم لاعبي كرة القدم يؤمنون أن الكرة هي أنثى. لذا يركلونها بعنف ويقبلونها ويشعرون بالانتصار إذا نجحوا في السيطرة عليها وأحرزوا الأهداف بها". يبدو أن الكرة لم تقنع باقتحامها الكتابة الأدبية، اتجهت إلى مجال الدراما التلفزيونية والسينمائية كالفيلم الألماني "كرة القدم حياتنا" والفيلم الانجليزي "مصنع كرة القدم" الذي تعرض لحملة نقد لاذعة لتناوله ظاهرة شغب المشجعين الانجليز. المهم أن كرة القدم أصبحت ملحمة العصر بامتياز، إنها الملحمة الأكثر شعبية التي تعولمت وطغت على كل شيء في الرياضة. كانت هوليوود هي التي أمدت العالم بأكبر قدر من الملحمية، كما يقول بورخيس، "عندما يرى الناس، في أنحاء الكوكب، فيلم ويسترن western أو عند رؤيتهم ميثولوجيا الفارس، الصحراء، العدالة، الشريف، طلقات الرصاص، وكل هذه الأمور، أظن أنهم يلتقطون الإنفعال الملحمي، سواء عرفوا ذلك أم لم يعرفوه". يفتوشينكو إذا تأملنا كتابات أهم المبدعين الذين كتبوا عن كرة القدم، نلاحظ أن الروسي يفغيني الكسندروفيتش يفتوشينكو (المولود عام 1933)، هو الأشهر في ذلك. هذا الشاعر الذي كان يحب فريق كرة القدم في مدينته الصغيرة في سيبيريا «سيما»، كاد أن يصير نجماً رياضياً في كرة القدم كحارس مرمى، قبل أن يهجرها وهو في الخامسة عشرة. كتب سيرته وترجمها الشاعر المغربي إدريس الملياني الى العربية، ونشرت في عمان تحت عنوان «العمق الرمادي». يقول الملياني في مقدمة السيرة ان يفتوشينكو أحيا في ذاكرة الناس صورة سلفه ماياكوفسكي بقامته المديدة والعملاقة ونظرته الحادة، وقدرته الفنية المذهلة على تحدي الذوق العام المتخم بالبالي من التقاليد. أما يفتوشينكو فيقول عن نفسه:"لم تكن أمي تريد بأي ثمن أن أصبح شاعراً، ليس عن قلة ذوق وعدم ميل الى الشعر، بل لأنها كانت تعرف مصير الشعراء الروس المفجع، كانت تتوسل إلي باستمرار أن أهتم بأمر جدي لكن الجدي بالنسبة إلي كان هو الشعر بالذات". عن أول قصيدة نشرت له يقول يفتوشينكو إنه عندما قرر أن يأخذ بعض قصائده إلى الجريدة التي يصدرها اتحاد الرياضة، كانت الجريدة الوحيدة التي لم يحاول إرسال قصائده، التي كانت تلقى في سلة المهملات، إليها، ذهب بنفسه ذات يوم إلى مبنى الجريدة، طلب المسئول عن الزاوية الشعرية، أعطاه القصائد وعندما شرع المحرر في قراءتها بصوت عال، وبين الجد والهزل، قال له أمام الحضور الذين تحلقوا حوله: "ستصبح شاعراً"! لكن صديقاً للمحرر علّق بشيء من الاستعلاء: "قد تكون موهوباً، لقصائدك نبرة خاصة، بيد أني لا أرى شيئاً فيك عدا الرغبة في إقناع العالم بأنك موهوب، وهذه بالطبع مهمة ليست سهلة بذاتها". لكن المحرر الشعري هوّن عليه ، قائلاً إن كل شيء سيأتي في وقته، المهم الآن أن يتعلم كتابة الشعر. بعد لحظة من الصمت، قال له: غداً ستجد قصيدتك في الجريدة. يقول يفتوشينكو: "لما اطلعت أمي على عملي لم تجد ما تثني عليه غير هذه الكلمات: مسكين أنت يا ولدي، ضعت الآن نهائياً". يعقب على ذلك قائلاً: "ربما كانت على حق". كان يفتوشينكو مدمناً في مراهقته على لعب كرة القدم، في الليل يكتب الشعر وفي النهار يلعب الكرة في الساحات العمومية والأرض الخلاء. يعود الى البيت بسروال ممزق وركبتين داميتين. كان يبدو له صوت الكرة أشد النغمات الموسيقية سحراً، يشعر أن هناك قاسماً مشتركاً بين كرة القدم والشعر. تعلم أن الأهم ليس أن يتقن اللاعب الهجوم فحسب، بل أن يراقب، لأنه يرى أن قواعد كرة القدم أبسط من قواعد الأدب. إذا سجل اللاعب هدفاً يظهر الدليل الحقيقي على ذلك للعيان فوراً: "الكرة في الشباك، وعلى عكس ذلك، على الشاعر أن ينتظر الكثير ليثبت أن كرته أصابت الهدف". الأسوأ، برأيه، أن غالب الضربات التي تمر بعيداً من المرمى، كثيراً ما اعتبر قمة الإبداع! كلما رأى مثل هذه الأحكام الأدبية الجائرة، تأسّف على تركه كرة القدم. ** منشور بجريدة "الجريدة" الكويتية 11 يونيو 2008