"لغة مبهجة" ابتكرتها البشرية، وصنعت حروب الكراهية داخل الملاعب وخارجها. "لعنة غامضة" تلازمها آهات الإعجاب وزفرات الأسي، وتحمل معها راية المجد ووسادة الأحزان معا.. إنها كرة "القدر". ولدت فكرة هذا الكتاب في صيف 2006 مع انطلاق نهائيات كأس العالم في ألمانيا وانتهي منه مؤلفه بعد شهور من إسدال الستار علي نهائيات كأس العالم في جنوب أفريقيا 2010. أما الدافع فكما يقول الصحفي ياسر ثابت في كتابه "حروب كرة القدم" الصادر مؤخرا عن دار العين: "الكتابة عن كرة القدم وتوظيفها في الإعلام والسياسة والاقتصاد أصبح واجبا ضروريا". الشغف بتأمل تلك اللعبة الشعبية التواقة للانتماء، للصراخ، لملء الفراغ، وللغضب الخارج عن السيطرة. التاريخ السري للكرة الجماهير هم أبطال تلك اللعبة وضحاياها كما يري ثابت، والكتاب عبارة عن توثيق لعدد من المقالات والحوارات والتقارير الصحفية والتليفزيونية التي دارت حول عالم الملاعب، ونتوقف عبرها عند أبعاد علاقة كرة القدم بالأدب والأدباء، بالسياسة والزعماء، بالدين وتجلياته الشكلية، وأخيرا باستيهاماتها الجنسية! وإلا لماذا تستهوي كرة القدم الرجال أكثر من النساء؟ هل ربما لأنها امرأة؟ يتحدث ثابت عن دور الأقليات العرقية في اقتناص البطولات، عن الكبرياء القومي الذي يضفي علي الملعب لون الوطن، عن حكايات الزعماء السياسيين والطغاة مع الساحرة المستديرة، ودورهم في المتاجرة بمشاعر الملايين من محبي الساحرة المستديرة، وهناك أيضا جانب معلوماتي مرح، نتعرف في الكتاب علي قائمة بأشرس اللاعبين. كما يطلعنا المؤلف بالأحداث والوقائع علي سر ارتباط كرة القدم بمفهوم القوة وسلوكيات العنف وصولا إلي شن الحروب، وهو ما يسميه المؤلف ب"مأساة تعظيم الأقدام وتغييب العقول". ليس للسياسة والدين فقط ظهورا خاصا في هذا الكتاب، الاقتصاد أيضا، حيث يوضح ثابت كيف انتقلت كرة القدم علي مر السنين من مجرد لعبة محبوبة ورياضة شعبية إلي نشاط اقتصادي، ولذلك تحولت الأندية إلي شركات تقتحم البورصة! وأصبحت مباريات كرة القدم وقتا للإعلان والبيع والاستهلاك والوطنية. مصر والجزائر يحكي ثابت عن "إمبراطورية الكرة"، تاريخ وممارسات الصعود إلي المواقع والمناصب الكروية من أهل السياسة. عن البطولات التي تولدت من رحم الهزيمة. يتوقف في فصل طويل كامل عند "جوهر الحكاية"، مصر والجزائر، ذلك المسلسل الطويل المزعج في التوتر الكروي. سنجده يتحدث عن "مباريات الحرير والحديد بين مصر والجزائر"، وعلماء الدين الذين تعاملوا مع المباراة علي أنها معركة وحرب للدفاع عن الأرض والعرض، ليخرج بنتيجة واحدة أكيدة هي أن "الكرة أرقي من الشوفينية، وأسمي من لعبة الأكاذيب". دراما كرة القدم "العالم يتكور، هناك مباريات رسمت وجه العالم، إنها سلطة كرة القدم لحظة الانتصار عندما تعلن رسميا مولد هذه الدولة أو تلك. يوضح ثابت ذلك عندما بدت مشاركة الصرب والسلوفاك لأول مرة في مونديال 2010 أشبه بإعلان "استقلال كروي"، ومادام الأمر له علاقة بالنزعة الوطنية، فسنقرأ بالكتاب سطورا وحكايات طريفة وجادة عن "الثأر الكروي"، وذلك لتأكيد الانغماس في كرة القدم. "غريزة الانتصار في الملعب لا تقل عن غريزة البقاء"، لذلك يتساءل المؤلف: أهو جنون، هوس، تجارة، أم صناعة؟ يشرح ثابت بأن التشجيع طقس كروي وديني وسياسي في حد ذاته، هو نوع من التمرد علي قيود المجتمع ومحظورات السياسة. وهذا - بمنطق علم النفس - ما جعل كرة القدم دراما ترضي شغف ما عند الإنسان: الانتماء والانحياز والقلق والترقب والتمسك بالأمل والشعور بالتفوق. الأمر داخل المستطيل الأخضر ليس رفاهية ومسليا في كل أوجهه وجميع أوقاته، بل يصل حد الرعب. في كولومبيا مثلا سيطرت عصابات المخدرات علي النوادي الرياضية، واقترن اللعب بالرهانات، وظهرت الأهداف الدراماتيكية في تاريخ المونديالات، وأصبحت حياة اللاعب في قبضة المجرمين. كرة القدم.. أشرف الحروب لعبة كرة القدم بروفة علي العدوان، كرنفال حرية وفرح مسروق. لحظات مخطوفة من أنظمة حديدية ودول بوليسية. الإنجليز مثلا يعتبرون هذه اللعبة معركة جدية بين الخير والشر، وهم الذين أفرزوا ظاهرة "أوباش الكرة" الذين يدمرون الملاعب، وتطور بعد ذلك إلي "الهوليجانز". الشاعر الفلسطيني محمود درويش أطلق علي كرة القدم لقب "أشرف الحروب". بينما كرة القدم أسرع من الكلمات كما يري التركي أورهان باموك، أما بالنسبة لنجيب محفوظ صاحب جملة "نحن نلعب لننسي أحزاننا"، فكانت الكرة هي الشيء الوحيد الذي نستطيع من خلاله الفوز علي الإنجليز. وكذلك كرة القدم هي مجاز الحياة بتعبير جان بول سارتر، أما الروائي البريطاني جورج أورويل فكان يري أنها "متعة سادية"، حرب بدون إطلاق الرصاص. وبتعبير الروائي الأمريكي بول أوستر هي "البديل عن سفك الدماء"، وهو أيضا صاحب مقولة: "البلدان تخوض حروبها في الملاعب بجنود يرتدون السروال القصير". "كرة القدم هي الوطن، والسلطة هي كرة القدم"، بهذا الشعار يحدثنا المؤلف عن تبعات الغرق في انتصارات الكرة الوهمية، واختصار الوطن في كرة منفوخة أو "جلد مدور"، ونتائج التعصب الأحمق، إلي درجة أن بعض المباريات أقيمت في غياب جمهور الفرق المنافسة. بن لادن وهتلر و"مرح القوة" يستقي ياسر ثابت بعضا من المعلومات التي وردت في كتاب سايمون كوبر "الكرة ضد العدو". نقرأ عن كرة القدم باعتبارها اللعبة التي جذبت بن لادن نحو التشدد الديني، يشرح كيف يتسلل السياسيون والطغاة إلي ملاعب كرة القدم بحثا عن شعبية ضائعة، هتلر نفسه كان يؤمن بنظرية "مرح القوة". فضلا عن إصرار أهل السياسة علي انتزاع انتصارات كروية وسط ركام الأزمات. أما الطرفة الحقيقية هي تلك التي تؤمن بأن مونديال كرة القدم هو المناسبة الوحيدة التي يتم التعامل فيها مع الولاياتالمتحدة كدولة متوسطة الوزن. الدين ديناميت الملاعب يسأل ياسر ثابت: الدين.. هل هو دينامو اللاعبين، أم ديناميت كرة القدم؟ يؤكد علي صعوبة تجاهل حضور الدين في تلك اللعبة الشعبية، حتي مع أشد الأوقات انشغالا بالهدف أو اللقب، وذلك باعتبار كرة القدم رياضة تبدو انعكاسا للمجتمعات والثقافات. نقرأ حكايات عن العلاقة المعقدة بين الدين وكرة القدم، سنعرف أن نادي هاللويا في كوريا الجنوبية كان يقوم بأعمال تبشيرية من خلال كرة القدم. ونتيجة للشعبية الساحقة لكرة القدم يتحول اللاعبون إلي آلهة فوق أرضيات الملاعب، وكما للديانات طقوس فكرة القدم مليئة بالطقوس، لدرجة أن الملاعب أصبحت أشبه بمعابد تستقطب أناسا أكثر من المعابد الحقيقية.