محافظ القاهرة: بدء تسكين أصحاب السوق القديم لسور الأزبكية للكتب بالمكتبات الجديدة    ترامب يواجه تحديًا جديدًا: إخماد نظريات المؤامرة حول فضيحة إبستين الجنسية    فييرا: شيكابالا جزء من كنوز كرة القدم المصرية    تجديد حبس مديرة الشهر العقاري بدمنهور وعضو فنى 15 يومآ بتهمة تزوير التوكيلات    وكالة الأنباء السورية: طيران الاحتلال الإسرائيلي ينفذ غارة على محيط السويداء    محافظ الإسماعيلية يبحث الاستعدادات لانتخابات مجلس الشيوخ.. 135 مركزًا انتخابيًا لاستقبال مليون ناخب    موهبة المغرب يفضل الانتقال إلى الزمالك رغم العروض الأوروبية    أرسنال الإنجليزي يبرم أغلى صفقة في تاريخ الكرة النسائية    الإسماعيلي يعلن تجدد عقد محمد حسن حتى 2027    الصحة تنفي وفاة 5 أطفال بالمنيا بسبب الالتهاب السحائي وتؤكد: التحقيقات جارية    "الكتاب الرقمي.. فرص وتحديات النشر" في ندوة بمكتبة الإسكندرية    ناهد السباعي عن شائعة وفاة زيزي مصطفى: «عيب وحرام تخضّوا منة»    التحقيقات جارية.. «متحدث الصحة»: وفاة الأشقاء الخمسة بالمنيا ليست الالتهاب السحائي    وزير البترول يستعرض خطط «دانا غاز» التنموية بمناطق امتيازها    «الوطنية للتدريب» تحتفل بتخريج أول دفعة من قيادات وزارة العدل الصومالية    ب«أخويا» و«اتحسدنا».. إسماعيل نصرت يتعاون مجددًا مع أحمد سعد في ألبوم «بيستهبل»    ما حكم التحايل على شركات الإنترنت للحصول على خدمة مجانية؟.. أمين الفتوى يجيب    جهات التحقيق تستدعي طفل العسلية ووالده لمناقشتهما في ملابسات واقعة ضربه بالمحلة    ننشر تفاصيل الجلسة الطارئة لمجلس جامعة دمياط    جاري البحث عن أثنين ...العثور على جثة إحدى الأطفال الغارقات بأحد الترع بأسيوط    النيابة تستدعي والدي الأطفال الخمسة المتوفيين بالمنيا    تكريم وزيرة البيئة من مبادرة "أنتي الأهم" تقديرًا لاختيارها أمينًا تنفيذيًا لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر    المؤتمر: وضعنا اللمسات الأخيرة للدعاية لانتخابات مجلس الشيوخ    الرابط المباشر والمستندات المطلوبة لتنسيق أولى ثانوي 2025    نيوكاسل يناور ليفربول ويقترب من تشكيل ثنائي ناري بين إيساك وإيكيتيكي    ما حكم استخدام إنترنت العمل في أمور شخصية؟.. أمين الفتوى يجيب    ما حكم إظهار جزء من الشعر من الحجاب؟ أمين الفتوى يجيب    رسميًا.. ريال مدريد يحقق إيرادات قياسية تتجاوز 1.1 مليار يورو في موسم 2024/2025    فوائد شرب الزنجبيل والقرفة قبل النوم لصحة الجسم.. شاهد    "الصحة": تكريم وزير الصحة والسكان بجائزة القيادة من المجلس الأوروبي    وزارة الصحة تكشف نتائج التحاليل فى واقعة وفاة 5 أطفال أشقاء بمحافظة المنيا .. اعرف التفاصيل    خالد الجندي: تقديم العقل على النص الشرعي يؤدي للهلاك    حالة الطقس اليوم في السعودية.. الأجواء مشمسة جزئيًا في ساعات النهار    استعدادات مكثفة بفايد بالإسماعيلية لاستقبال مبادرة "أسماك البلد لأهل البلد"    أشرف صبحي يلتقي بوزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية    محافظ سوهاج: يتفقد مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين والوضع العام بقرية " المدمر "    ضبط 3 أشخاص لاتهامهم بغسل أموال ب90 مليون جنيه من تجارة المخدرات    تفعيل منظومة انتظار المركبات داخل مدن الأقصر وإسنا والقرنة    «التعليم» تعلن الخريطة الزمنية للعام الدراسي الجديد 2025-2026    كشف ملابسات فيديو جلوس أطفال على السيارة خلال سيرها بالتجمع - شاهد    دبلوماسي إثيوبي يفضح أكاذيب آبي أحمد، ومقطع زائف عن سد النهضة يكشف الحقائق (فيديو)    بين