«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. ياسر ثابت يكتب: كرة القدم.. أشرف الحروب!
نشر في الدستور الأصلي يوم 12 - 02 - 2010

كرة القدم هي الوطن والسلطة.. وكثيرًا ما يتسلل السياسيون والطغاة إليها بحثا عن شعبية ضائعة
كرة القدم..أشرف الحروب!
«تدور الكرة والعالم يدور. يعتقد بأن الشمس هي كرة مشتعلة.. تعمل خلال النهار وتتقافز في الليل هناك في السماء.. بينما القمر يعمل.. مع أن للعالم شكوكه في هذا الشأن، ولكن الأمر المؤكد في المقابل.. وبكل يقين.. هو أن العالم يدور حول الكرة التي تدور»
(«كرة القدم في الشمس والظل»- إدواردو غاليانو - ت: صالح علماني- ص 189)
أنا ألعب.. إذاً أنا موجود!
تلك هي فلسفة الوجود التي ابتكرها فيلسوف كان جالساً يوماً ما لمتابعة مباراة رسمت وجه العالم.
وعندما تأهلت هندوراس وتشيلي إلي مونديال جنوب أفريقيا 2010، استعادت الأولي ذاكرتها الكروية بعد غياب دام 28 عاماً، فيما أنست بطاقة التأهل جمهور البلد الثاني مشكلة البطالة التي تعتصر البطون الجائعة. وحين تأهلت كل من توجو وأنجولا إلي مونديال ألمانيا 2006، أحس التوجوليون والأنجوليون بالفخر، إذ لم تعد توجو مجرد خطأ جغرافي وبقعة صغيرة منسية علي خريطة العالم، وخرجت أنجولا من تحت عباءة صورتها النمطية كواحدة من الدول التي اعتادت أن تأكل أبناءها علي مائدة الحرب الأهلية كل صباح.
في استدارة كرة القدم تكمن سر السعادة: كمٌ من الأسباب التي تبرّر حياة الكثير من الناس..علي الرغم من عبثيتها.
وجزءٌ من عشقها أنها لعبة شعبية.. تنمو عادة في الأحياء الهامشية التي تلد أفضل لاعبي العالم: بيليه الذي ولد في بيت فقير في قرية نائية وكان في صباه ماسح أحذية.. مارادونا الذي كان قصاري حلمه أن يصبح فنياً صناعياً.. ويوهان كرويف الذي كانت أمه تخدم في كافيتيريا نادي أياكس. فقراء صنعوا المجد لأنفسهم وجمهورهم، الذي يتماهي عادةً مع مثله الأعلي.
كرة القدم هي الوطن.. والسلطة هي كرة القدم. تأملوا الرئيس الفرنسي جاك شيراك وهو يرتدي زي منتخب فرنسا في نهائي مونديال 1998.. والعاهل الأردني الملك عبد الله بن الحسين وهو يفعل شيئاً مماثلاً ويلوح للاعبي منتخب بلاده في نهائيات كأس أمم آسيا عام 2004.
وكثيراً ما يتسلل السياسيون والطغاة إلي ملاعب كرة القدم بحثاً عن شعبية ضائعة.. إيطاليا فازت ببطولتي مونديالي 1934 و938ا تحت راية موسوليني.. ونالت الأرجنتين الكأس عام 1978 في أوج عصر الديكتاتورية العسكرية.
وفي مسرح كرة القدم يحل اللاعبون مكان الممثلين.. أدوارٌ لا ينقصها فن الارتجال.. وكلما أتقنت دورك بمهارة وأضفت إليه بعضاً من توابل الارتجال كلما امتلكت ناصية الدهشة وارتفعت هتافات المعجبين باسمك.
علي العشب الأخضر الممتد علي امتداد القلوب التي تشاهد، يمثل اللاعبون برؤوسهم وأرجلهم .. وربما أيديهم مثلما فعل الأرجنتيني دييجو أرماندو مارادونا حين خدع الحكم التونسي علي بن ناصر بهدفٍ أحرزه بيده في مرمي منتخب إنجلترا في مونديال المكسيك عام 1986. ثم زعم بعد ذلك أن «يد الله» أحرزت الهدف.
