فى بداية كل صباح، وقبل أن ينشغل القارئ بأخبار السياسة والاقتصاد وأسعار المعيشة، تتسلل فقرة صغيرة إلى الروتين اليومى لدى الكثيرين، وهى «توقعات برجك اليوم». كلمات قليلة، تبدو عابرة، لكنها قادرة على رفع معنويات شخص، أو دفعه للتريث فى قرار، أو حتى تفسير يوم كامل على أساسها. ورغم الجدل الذى يحيط بها بين من يراها تسلية خفيفة، ومن يتعامل معها بقدر من الجدية، ما زالت الأبراج حاضرة بقوة فى الصحف، والمواقع الإلكترونية، وتطبيقات الهواتف، وصفحات التواصل الاجتماعى، محافظة على جمهور واسع ومتجدد.
وبين الفضول والإيمان، والمتعة والتأثير الخفى، تطرح الأبراج أسئلة تتجاوز كونها فقرة ثابتة فى نهاية الصفحات: لماذا نقرؤها؟ وكيف نتعامل معها؟ وإلى أى مدى يمكن أن تتسلل إلى تفاصيل حياتنا اليومية؟ ولماذا يبدأ يوم الكثيرين بالتفاؤل أو التشاؤم بسببها؟ وهل تغير تنبؤات المنجمين القدر المحتوم لمجرد هذا التفاؤل أو التشاؤم بالأبراج فى صباح كل يوم؟ أسئلة تفتحها مجلة «صباح الخير»، محاولة الاقتراب من ظاهرة لا تبدو عابرة كما يعتقد البعض. خارج الصفحات الأخيرة لم تعد الأبراج حكرًا على الصفحات الأخيرة فى الصحف، تلك المساحة التى اعتاد القارئ المرور عليها سريعًا قبل طيّ الجريدة، فمع تطور وسائل النشر، وتغير عادات القراءة، انتقلت الأبراج من كونها فقرة ثابتة إلى محتوى يومى متجدد، يعاد تقديمه بأشكال متعددة تناسب إيقاع العصر. حيث تظهر اليوم توقعات الأبراج فى فيديوهات قصيرة، وبث مباشر، ومنشورات تحصد مئات الآلاف من المشاهدات والتفاعلات، خاصة على منصات التواصل الاجتماعى، ولم يعد القارئ ينتظرها فى نهاية اليوم، بل تصله مع إشعارات الهاتف، وفى أوقات مختلفة، وبصيغ أكثر بساطة ومرونة. كما تحصد صفحات الأبراج جمهورًا واسعًا، لا سيما بين الشباب، حيث تقدم التوقعات أحيانًا بلغة خفيفة تميل إلى الدعابة، وأحيانًا أخرى فى إطار يشبه النصائح الحياتية العامة، ما يمنحها حضورًا أكبر وتأثيرًا أوسع، يتجاوز كونها مجرد تسلية عابرة.
التوقعات الكبرى مع بداية كل عام، تعود الأبراج إلى الواجهة بقوة أكبر، فلا يقتصر الأمر على توقعات يومية عابرة، بل يتحول إلى ما يشبه «موسمًا خاصًا» تطرح فيه توقعات السنة كاملة من العمل، والعلاقات، والمال، والصحة، وغيرها، وكأن العام الجديد لا يكتمل دون خريطة فلكية مسبقة. فى هذه الفترة، يتزايد انتشار المحتوى الفلكى بشكل لافت، وتتصدر عناوين منها «توقعات الأبراج فى العام الجديد»، و«خريطة الحظ خلال السنة المقبلة»، و«أبراج على موعد مع تغييرات مهمة»، و«من هم الأكثر حظًا هذا العام؟»