التحديات الإنتاجية والقدرة على الإبداع.. المهرجان القومي للمسرح يناقش أساليب الإخراج وآليات الإنتاج غير الحكومي بمشاركة أساتذة مسرح ونقاد وفنانين    في 6 خطوات.. قدم تظلمك على فاتورة الكهرباء إلكترونيًا    ليفربول يقدم عرضا ضخما إلى آينتراخت لحسم صفقة إيكيتيتي    هل الخوف فطرة أم قلة إيمان وعدم ويقين بالله؟.. محمود الهواري يجيب    ارتفاع حصيلة ضحايا حريق مول «هايبر ماركت» في العراق ل63 حالة وفاة و40 إصابة (فيديو)    وفاة والدة النجمة هند صبري    احتفالاً بالعيد القومي لمحافظة الإسكندرية.. فتح المواقع الأثرية كافة مجانا للجمهور    نائب وزير الصحة يعقد الاجتماع الثالث للمجلس الأعلى لشباب مقدمى خدمات الرعاية الصحية    اليوم.. بيراميدز يواجه الرجاء المطروحي وديًا قبل السفر إلى تركيا    أوكرانيا: الجيش الروسي فقد أكثر من مليون جندي منذ الحرب    الاحتلال يفرض حظر تجول ويدمر منازل جنوبي جنين في الضفة الغربية    ذات يوم 17 يوليو 1926 ..طه حسين يدخل معركة «العلم والدين» ويعلن: «ليس إلى التقاهما سبيل والمنفعة أن يتحقق انفصالهما.. والمخدوعون هم الذين يحاولون التوفيق بينهما»    مصرع شخص وإجلاء أكثر من 100 جراء أمطار غزيرة فى كوريا الجنوبية    «الصناعة» تدعو المستثمرين للتسجيل بمنصة المنتجات الصناعية والتعدينية العربية    كلية تربية حلوان تحصد المركز الأول في المشروع القومي لمحو الأمية للعام الثالث    زلزال يضرب اليونان الآن    ترغب في تواجدها بجانبك.. 3 أبراج هي الأشجع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تَحْوِيلُ القِبْلَة.. وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى
نشر في مصر الجديدة يوم 20 - 06 - 2013


فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين
رسالة من : أ.د. محمد بديع
المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد..
فإنَّ حادثة تحويل القبلة لم تكن حدثًا عاديًّا عَبَر بالأمَّة المسلمة، بل كان نقطة تحول كبيرة، اُختبِر فيها المؤمنون ومن حولهم من المنافقين واليهود الذين جاوروهم في المدينة بعد الهجرة..
لقد كانت الجماعة المؤمنة في مكة قبل الهجرة جماعةً مُنتقاة، اختارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فردًا فردًا، رجالاً ونساءً.. "الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا"، وأعطاهم قدرًا عاليًا من التربية والتهذيب، وسرى فيهم نور الوحي المنزَّل من السماء، وهَدْي الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم.
ورغم الكيد والمكر والسخرية والاستهزاء والاضطهاد والتعذيب.. الذي استمر ثلاثة عشر عامًا.. خرج أعظمُ جيلٍ عرفته البشرية خُلُقاً وعَزْمًا، طُهْرًا ونقاءً، صفاءَ عقيدة وسُموَّ سلوك.. صلةً بالله لا تنقطع، وامتثالاً لأمر الله بغير تردُّد، وثبات على دين الله مهما بلغ العنت والإرهاق.. "كيف ترى قلبك قال مطمئن بالإيمان" مصدر اطمئنانه هو الإيمان، والإيمان فقط.
اختلف الأمر في المدينة المنوَّرة بعد هجرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إليها، فرغم أنها –في مجموعها– استقبلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع استقبال وأحسنه، وأسلمت وحسن إسلامها وانقيادها لرسول الله واستجابت لأوامره، وقدم الأنصار أروع الأمثلة في الإيثار لم تعرف البشرية مثله مدحهم القرآن الكريم بثناء ربِّ العزة عليهم، وكان نشيدهم يدلُّ على ذلك..
أَيُّهَا المَبْعُوثُ فِينَا *** جِئْتَ بِالأَمْرِ المُطَاع
إلا أن المجتمع في المدينة كان متباينًا تباينًا شديدًا في مدى الإيمان والهدى والاستجابة والطاعة..