يقدر الاتحاد الدولي لكرة القدم - الفيفا- عدد من شاهدوا نهائي مونديال ألمانيا 2006 بنحو ثلاثة مليارات شخص، وهو أكبر جمهور يجتمع لمتابعة حدثٍ ما علي امتداد تاريخ هذا الكوكب.
إنها الحب الأول لكثيرين- ممن يصرخون ويسخطون ويصفقون علي المدرجات أو أمام شاشات التلفاز.. وهم يتابعون صعود أو سقوط أحلامهم.. ويقضمون أظفارهم أو يمسكون برؤوسهم وهم يلهثون وراء اثنين وعشرين لاعباً يرتدون سراويل قصيرة ويلاحقون الساحرة المستديرة.. يركلونها حيناً ويداعبونها حيناً آخر، تعبيراً عن حبهم لها وشغفهم بها.
استخدامات الكرة متعددةٌ، أحدها هو الحب العالمي.
وبالنسبة لكثيرين، يصعب تفسير مدي تأثير وقدرة كرة القدم علي إهدائنا سر البهجة الخالصة والحماسة المتقدة، ومنح بعضنا قدراً أفضل لحياته، وتشكيلها لبعضنا الآخر المكان المثالي الذي أمدّ وجوده بمعني لم يعثر عليه في مكانٍ آخر.
وحتي في حال الهزيمة، تفتح لحزنك الباب، فيندفع خارجاً من صدرك، لكنه لا ينسي قبل أن يفارقك مودعاً أن يعدك بنظرة معبرة بأنه ربما يعود يوماً.. ومعه ملامح نصر كروي.
ومن يطالع «الأنطولوجيا» التي صدرت تحت عنوان «حقل الرياضة» (دار الطاولة المستديرة- باريس- 2006)، سيكتشف عبر نخبة من النصوص الشعرية والأدبية الممتعة التي تقع في نحو 400 صفحة، كيف تؤمّن الرياضة - وخاصة كرة القدم - لصاحبها توازناً وكمالاً نادرَين مع الشعور بالانتصار علي الذات وتخطّيها وفرصة بلوغ فضاء الحلم.
مع انتهاء مونديال عام 1994، أُطلق اسم القصير المكير روماريو علي غالبية الأطفال الذين ولدوا في البرازيل، وبيع عشب استاد لوس أنجلوس مجزأً في قطع صغيرة مثل البيتزا.. بعشرين دولاراً للقطعة.
ومع انتهاء مونديال كوريا الجنوبية واليابان عام 2002 زقزق في بريدي الإلكتروني عصفور رسالة من زميلة الدراسة البرازيلية آنا تقول فيها في زهو: لقد انتصرنا!
وقبل ذلك بأربع سنوات، نامت آنا علي وسادة أحزانها بعد أن فقد منتخب «سيليكاو» البرازيلي قدراته السحرية أمام منتخب الديوك الزرق، حين قاد زين الدين زيدان رفاقه إلي فوز مستحق علي منتخب السامبا بثلاثية نظيفة.
لكنها لم تنس تلك اللحظة، ولم تتمكن من مداواة جراح الهزيمة إلا عندما رفع البرازيليون الكأس بعد تلك الهزيمة بأربع سنواتٍ كاملة.
أهو جنونٌ؟ هوس؟ تجارة؟ صناعة؟ هي هذا كله وأكثر..إنها لمعان في العيون التي تري، ولهفة في الجسد الذي يلاحق، وآهات من القلب الذي يخفق مع كل لعبة جميلة أو هجمة خطيرة.
هناك لاعبون بارعون في التمثيل: يملكون وجه قديس.. وألاعيب شيطان.. يتقنون أسرار الضربات الخفية من وراء ظهر الحكم.. وشد شعر أو قميص أو سروال اللاعب الخصم.. والبصق عليه وإهانته.. في حين يتأمل حامل الراية الغيوم التي تمر في السماء، ويتحول فجأة إلي نسخةٍ مملة من عادل إمام في مسرحية «شاهد ما شفش حاجة»!