، وغيرها من واجهات للمواقع ومنصات التواصل الاجتماعى، المستفيدة من حالة الترقب التى تصاحب بدايات الأعوام. وكثيرون يتعاملون مع هذه التوقعات بوصفها قراءة عامة للمستقبل، لكنها فى الوقت نفسه تلبى رغبة إنسانية شائعة لدى البعض فى الاطمئنان لما هو قادم، فالبعض يقرؤها بحثًا عن دفعة أمل، وآخرون بدافع الفضول، بينما يكتفى فريق ثالث بمتابعتها كطقس سنوى، لا ينفصل عن أجواء البدايات الجديدة. ومع هذا الزخم، تتحول الأبراج إلى جزء من مشهد استقبال العام الجديد، إلى جانب قوائم الأمنيات، والقرارات المؤجلة، ومحاولات تصحيح المسار، وهو ما يفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية، وهي: متى تبقى الأبراج فى إطار التسلية، وهل تتحول إلى قناع يؤثر فى رؤية المستقبل. ويحرص كثيرون على التأكيد أنهم لا يأخذون الأبراج على محمل الجد، وغالبًا ما يصفونها بأنها «تسلية»، أو فقرة خفيفة تُقرأ فى دقائق للاستمتاع، لكن هذا التوصيف لا يعكس دائمًا طريقة التعامل الفعلية معها فى الحياة اليومية. فمع تكرار القراءة، وتزامن بعض التوقعات مع أحداث واقعية، يبدأ الخط الفاصل بين المتعة والتصديق فى التلاشى، وتؤوّل العبارات العامة، لتتحول تدريجيًا إلى مرجع غير معلن، يستدعى عند اتخاذ قرارات بسيطة، أو تفسير تقلبات المزاج، أو تبرير أحداث مفاجئة. ولا يحدث هذا الانتقال مرة واحدة، ولكن عبر تراكم هادئ. فالقارئ لا يسلم بالأبراج بوصفها حقيقة مطلقة لدى كثيرين، لكنه يمنحها مساحة ذهنية متزايدة، تسمح لها بالتأثير، حتى وإن ظل ذلك فى إطار غير معلن أو غير مقصود. ومع الوقت، تتغير طبيعة العلاقة مع الأبراج، فبدلًا من الاكتفاء بالقراءة العامة، يبدأ البعض فى متابعة تفاصيل أدق، أو انتظار التوقعات فى مواعيد محددة، خاصة فى فترات القلق أو الترقب، كالبدايات الجديدة أو المنعطفات الشخصية. هنا تصبح الأبراج أقرب إلى لغة نفسية مشتركة، تقدم تفسيرًا جاهزًا لما يحدث، وتمنح شعورًا بالترتيب وسط واقع متقلب، وبينما يرى البعض فى ذلك تسلية بريئة، يراه آخرون مساحة رمادية يصعب تحديد حدودها بدقة. تأثير التوقعات لا يتوقف تأثير الأبراج عند حدود القراءة أو المتابعة، بل يمتد أحيانًا إلى تفاصيل الحياة اليومية، وإن بدا ذلك فى صور بسيطة. فبعض القراء يعترفون بأنهم يتعاملون مع التوقعات باعتبارها «إشارة» أكثر منها توجيهًا مباشرًا، فيؤجلون قرارًا، أو يعيدون التفكير فى خطوة، أو يتعاملون بحذر إضافى مع يوم وصف فى التوقعات بأنه «متقلب». هذا التأثير غالبًا ما يكون نفسيًا، فحين يتزامن توقع سلبى مع شعور مسبق بالقلق، يعزز ذلك الإحساس ويمنحه مبررًا، بينما تعمل التوقعات الإيجابية على رفع المعنويات ومنح قدر من الثقة، حتى وإن لم تستند إلى أساس واقعي. ويزداد هذا الحضور فى فترات البدايات، خاصة مع مطلع عام جديد، حيث يكون الاستعداد النفسى للتغيير فى ذروته، وفى هذه اللحظات، تصبح الأبراج جزءًا من محاولة ترتيب الأفكار واستشراف القادم، لا بوصفها أداة حاسمة، بل كإطار عام يسقط عليه الواقع الشخصي.