· كان هناك السابقون بالإيمان.. من أصحاب بيعة العقبة الأولى والثانية، وهؤلاء كان لهم فضلهم ومكانتهم؛ لِسَبْقِهم وسرعة استجابتهم، وحملهم أمانة الدعوة في بداياتها؛ ولهذا أخذوا هذا الوصف الكريم – مع إخوانهم المهاجرين {والسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ والأَنصَارِ والَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ وأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [التوبة: 100].
· وكان هناك عموم أهل المدينة من الأوس والخزرج والذين دخل الإسلام كل بيت من بيوتهم، ووجدوا في الإسلام نعمة الهدى بعد الضلال، ونعمة الوحدة بعد الشقاق والخلاف، ونعمة الأمن بعد التنازع والحروب.. وهم الذين رَحَّبوا بإخوانهم المهاجرين واستضافوهم وآثروهم على أنفسهم {والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ والإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ ولا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
· وكان هناك اليهود وهم الذين تجمعوا في المدينة انتظارًا لبعثة نبيِّ آخر الزمان؛ لتأكدهم من كتبهم بيقين بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بصفاته الخلقية والخلقية، وأنهم (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وإنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة: 146).
وكانوا يظنون أنه سيأتي منهم لينصرهم على من خالفهم من المشركين، وكانوا يشعلون الحروب ويثيرون الجدل والخلاف بين الأوس والخزرج، فلما جاء النبي الخاتم من غيرهم أكل الحسد والحقد قلوبهم، رغم يقينهم أنه النبي الخاتم {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ولِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [البقرة: 90].
· وظهرت فئة رابعة من المنافقين من عرب المدينة، من الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، وامتلأت قلوبهم حقدًا لما فاتهم من المصالح المادية والمكانة الاجتماعية، فقد كانوا في صدارة أهل المدينة، وكان بعضهم يوشك أن يُنصَّب ملكًا عليهم، فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وتغيَّر الوضع صار حَربًا على رسول الله ورأسًا للنفاق...
وأمام هذا التنوع والاختلاف، كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجتمع المسلم الناشئ أن يتعامل مع كل طائفة بما يناسبها وبالحكمة والموعظة الحسنة، فاستمرت الدَّعوة المباركة تسمو بمجموع أهل المدينة وترتقي بهم، وتُنَظِّم الشريعة أحوالهم ومعيشتهم... وعُقِدت العهود مع كل قبائل اليهود للتعايش وحفظ الحقوق... وعومل المنافقون حسب ظواهرهم مع استمرار الوعظ والتبليغ {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وعِظْهُمْ وقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} [النساء: 63].
في مكة – حينما فُرِضَت الصلاة – كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي في الكعبة المشرفة بين الركنين مستقبلاً لبيت المقدس، فكان يجمع بين الكعبة قبلة أبويه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، واستقبال بيت المقدس – قبلة الأنبياء من قبله، فلما انتقل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أُمِرَ أن يُصلِّي إلى بيت المقدس في الشمال، ويدع الكعبة المشرفة – كان الأمر شاقًّا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين معه من العرب– مهاجرين وأنصار، ولكن لم يكن هناك غير الاستجابة لأمر الله تعالى ومخالفة هوى النفوس، حتى وإن كانت في الطاعة... تحقيقًا للعبودية الكاملة، والإخلاص والتجرد لله رب العالمين {ومَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وإن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143]، وظلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المؤمنون الصادقون يُصَلُّون إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا كاملة.. لم يسلموا فيها من تَهَكُّم اليهود الذين قالوا: "يخالف ديننا ويتبع قبلتنا"، وقالوا: "يوشك أن يترك دينه إلى ديننا، كما ترك قبلته إلى قبلتنا".
ثم جاء أمر الله تعالى بتحويل القبلة – بعد أن خلصت النفوس المؤمنة لله ربِّ العالمين، وتجرَّدت من هوى النفس ونزعات العصبية والقبلية، فنزل قول الله تعالى {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]... واستجاب الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون لهذا الأمر في التوِّ واللحظة، حتى إنهم حوَّلوا أنفسهم وهم في الصلاة – إلى الوجهة الجديدة والأصيلة.. إلى بيت الله الحرام وإلى الكعبة المشرفة..
وهذا يعني أنك إذا أخلصت النيَّة والتوجه إلى الله تعالى، وخلصت من حظِّ نفسك أعطاك الله سبحانه ما تُحِبُّ وترغب وزيادة بالأجر والثواب "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين".