تأملوا ما جري بين قائد منتخب فرنسا زين الدين زيدان والمدافع الإيطالي ماركو ماتيرازي في نهائي مونديال ألمانيا: الكل رأي نطحة الرأس التي قام بها زيدان، غير أن أحداً لم يعرف إلا متأخراً جداً أن ماتيرازي أهان زيدان وتفوه بكلماتٍ تسيء إلي أمه وشقيقته.
ومثلما يولد في ملاعب كرة القدم أبطال، ينتهي الأمر ببعضهم كضحايا.
ومن الصنف الأخير نذكر أندريز اسكوبار مدافع منتخب كولومبيا المشارك في كأس العالم بالولايات المتحدة عام 1994، فقد ارتكب اسكوبار جريمة لا تغتفر حين سجل هدفاً في مرماه خسرت به كولومبيا بطاقة تأهل منتخب بلاده إلي دور ال 16 في المونديال، ووصلت تهديدات بالقتل إلي اللاعب، ولكنه لم يلق لها بالاً. غير أن المخاوف صارت حقيقة في 2 يوليو 1994.. ففي أثناء خروجه من حانة في ميديين، فوجيء اسكوبار بملثم يطلق عليه 12 رصاصة، وفي كل مرة كان يطلق فيها رصاصة كان يصرخ قائلاً: «هدف!». ورأي كثيرون أن الجريمة لم تكن سوي انتقام دموي من عصابات المخدرات في كولومبيا التي خسرت كثيراً في المراهنات بسبب هدف اسكوبار في مرمي منتخب بلاده.
لكن، لماذا تستهوي كرة القدم الرجال أكثر من النساء؟ ..ربما لأنها امرأة!
فالبرازيليون علي سبيل المثال يقولون عنها: السمينة، ويسمونها: الطفلة، ويمنحونها أسماء من نوع ماريكوتا، أوليونور، أو مارغريتا.
ويدلل البعض علي أنوثتها بالقول إنها تبدو في بعض الأحيان كزوجة وفية.. ففي نهائي مونديال أوروجواي عام 1930 طالب كل من المنتخبين المتنافسين اللعب بكرته الخاصة. وكان الحكم حكيماً مثل سليمان فقرر أن يجري اللعب في الشوط الأول بكرة أرجنتينية وفي الشوط الثاني بكرة من أوروجواي.. فكسبت الأرجنتين الشوط الأول.. واكتسحتها أوروجواي في الشوط الثاني.
ويشير آخرون إلي جينات أخري تثبت أنوثتها..فهي قد تبدل رأيها وهي في الهواء.. فتعاند وترفض دخول المرمي.. وتنحرف عن مسارها دون سابق إنذار.. وفي أوقات كثيرة تكون ساخطة..ربما احتجاجاً علي هؤلاء الرجال الذين لا يداعبونها بالرقة اللازمة ولا يسمحون لها بالنوم علي صدورهم..وإنما يعمدون إلي لغة القوة والعنف فيركلونها بالأقدام.
وأضيف فأقول: إنها امرأة حدثٌ كوني أن يجتمع جمالها.. والشعر!
وتحفل كرة القدم بالاستيهامات والعلامات الجنسية بدءاً من اسمها الأنثوي، ومرورا بمداعبة الكرة من أجل فك تمنعها ودلالها، ومن أجل «معانقة الشباك» و«اختراق المرمي»، لذلك تشبه بعض الأهداف حالات الاغتصاب الجنسي، فالكرة الطائشة التي تدخل دون فُرجة أو مداعبة «قذف سريع» ليس فيه متعة كما تحلل بعض أدبيات كرة القدم. وأجمل من عشتار براقعها كما يقول فراس السواح، فعندما تنزع كل البراقع عنها يصاب الناظر إليها بالجنون. وهذا ما يفسر الطابع الذكوري للعبة، الكرة فيها وحدها الأنثي في ميدان الملعب.