البدايات بطبيعتها تحمل قدرًا من القلق والترقب، وهو ما يجعل الإنسان أكثر قابلية لتلقى الرسائل العامة وتفسيرها بما يتناسب مع حالته، وهنا تجد توقعات الأبراج مساحة أوسع للتأثير، باعتبارها تقدم لغة مبسطة للمستقبل، وتخفف، ولو مؤقتًا، من وطأة المجهول. وبينما يرى البعض فى هذا التأثير مجرد انعكاس للحالة النفسية، يتعامل آخرون معه بوصفه عاملًا مساعدًا فى توجيه قرارات، يفترض أنها شخصية بالكامل، حتى ولو على مستوى غير مباشر. وفى مقابل هذا التأثير النفسى، يبرز رأى علمى حاسم يضع الظاهرة فى إطار مختلف. صناعة الوهم يوضح دكتور أشرف تادروس، أستاذ الفيزياء الفلكية، أن ما يعرف بالأبراج لا يستند إلى أسس علم الفلك، وأن حركة الأجرام السماوية، تدرس علميًا بمعزل تام عن التوقعات الشخصية أو اليومية، التى تنسب إليها فى خطاب التنجيم المتداول. ومن هذا المنطلق، يشير الدكتور أشرف تادروس، إلى ضرورة التفرقة بين علم الفلك، بوصفه علمًا قائمًا على الرصد والحسابات الدقيقة، وبين التنجيم الذى يقدم فى صورة توقعات عامة، لا تعتمد على منهج علمى معترف به، خاصة فى فترات الذروة مثل بدايات الأعوام الجديدة. ومع بداية كل عام جديد، تعود توقعات الأبراج إلى الواجهة، ويتجدد الحديث عن الحظ والمستقبل وما تحمله الشهور القادمة، وفى هذا التوقيت تحديدًا، يبرز الخلط بين علم الفلك، بوصفه علمًا دقيقًا، وبين التنجيم الذى يقدم فى صورة توقعات عامة عن حياة الأفراد. ويوضح تادروس، أن الفلك يعد من أدق العلوم الأساسية، ويعتمد بشكل كامل على الفيزياء والرياضيات والرصد العلمى، بينما التنجيم لا يصنف علمًا على الإطلاق، بل يندرج ضمن ممارسات تهدف إلى استقراء الغيب، على غرار قراءة الكف أو الفنجان، وهى أمور لا تستند إلى أى منهج علمى معترف به. ويشير تادروس، إلى أن التنجيم، لو كان علمًا حقيقيًا، لأصبح جزءًا من المناهج الأكاديمية، التى يدرسها المتخصصون فى أقسام الفلك بكليات العلوم، مؤكدًا أن الفلكيين المعتمدين هم خريجو هذه الأقسام، والحاصلون على درجات علمية موثقة، بينما لا ينتمى من يقدمون أنفسهم ك «خبراء أبراج» إلى المجتمع العلمى من قريب أو بعيد. من الناحية الفلكية، يوضح أستاذ الفلك، أن ما يعرف بالأبراج 12، هو فى الأصل مجموعات نجمية من بين 88 كوكبة معترف بها دوليًا، أقرها الاتحاد الدولى الفلكى فى بدايات القرن العشرين. وما يميز هذه المجموعات الاثنتا عشرة، هو وقوعها على امتداد المسار الظاهرى لحركة الشمس، المعروف بدائرة البروج. لكن هذا التصنيف الفلكى، بحسب تادروس، لا يحمل أى دلالة على مصير الإنسان أو سلوكه أو حظه، مشددًا على أن ربط حياة البشر بمواقع النجوم هو ادعاء لا أساس له علميًا، وأن من يروجون له يخرجون عن إطار العلم إلى التنجيم. كما يلفت إلى أن التغيرات الفلكية الطبيعية، الناتجة عن الحركة الدورية للأرض حول نفسها وحول الشمس عبر آلاف السنين، أدت إلى تغير المواقع الفعلية للأبراج فى السماء. ووفقًا للتقسيم الفلكى المعتمد حاليًا، لم تعد الشمس تمر فى الأبراج خلال الفترات المتداولة فى صفحات التوقعات، بل تغيرت تواريخها، مع ظهور برج إضافى هو برج الحواء «حامل الثعبان»، الواقع بين برجى العقرب والقوس والذى يمتد من 30 نوفمبر حتى 18 ديسمبر. فبحسب التقسيم الفلكى المعتمد حاليًا، فإن تواريخ الأبراج لم تعد كما هو متداول فى صفحات التوقعات، حيث تمر الشمس فعليًا عبر الأبراج وفق ترتيب مختلف. ويشير أستاذ الفيزياء الفلكية، إلى أن تجاهل هذا التغير، والاستمرار فى الاعتماد على تقسيمات قديمة، يكشف فجوة واضحة بين الواقع الفلكى الحقيقى وما يقدم فى صفحات الأبراج، مؤكدًا أن المنجمين يتجاهلون هذه الحقائق العلمية، ويواصلون تقديم تقسيمات لا تعكس الوضع الفعلى للأجرام السماوية. تأثيرات وهمية فيما يتعلق بالظواهر الفلكية، يؤكد دكتور أشرف، أن معظمها يحدث ليلًا ولا يشكل أى تأثير على الإنسان أو نشاطه اليومى، بل تمثل متعة بصرية لهواة الفلك والمهتمين بالفضاء، ويتعلق الاستثناء الوحيد بالظواهر المرتبطة مباشرة بالشمس، مثل ظاهرة الكسوف، التى تتطلب احتياطات خاصة عند الرصد. ويشدد تادروس، على أن هذه الظواهر، على اختلافها، لا ترتبط بأى شكل من الأشكال بحياة الإنسان اليومية أو مستقبله، ولا تؤثر على سلوكه أو قراراته، وأن الربط بين الأمرين لا يستند إلى العلم. وحول الحد الفاصل بين الترفيه المقبول والخلط بين العلم والتنجيم، يوضح الدكتور أشرف تادروس، أن كثيرًا من توقعات الأبراج تعتمد على صفات عامة تصلح للتطبيق على عدد كبير من الناس، وهو ما يمنحها إحساسًا ظاهريًا بالدقة.