وهنا اشتعلت قلوب اليهود غيظًا وحقدًا، وانطلقوا –ومعهم ضعاف النفوس من المنافقين– يُرجفون في المدينة، يثيرون الشبهات، ويشعلون الجدل {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا ولاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ المَشْرِقُ والْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142].
وها هي نوعيات من إشاعات وكذب وتضليل المرجفين في المدينة، فقالوا: إن تغيير القبلة يعني أن هذا الدين ليس من عند الله، بل هو من عند مُحَمَّدٍ يُغيِّر فيه كيف يشاء... وقالوا - وكأنهم حريصون على صحة صلاة المسلمين - : "لو كانت القبلة الأولى هي القبلة الصحيحة لفسدت الصلاة الحالية، ولو كانت خطأً فقد ضاع على المسلمين الذين ماتوا ثواب صلاتهم السابقة".
وردَّدوا هذا الإفك ومعهم المنافقون –لِبَلْبَلَة المؤمنين، فكان قول الله تعالى {ومَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ إنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 143] ... ثم بينَّ الله تعالى في محكم آياته أن العبرة ليست بشكل العبادة واتجاهها؛ وإنما بتَوَجُّه القلوب إلى الله تعالى {لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ والْمَغْرِبِ ولَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ والْمَلائِكَةِ والْكِتَابِ والنَّبِيِّينَ وآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى والْيَتَامَى والْمَسَاكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ والسَّائِلِينَ وفِي الرِّقَابِ وأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ والْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا والصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ وحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
وبيَّن سبحانه وتعالى أن بلبلة اليهود ومن تابعهم ليست غِيرةً على الدين، وإنما استغلالاً للفرص؛ للتشويه والتزييف وتفريق المؤمنين {وإنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ومَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * ولَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ومَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ومَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ولَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ إنَّكَ إذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وإنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ * ولِكُلٍّ وجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة: 144 -148].
كل هذه الآيات الكريمات نزلت في هذه الحادثة؛ لنستخلص منها العِبْرة، ونُصَحِّح المسار، ونتعلم كيف يكون التعامل مع كل طوائف المجتمع كلٌّ حسب موقعه ومواقفه... وقد يتغير الأسلوب حسب الظروف والأحوال والمواقف حتى من صفته الغدر ونقض العهد كان التوجيه (وإمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الخَائِنِينَ) (الأنفال: 58).
· مع المؤمنين دوام التذكير بوجوب الطاعة، والاستجابة في المنشط والمكره، وعدم اتباع الهوى، بل مقاومة الهوى "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به" {يَا دَاوُودُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]، (فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء: 65).
· مع المخالفين في العقيدة.. مقارعة الحُجَّة بالحُجَّة، مع أخذ الحذر منهم وتجنُّب أراجيفهم؛ لأنهم لن يرضوا عنا أبدًا {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ ولا يُحِبُّونَكُمْ وتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وإذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وإذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ} [آل عمران: 119]، {ودُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ومَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [ آل عمران: 118].
هذا مع العدل بينهم وعدم ظلمهم أو انتقاص حقوقهم {ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8]، ومَنْ تعامل بالحُسنى يُعامل بأحسن منها {وإذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، ولا ننسى أن هناك من تبيَّن له الحق واستجاب لدعوة الله عز وجل من كبار أحبارهم وعلمائهم ورهبانهم... {وإذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83]... {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ويَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [القصص: 54].
هكذا يكون تعامل المسلمين الصادقين أتباع الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم مع كل مواقف الحياة ومع كل طوائف البشر... بُغْيَة الهداية والإصلاح لكل الناس، نثبت على ديننا ومبادئنا ونتجرَّد عن الهوى، وفي الوقت نفسه لا نحمل حقدًا، ولا نجادل أحدًا إلا بالحسنى، ولا ننافس أحدًا في لُعَاعات الدنيا.. حتى ما قدَّر الله أن نتحمله من أعباء ومسئوليات هي ليست مغانم بل مغارم، فنحن نتحمل المسئولية نيابة عن الناس ونحمل الخير للناس، كما وصفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كالنَّحْلَة تتعب وتجمع الرحيق من كل الزهور، وتخرج عسلا غذاء وشفاء للناس، بل نبغي الهداية والخير لكل الناس {وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. وهذه هي مسئولية الدولة المسلمة عن جميع رعاياها مهما اختلفت توجهاتهم، عدلاً ورحمة للجميع .
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..
والله أكبر ولله الحمد،،


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.