وفي كتابه «مسالك المعني.. دراسة في بعض أنساق الثقافة العربية» (دار الحوار، اللاذقية- سوريا، 2007)، يفكك الباحث المغربي سعيد بنكراد استيهامات كرة القدم الجنسية والحربية من زاوية ضرورة اللعب وعدم اقتصاره علي الأطفال، فاللعب تحرير لطاقة جسمية ونفسية لا يمكن التحكم فيها بحالات الجد، وهو ما يطلق عليه أحيانًا الترويح عن النفس. كرة القدم محاولة لتصريف مجموعة من الانفعالات بعضها آن وبعضها الآخر اجتماعي وجمعي قديم.
ألعاب كرة السلة وكرة اليد وكرة الطائرة لا توفر الكم الانفعالي بسبب محدودية فضاء اللعبة وهو تفسير لشعبية كرة القدم التي تتضمن خزاناً من الدلالات؛ منها ما يحيل إلي الحرب واستراتيجيتها وتكتيكاتها والعدوان والبسالة والشهادة والخيانة والحذر ورد فعل الخصم والاحتياط و«تسديد القذائف» و«التقويسات الخادعة» واستحضار عوالم الذبح والقرصنة والمراقبة اللصيقة وتفريغ الشحنات الانفعالية بتبذير الطاقة الزائدة عبر استثارة حالات العدوانية بما يشبه حلقات الزار أو البوح السريري.
ويري الباحث أن لعبة كرة القدم تعمل علي نقل العدوان من حالته الحقيقية إلي ما يشبه البروفة، ومن هذه الإحالات ما يتعلق بالذكورة والأنوثة ومفاهيم الارتواء الجنسي رمزياً. المشاهدة هي فعلٌ استعراضي يؤدي فيه المشاهد دور المتلصص الذي يشبع رغباته بمشاهدة الآخرين ينزعون ثيابهم استعداداً لممارسة فعل جنسي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إسقاط حالات إشباع افتراضية، فهي تستعيد بعض الطقوس البدائية التي كان الناس يتقربون فيها من الآلهة من خلال تنظيم حفلات جنسية جماعية، ولذلك تهتز الجماهير طرباً لتمرير الكرة بين رجلي الخصم وهو ما يسمي في المعجم الكروي «بالقنطرة الصغيرة» ولها إيحاءات جنسية إخصائية.
وتملك كرة القدم حصانةً مذهلة في قلوب محبيها.. حصانة هزمت قوانين ومراسيم ملكية: ففي عام 1349 ضم الملك إدوارد الثالث كرة القدم إلي ألعاب «الحماقة التي ليست لها أي فائدة».. وهناك مراسيم ضد كرة القدم ممهورة بتوقيع هنري الرابع في عام 1410 وهنري السادس في عام 1547.. ولكنهم كلما أمعنوا في حظرها كان الملعب يزداد امتلاءً بالجمهور العاشق.
كان ليوناردو دافنشي مشجعاً متحمساً.. ومكيافيللي لاعباً ممارساً.. وفي عام 1930 كان ألبير كامو - المولود عام 1913-هو القديس بطرس الذي يحرس بوابة مرمي فريق كرة القدم في جامعة الجزائر..وقد اعتاد اللعب كحارس مرمي منذ طفولته؛ لأنه المكان الذي يكون فيه استهلاك الحذاء أقل، إذ كان ابن أسرة فقيرة لا يملك ترف الركض في أنحاء الملعب.. وكل ليلةٍ كانت الجدة تتفحص نعل حذائه وتضربه إذا ما وجدته متآكلاً.
يقول صاحب رواية «الغريب»: «تعلمت أن كرة القدم لا تأتي مطلقاً نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها.. وقد ساعدني ذلك كثيراً في الحياة خصوصاً في المدن الكبيرة، حيث الناس لا يكونون مستقيمين عادة».. نجمٌ آخر في عالم الكتابة يتعلم أسرار الحياة من كرة القدم.
وبالمثل، كان الشاعر الروسي يفغيني ألكسندروفيتش يفتوشينكو -المولود عام 1933- يحب فريق كرة القدم لمدينته الصغيرة في سيبيريا «سيما»، حتي كاد أن يصير نجماً رياضياً في كرة القدم كحارس مرمي، قبل أن يهجرها وهو في الخامسة عشرة.
