تقول إحدي شخصيات رواية بول أوستر الأخيرة سانسيت بارك ( Sunset Park) ليس من المفترض أن يتحدث الكتاب إلي الصحفيين."هذا أمر محبط، أقرأ هذا وأنا في طريقي لأحاور أوستر. تكمل الشخصية: "الحوار هو شكل أدبي وضيع لا يهدف إلا لتبسيط ما لا يجب تبسيطه." هذا سيكون مثيرا للسخرية. أثناء توجهي نحو منزله، المبني الضخم الواقع في شارع محفوف بالأشجار ببروكلين- نيويورك، شعرت بالاضطراب، لأنني رأيت أوستر ينظر إليّ من النافذة بوجه حجري، كأحد الشخصيات الكئيبة في رواياته وأفلامه (شارك في إخراج فيلمي دخان وكآبة علي الوجه)،ولكن الانطباع الأول كان خاطئا، فأوستر رحب بي بشدة عندما وصلت وأنا أحمل حقائبي؛ فلم يكن لديّ وقت لأمر علي الفندق قبل ذلك. قال وهو يتقدم ليساعدني: "تبدين كأنك جئت لتبقي.. مرحبا بك لو أحببت أن تبقي هنا." أوستر، 63 عاما، يجلس علي كرسي مخملي لونه كاكي، تبرز منه أشغال خشبية لامعة، روائع من الفن الحديث علي الجدران، كتب ومجلات ملقاة بلطف هنا وهناك، آنيات زهور مرتبة. يعيش هنا مع زوجته الثانية الروائية سيري هاستفيت، أما ابنته صوفي، 23 عاما، الممثلة والمغنية، فتعيش بالقرب منه في مانهاتن. وبينما كان يشعل أولي سجائره الصغيرة سألته لماذا ينزعج من الحوارات. قال باهتمام: "اسمعي.. أنا مخلص للناشرين، ولا أريد أن أكون منفرا، أريد أن أكون ذو روح حلوة، لذلك فأنا أجري حوارا من آن لآخر، ولكني أعتقد أن الفن لا يمكن إيجازه أبدا وبأي شكل، يمكن تحليله ومناقشته، ولكني لا أعرف إن كان علي الفنان أن يفعل ذلك." يختلف الأمر باختلاف من تستمع إليه، فربما يكون أوستر هو أعظم كاتب في جيله، أو هو تجريبي وغامض جدا لدرجة أنه لا يقرأ. يتنهد ويقول: "نحن جميعا نتلقي الضربات.. علي مر السنوات تلقيت انتقادات فظيعة وتلقيت مديحا مبالغا فيه، ونادرا ما تلقيت شيئا فيما بينهما." أرجأت قراءة كتبه (الصعبة) لسنوات، وفوجئت حينما وجدتها ليست كذلك. (سانست بارك) روايته السادسة عشر المنشورة للتو تدور أحداثها في بروكلين، المكان الذي يعرفه جيدا. إنها تدور حول قصة تحول تقليدية نسبيا، عن شاب يتسلط عليه ضميره ويهرب من عائلته، وينفق علي نفسه عن طريق تنظيف المنازل التي أخليت لتوها. ولكن نحن نقرأ رواية لأوستر، فلا يوجد شيء يسير بالضبط كما نتوقع، ولكنها قصة جذابة. سألته إن كان يزعجه قول الناس إن كتبه غير مفهومة. "لا.. هذا لا يزعجني، ولكن الشيء الطريف هو أنني أعتقد أنها سهلة الفهم، فكتبي عن العالم الواقعي، أنا لا أكتب عن أخيلة وهمية، اسمعي..." قال هذه الكلمة التي يستخدمها مرارا، ليعطي إحساسا بالأهمية: "ما أكافح من أجله هو الوضوح في كل جملة." كان يرتدي قميصا أزرق غاليا، وبنطلون بدلة أسود، وحذاء جلديا لامعا. بدا أوستر كسياسي أنيق وشديد التهذيب. كان يكرر مشجعا: "هذا سؤال رائع." لماذا أصبح كاتبا؟ قال أوستر: "هذا هو السؤال غالبا؟ اسمعي، أعتقد أن الكتابة تأتي من إحساس شديد بالوحدة، إحساس بالعزلة." ولكن أليست الكتابة تزيد من هذا الإحساس؟ "لا.. أنا لم أشعر أبدا بذلك.. وإنما كنت أشعر أنني مبتهج وأنا أكتب. بدأت بكتابة أشعار بشعة للغاية وأنا في التاسعة أو العاشرة تقريبا، وارتقيت إلي القصة القصيرة وأنا في الحادية أو الثانية عشر." نشأ في ساوث أورانج- نيوجيرسي، كابن ليهوديين مهاجرين من بولندا؛ صمويل وكويني، كانا غير متفاهمين وانفصلا في النهاية. كان أبوه بائع أثاث، ثم سمسار عقارات، وتتضح في كتاب أوستر الأول (اختراع العزلة) طبيعة علاقتهما الصعبة. لم تكن هناك كتب كثيرة في المنزل، حتي سافر عمه المترجم وترك مكتبته لأسرة أوستر. "عندما كنت في الثالثة عشر من العمر ذهلت من (الحارس في حقل الشوفان)، لم يكن هناك شيء يشبه هذا الصوت." ولكن الصاعقة الحقيقية جاءت عندما قرأ (الجريمة والعقاب)، "هذا الكتاب غيرني، أذكر أنني كنت أفكر: لو كانت هذه هي الرواية فهذا هو ما أود أن أفعله. كنت أقرأه وأنا مضطرب جدا." ذهب إلي جامعة كولومبيا، ثم بدأ يعمل علي ناقلة بترول: "أردت أن أقوم بمغامرة؛ كنت قد حصلت علي البكالوريوس والماجستير، وأردت أن أفعل شيئا مختلفا." في سن الثالثة والعشرين توجه إلي فرنسا ليحصل علي عيشه ككاتب. يقول أوستر: "ما كنت أفعله هو أن أحصل علي الطعام.. عندما عدت من باريس، كنت في السابعة والعشرين، وكل ما كان معي هو تسعة دولارات. كنت قد نشرت كتابا واحدا في الشعر، وربما كتابا أو اثنين في الترجمة. بقيت مع أبي حتي أجد مكانا لأعيش فيه. كان مرتبكا، لم يكن يدري ماذا يصنع بي، ولكنني أتعاطف معه، فقد كنت مجنونا." "كان كلامه منطقيا، قال لي: أنا لا أفهمك.. ستموت إذا لم تفعل شيئا، هذا غير مقبول. لأول وهلة أثر فيّ رأيه، وفكرت في أن أكون أستاذا جامعيا، ولكني في النهاية ظللت أكتب." مات الأب قبل أن يصبح أوستر شهيرا، "الآن أستطيع كسب عيشي من كل هذا، وفي الحقيقة أنا أحيا بشكل أفضل مما توقعت علي الإطلاق.. كان سيصبح سعيدا جدا." أما عن أمه: "هي تضع كتبي بفخر علي أرفف مكتبتها، ولكني لا أعتقد أنها قرأتها، كانت دائما مهتمة أكثر بالأفلام التي صنعتها، الأفلام هي التي استطاعت التواصل معها.. وليس الكتب." رواياته التي لفتت الانتباه هي (ثلاثية نيويورك)، تلك الروايات الثلاث المنفصلة المتصلة التي يستكشف فيها مسائل الهوية واللغة. الروايات اللاحقة أكدت علي صوته المتميز، حتي أصبح شهيرا خاصة في أوروبا؛ حيث حصل علي الجائزة الثقافية الفرنسية للأدب الأجنبي، وجائزة أمير أستورياس