ويشرح ذلك بمثال إحصائى بسيط، مفاده أنه إذا تم جمع عينة كبيرة من مواليد برج معين، وسؤالهم عن صفات شائعة مثل حب الألوان، أو الميل إلى الهدوء أو العصبية، أو تفضيل العمل الفردى أو الجماعى، فستظهر بطبيعة الحال نسب متفاوتة، وعندما تميل نسبة أكبر ولو بفارق بسيط إلى صفة بعينها، يتم تعميمها وتقديمها باعتبارها سمة مميزة لهذا البرج. هذا النوع من التعميم، كما يشير تادروس، لا يكشف علاقة حقيقية بين موقع النجوم وسلوك الإنسان، بل يستند إلى قراءة انتقائية للأرقام، تصاغ لاحقًا فى شكل توقعات أو أوصاف تبدو منطقية، لكنها فى جوهرها لا تتجاوز كونها تعميمات فضفاضة تقدم فى إطار تنجيمى لا يستند إلى العلم. وأوضحت آمال أحمد، الإخصائية النفسية، أن الميل لتصديق العبارات العامة، مثل توقعات الأبراج، يرتبط بما يعرف نفسيًا بتأثير «الإسقاط»، حيث يبحث الفرد لا شعوريًا عن جمل تعبر عنه أو تلامس مشاعره، وبسبب صياغتها المرنة، يستطيع كل شخص أن يجد نفسه داخل النص، فيشعر بأن الحديث موجه إليه تحديدًا، وهو ما يعزز الإحساس بالمصداقية، حتى فى غياب دلائل واقعية. وقالت آمال، إن هذا التأثير يزداد فى فترات القلق أو الترقب، خاصة مع البدايات الجديدة، مثل مطلع عام جديد أو مرحلة انتقالية فى الحياة. ففى هذه اللحظات، يصبح الإنسان أكثر استعدادًا لتلقى الرسائل التى تعده بتحسن أو تحذره من مخاطر محتملة، باعتبارها وسيلة نفسية للتعامل مع عدم اليقين المصاحب للمستقبل. ترى آمال أحمد، أن متابعة الأبراج تمنح بعض الأشخاص شعورًا مؤقتًا بالسيطرة على المجهول، حيث تقدم تصورًا مبسطًا لما قد يحدث، حتى وإن كان عامًا وغير محدد، ولا يعنى هذا الإحساس بالضرورة تصديقًا كاملًا، لكنه يعمل كآلية نفسية لخفض التوتر، عبر تحويل المستقبل من مساحة غامضة إلى سيناريو يمكن تخيله أو الاستعداد له. وحذرت الإخصائية النفسية، من أن هذا التأثير قد يتحول إلى عقبة حين تبدأ التوقعات، فى لعب دور حاسم فى اتخاذ القرارات اليومية، أو حين يربط المزاج العام للشخص بما يقرؤه عن برجه، ففى هذه الحالة، قد يفقد الفرد جزءًا من ثقته فى قدرته على الاختيار المستقل، ويصبح أكثر اعتمادًا على مصادر خارجية لتفسير ما يمر به. أكدت آمال أحمد، أن الأبراج قد تؤدى لدى البعض دورًا نفسيًا مؤقتًا، بوصفها وسيلة للتهدئة أو البحث عن الطمأنينة، لكنها لا يمكن أن تكون بديلًا دائمًا عن الوعى الذاتى أو مواجهة الواقع، فالتعامل معها فى إطار التسلية يختلف عن منحها سلطة غير مباشرة على التفكير والسلوك.