كان يفتوشينكو مدمناً في مراهقته علي لعب كرة القدم..في الليل يكتب الشعر وفي النهار يلعب كرة القدم في الساحات العمومية والأرض الخلاء، ويعود إلي البيت بسروال ممزق وركبتين داميتين. صوت الكرة كان يبدو له أشد النغمات الموسيقية سحراً. كان دائماً يحس أن هناك شيئاً مشتركاً بين كرة القدم والشعر.
تعلم أن الأهم ليس أن يتقن اللاعب الهجوم فحسب.. ولكن أن يراقب، ذلك لأنه يري أن قواعد كرة القدم أبسط من قواعد الأدب. إذا سجل اللاعب هدفاً فالدليل الحقيقي علي ذلك يظهر للعيان فوراً: «الكرة في الشباك.. وعلي عكس ذلك فإن علي الشاعر أن ينتظر الكثير ليثبت أن كرته أصابت الهدف». والأسوأ - برأيه - أن غالب الضربات التي تمر بعيداً عن المرمي كثيراً ما اعتبرت قمة الإبداع! وكلما رأي مثل هذه الأحكام الأدبية الجائرة.. تأسّف علي تركه كرة القدم «كرة القدم تدخل الأدب من شِباك المرمي» - أحمد حجار - جريدة «الحياة» اللندنية -3 يوليو 2006).
الشاعر الفلسطيني محمود درويش قال إنه يستمتع بمشاهدة كرة القدم ويعتبرها «أشرف الحروب».. وسبق أن كتب مقالاً عن مارادونا. أما الروائي الأمريكي بول أوستر فقد اعتبر في مقالة قصيرة عن أبرز دروس الألفية المنصرمة.. وترجمتها مجلة «الكرمل» أن هذه الرياضة هي «البديل عن سفك الدماء» في الحروب الكونية.. ويدلل الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو علي قوة وتأثير كرة القدم فيقول في مقال له: «علي الرغم من أن المسألة سخيفة.. فإنك ستشاهد وتقدر للفور قوة كرة القدم كظاهرة اجتماعية، وذلك بأن تنظر حولك في الملعب فقط.. بل وفي حياتك اليومية».. إنها قوة تتحول في لحظات البطولات الحاسمة محلياً وقارياً ودولياً إلي قاطرة تسحب وراءها مختلف فئات المجتمع.
الروائي البرازيلي باولو كويلو - المولود عام 1947- كتب عن كرة القدم في مونديال ألمانيا.. أما المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي فقد امتدح يوماً «مملكة الوفاء البشري هذه التي تُمارس في الهواء الطلق».. كأن تلك الكرة أسمي أشكال وآمال طبقة البروليتاريا!
في أوائل عام 1994 قضي أسامة بن لادن ثلاثة أشهر في لندن لزيارة المؤيدين والمصرفيين، وذهب لمشاهدة مباريات نادي الأرسنال أربع مرات. وقبل أن يعود إلي السودان، اشتري لأولاده هدايا من محل الهدايا بالنادي. وذكر بن لادن لعددٍ من معارفه أنه لم يشهد حماساً وعواطف جياشة مثل مشاعر وعواطف مشجعي الكرة.
ويبدو أن مثل هذا التصور منتشر داخل تنظيم «القاعدة». ففي شريط فيديو أفرجت عنه وزارة الدفاع الأمريكية، ظهر بن لادن وهو يتبادل أطراف الحديث مع شخص آخر عن هجمات 11 سبتمبر أيلول، وتطرق الحديث إلي كرة القدم مرتين. الأولي يتذكر فيها ما ذكره له واحد من أنصاره قبل عام من أنه: «شاهدت في منامي أننا كنا نلعب مباراة لكرة القدم ضد الأمريكيين. وعندما ظهر فريقنا في الملعب، كانوا كلهم من الطيارين.. وقد فازت «القاعدة» في المباراة»!
وفي شريط الفيديو نفسه، أصاب بن لادن ورجاله عين الحقيقة. فكرة القدم التي تعتبر في الولايات المتحدة تسلية للأطفال، تثير في باقي أنحاء العالم عواطف ومشاعر جياشة لا تماثلها إلا مشاعر الحرب.