بأسبانيا. "في فرنسا يشعرون أنني مثلهم، كوني أتحدث الفرنسية يساعدني علي ذلك، فأنا لست عدوا أمريكيا." في الولاياتالمتحدة يقدر أوستر بشكل أقل: "كل قصصي عن أمريكا، كلها متشربة بالتاريخ الأمريكي والأدب الأمريكي، ولكن.. الناس لا يهتمون كثيرا بالكتب، لا توجد ثقافة كتاب هنا." ومع ذلك فقد تأثر بالاحتفاء بجوناثان فرانزن التي جعلته روايته الأخيرة يتصدر غلاف التايم. يقول أوستر بحماس: "هذا رائع، لم أر شيئا مثل هذا من عقود.. أنا سعيد أن أحدا جاد إلي حد ما يحصل علي هذا الاهتمام." سألته إن كان يغار من ذلك، هل كان يحب أن يكون علي غلاف التايم؟ يضحك: "أعتقد أن فرصة حدوث ذلك معدومة، أنا لا أفكر في ذلك، فما أفعله بعيد جدا عن الذائقة الأمريكية، ولم أقل أبدا لنفسي: أريد أن أكتب كتابا عن الأزمة الاقتصادية في أمريكا، أو عن مؤسسة الزواج." "أنا لا أعرف حتي ما يمكن أن أفعله، أنا فقط أكتب ما أكتبه، لديّ دافع هائل للتواصل، أريد أن أتغلغل تحت جلد القارئ وداخل عقله وقلبه، أن أتحداه وأحركه، وأفتح عينيه علي أشياء ربما لم يفكر فيها من قبل." هو يزعم أنه لا يقرأ المقالات التي كتبت عن أعماله: "هي إما ستحبطني أو ستطريني بشكل غير مقبول. في مرة كنت أقرأ جريدة ساعة الإفطار وتصادف أن رأيت مقالا عني وأخذني الفضول." كان يقول: "بول أوستر لا يؤمن بقيم الرواية التقليدية. هذا بدا كأنه هجوما سياسيا، لو بدلت جملة قيم أسرية بجملة قيم روائية. هذا يعبر بشكل كبير عما يعتقده النقاد الأمريكيون عن عملي. مثل العديد من الكتاب ينزعج أوستر من أمريكا: "ربما تأتي اللحظة التي سأنزعج فيها بالقدر الذي سيضطرني للرحيل." قال ذلك مازحا إلي حد ما. "أشعر بتعاطف شديد مع أوباما، أنا لا أعتقد أنني رأيت مثل هذا الصراع في الحكومة، الجمهوريون يسعون عمليا علي إفشال أوباما، سيشعرون بسعادة كبيرة إذا مات، وأعتقد أنه أظهر حلما كبيرا بتحكمه في نفسه." وأوستر يعرف كيف يكون حليما، ففي مرة قُدّم إليه ناقد كان يهاجم كتبه، هذا في الوقت الذي كان لا يزال يقرأ فيه النقاد: "عندما سمع الناقد اسمي شحب وجهه، توقع أن ألكمه، والحقيقة أنني كنت أريد ذلك لأن ما كتبه أغضبني جدا." "بعد ذلك قلت لنفسي أن أفضل طريقة للتعامل مع الأمر هو التظاهر بأنني لا أعرفه، لذلك قلت له: أنا سعيد جدا بلقائك." يضحك ويقول: "لحظته يتنفس الصعداء من رئتيه، ولكنه لا يزال ينتقدني، لذلك أشعر الآن أنه كان عليّ أن ألكمه." أبطال روايات أوستر غالبا ما يكونوا قد تعرضوا لخسارة كبيرة قبل بداية القصة: "أنا مهتم بأن أبدأ قصصي بأزمة ما لأري كيف ستتعامل الشخصية معها." هل تعرض لخسائر مشابهة في حياته؟ "العديد من الناس ماتوا أمامي فجأة، فهذا الشعور ليس غريبا عليّ." أكثر من أي شيء آخر تمتلئ روايات أوستر بالحوادث والصدف؛ عندما كان في الرابعة عشر رأي أوستر صبيا يموت مصعوقا حينما كانوا في رحلة بمعسكر صيفي. يقول: "ربما تكون تلك التجربة هي أكثر شيء أثر علي رؤيتي للعالم." يستعيد القصة كأنه يستعيد رعب تلك اللحظة: "كنا تائهين في الغابات، وهبت فوقنا عاصفة رعدية شديدة، وكانت تلقي بصواعقها علي الأرض، كان الأمر أشبه بقذف القنابل." "أحد الصبية قال إنه من الأفضل أن نتوجه بعيدا عن الأشجار، تحركنا في صف واحد تحت سياج من الأسلاك الشائكة، الصبي الذي كان أمامي كان تحت السياج مباشرة عندما ضربته الصاعقة، مات في التو، ولكننا لم ندر ذلك." "جذبناه واستلقينا علي الأرض معه طوال العاصفة، أتذكر أنني كنت أمسك لسانه حتي لا يبتلعه، وشاهدت لون جسمه يشحب. عندما تري ذلك وأنت في الرابعة عشر، تبدأ في إدراك أن العالم أقل استقرارا بكثير مما اعتقدت." "الحياة ليست مرتبة بعناية، فأنت تذهب إلي العمل في يوم ما، فتصطدم طائرة بالمبني وتجد نفسك احترقت." هل وعيه الدائم بهذه التبدلات يجعل الحياة صعبة العيش؟ "اسمعي، الأمر لا يعني أنني أسعي باحثا عن هذه الأشياء، أنا مثل الجميع، لديّ أحلام وأهداف، وأشعر بالإحباط عندما لا تتم. إنما الفكرة أن هناك العديد من الأشياء ليست في قدراتنا. لقد قابلت سيري بالصدفة، الحظ جعلنا نعيش سويا لثلاثين عاما حتي الآن." تقابلا في أمسية شعرية بنيويورك، أوستر كان قد تزوج من قبل بليديا ديفيز، كاتبة قصة قصيرة، ولديه منها ابن؛ دانييل. مؤخرا وصفت سيري اللقاء كالتالي: "ذهبت إلي الردهة ورأيت هذا الرجل الوسيم، تقدمت إليه ووقعت في حبه في ظرف عشر ثوان." يقول أوستر: "لو لم يظهر أحدنا لما تقابلنا أبدا، كانت فرصة وحيدة.". وبالصدفة أيضا فُتح الباب لأري امرأة شقراء طويلة. ابتسمنا جميعا. قال: "ها هي سيري." وكان يبدو هو نفسه متفاجئا. يكتب أوستر رواياته في شقة قريبة، "أذهب إلي هذا المكان المتقشف، لا شيء هناك سوي العمل، أكتب في دفتر، أحيانا أمزق كل ما كتبت، لو استطعت كتابة صفحة واحدة أري أنني أنجزت في اليوم، أتوجه بعد ذلك لأكتبها علي آلتي الكاتبة." لا يملك بريدا إلكترونيا ولا كمبيوتر، "ليس لديّ موقف فلسفي من ذلك، أنا فقط أشعر بنفسي أكثر حرية وانطلاقا بدون أن تكبلني هذه الأشياء." مؤخرا بدأ في العمل علي رواية جديدة، ولكنه يقول إنه في الأعوام الأخيرة أصبح من الصعب عليه إيجاد الأفكار. "كنت معتادا علي أن أحتفظ بقصص غير مكتملة، ولكن من أعوام مضت وجدت الأدراج خاوية، أعتقد أنني وصلت للوقت الذي أخبر فيه نفسي أنني لو لم أكتب كتابا آخر فتلك ليست مأساة، هل يعني كثيرا أن أنشر 16 أو 17 رواية؟ لو لم يكن هذا ملحا، فلا معني للكتابة."