ربما لم يصبح بن لادن له أي ذكر في مجال كرة القدم، فيما عدا أغنية ترددت أحياناً من مدرجات الأرسنال، تقول كلماتها: «هو يختفي بالقرب من كابول هو يحب الأرسنال.. أسامة.. أوه أوه أوه»!
وعلي العكس من باقي الرياضات الأخري بل علي العكس من أية ظاهرة ثقافية أخري فإن كرة القدم تتميز بمدلولها السياسي. فهي تستخدم من قبل السلطات السياسية، وهي رمز للفوضي ولحكم الأقلية. وهي تؤدي إلي انتخاب الرؤساء أو إسقاطهم، وتحدد الطريقة التي يفكر بها الناس، خيراً أم شراً، بخصوص بلادهم.
وتحاول القيادات السياسية في كل مكان الارتباط بكرة القدم. ففي عام 1986 اشتري سيلفيو برلسكوني وهو رجل أعمال متخصص في مجال الإعلام ناديه المفضل ايه سي ميلان، الذي كان يكافح للتغلب علي فضيحة رشي في عام 1979. وبحلول عام 1989 أصبح نادي ميلان ثرياً ومنظماً وبطلاً لأوروبا. ثم أسس برلسكوني بعد ذلك حزبه السياسي الخاص «فورزا إيطاليا» وهو شعار كروي يعني «إلي الأمام يا إيطاليا»، وأطلق علي مرشحي الحزب اسم الزرق وهو اسم المنتخب القومي.. وفي عام 1994 انتخب رئيساً للوزراء. وفي النمسا، حسَّن السياسي اليميني يورغ هايدر صورته برئاسة نادي كارنثن.
وفي البرازيل يرتدي السياسيون فانلات فريقهم المفضل خلال الحملات. وفي بريطانيا حصلت مدينة هارتبول الإنجليزية علي حق انتخاب عمدة. وفي أول انتخابات محلية رفضت المدينة مرشح حزب العمال وانتخبت بدلاً منه تعويذة الفريق وهو رجل يرتدي ملابس علي شكل قرد ويتقدم الفريق في مبارياته. ولكن ربما أفضل مكان لمراقبة تداخل كرة القدم والسياسة اليوم هو الأرجنتين، التي فاز منتخبها القومي بكأس العالم مرتين، التي دخل اقتصادها مرحلة ركود اقتصادي أسوأ من تلك التي تعرضت لها الولايات المتحدة في الثلاثينيات.
ففي يوم ساده مناخ إنجليزي قاتم، زار المليونير الأرجنتيني مورشيو ماكري جامعة أكسفورد البريطانية. ومثل برلسكوني في إيطاليا، اشتري ماكري نادياً لكرة القدم يعاني من المشكلات هو بوكا جونيورز في العاصمة بوينس أيريس، الذي أصبح لفترة من الفترات أفضل نادٍ في أمريكا اللاتينية. ثم قرر ماكري دخول عالم السياسة، وكانت البداية باختياره محافظاً للعاصمة بوينس أيريس..وبعد ذلك من يعلم؟
وعندما انهارت العملة الأرجنتينية، وتولي حكم البلاد أربعة رؤساء في أسبوعين، اندلعت المظاهرت ضد السياسيين الأرجنتينيين والنظام المصرفي وصندوق النقد الدولي. وهكذا تبلورت ظاهرة جديدة: بدأ المتظاهرون في ارتداء فانلات المنتخب القومي الزرقاء ذات الخطوط البيضاء وعليها عبارة «باستا» أي يكفي، مكتوبة علي الظهر. أعظم ظواهر المجد الأرجنتيني: كرة القدم أصبحت تستخدم لإهانة المؤسسة الحاكمة وكرة القدم، اقتباساً من التعريف الشيوعي، هي أفيون الشعوب، استخدمتها السلطات للتحكم في الجماهير. فقد كانت تلتقط لبينيتو موسوليني العديد من الصور مع المنتخب القومي الإيطالي لكرة القدم - أبطال العالم في عامي 1934 و1938. وتحول المشهد التقليدي مع المنتخب القومي في شرفة قصره إلي مشهدٍ تقليدي يتكرر في جميع أنحاء العالم.
غير أن النازيين في ألمانيا لم يتمكنوا قط من استخدام كرة القدم لصالحهم، فقد كان يحيرهم دائماً النتائج غير المتوقعة لكرة القدم. فبعدما خسرت ألمانيا 1-2 أمام سويسرا في عيد ميلاد هتلر عام 1941، أصدر أوامر إلي غوبلز وزير إعلامه «بعدم تنظيم أيه مباريات رياضية عندما تكون النتيجة محل شك». وعندما خسرت ألمانيا أمام السويد عام 1942 يتردد أنه علق قائلاً: غادر 100 ألف الاستاد وهم يشعرون بالإحباط، وبما أن النصر في مباراة كهذه أقرب إلي الناس من أن تغزو مدينة في الشرق، فيجب حظر مثل هذه الأحداث لمصلحة المزاج الداخلي».
ولم يمض أكثر من شهرين حتي توقفت ألمانيا عن المشاركة في المباريات الدولية!
وعدد كبير من أفراد عائلة الرئيس الروماني سابقاً نيكولاي تشاوشيسكو تبنوا أنديتهم الخاصة، في حين أمر عدي نجل الرئيس العراقي سابقاً صدام حسين بضرب وتعذيب أعضاء المنتخب القومي العراقي بعد هزائم لحقت بالمنتخب في مباريات مهمة. أما رئيس الشرطة السرية في عهد ستالين، لافرنتي بيريا الرئيس الشرفي لنادي دينامو موسكو، فكان يرسل لاعبي الفرق المنافسة إلي سيبيريا. بل إن حزب العمال البريطاني في عهد هارولد ويلسون، حمل هزيمة انجلترا المفاجئة في كأس العالم مسئولية هزيمة حزبه في الانتخابات العامة في عام 1970 بعدها بعدة أيام.
الآن الحكام لا ينفردون دائماً باستغلال كرة القدم لصالحهم. فمن السهل جداً أن تستخدمها الجماهير ضد الحكام، خاصةً في أماكن قد تتضاءل فيها وسائل التعبير. فقد ذكر تقرير لوزارة الخارجية الأمريكية ظهر في عام 1999 أن «آخر مظاهر الاستياء العام تجاه الحكومة الليبية حدث عندما اندلعت أعمال الشغب بخصوص ركلة جزاء في مباراة لكرة القدم في طرابلس في 9 يوليو عام 1996».
في إيران تبدو كرة القدم أكثر أهمية، وقد سيطرت علي البلاد في السنوات الأخيرة ما يطلق عليه «ثورة كروية». اندلعت الشرارة في عام 1997، عندما هزم المنتخب الإيراني نظيره الأسترالي للتأهل لكأس العالم 1998. فقد اندفعت آلاف النساء إلي الاستاد الرياضي للمشاركة في الاحتفالات، وفي احتفالات بالشوارع عبر البلاد، رقص الرجال والنساء في الشوارع، وتحدت النساء تحذيرات الحكومة ومحظورات الملالي.
وبسبب كرة القدم، خاضت دول حروباً دامية.
ويتذكر العالم حرباً استمرت 100 ساعة قبل 40 سنة بين دولتين جارتين في أمريكا الوسطي هما هندوراس والسلفادور وانتهت بكارثة: أكثر من 4000 قتيل، معظمهم مدنيون، ومعهم 10 آلاف مشوّه و120 ألف مشرد، ودمار مئات البيوت والمنشآت التي تزيد قيمتها اليوم علي ثمانية مليارات دولار، وكله بسبب شرارة صغيرة من مطاط تقاذفتها الأقدام فوق عشب يوحي لونه بالسلام.
ربما تكون كرة القدم أفيون الشعوب، لكن دعونا نتذكر الكاتب البرازيلي خورخي أمادو حين يقول: «أغبياء أولئك الذين لا يحبون كرة القدم»!
انحيازٌ واضح من أديبٍ متمكن.
ولم لا؟ ففي نظر عشاقها فإن تلك الكرة منفوخة بالهواء الوحيد المتبقي في هذا الكون.
ولكن، ماذا عن كرة القدم في المحروسة؟
تلك بالتأكيد حكاية أخري شرحها يطول.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.