أخبار مصر اليوم: إعلان مواعيد جولة الإعادة بالمرحلة الثانية بانتخابات النواب.. تفعيل خدمة الدفع الإلكتروني بالفيزا في المترو.. ورئيس الوزراء: لا تهاون مع البناء العشوائي في جزيرة الوراق    رئيس شئون البيئة ل الشروق: نسعى لاستقطاب أكبر حجم من التمويلات التنموية لدعم حماية السواحل وتحويل الموانئ إلى خضراء    رئيس شعبة الدواجن بالجيزة يحذر من الفراخ السردة: اعدموها فورا    رئيس بولندا يعارض فكرة توسك بدفع وارسو تعويضات لضحايا الحرب بدلا من ألمانيا    أسامة كمال لمنتقدي تسليح الدولة: لولا السلاح لما كان هناك طعام    استمرار تعثر خطة الصين لبناء سفارة عملاقة في لندن    الدوري الإنجليزي، نيوكاسل يتعادل 2-2 أمام توتنهام في مباراة مثيرة    مجموعة مصر: موعد مباراة الأردن والإمارات في كأس العرب والقنوات الناقلة    بحضور البطل الأوليمبي كرم جابر..وكيل الشباب بالدقهلية يشهد تدريبات المصارعة بالمشروع القومي للموهبة    ارتفاع عدد ضحايا حريق سوق الخواجات بالمنصورة إلى 5 وفيات و13 مصابا (صور)    بينهم أطفال وسيدات.. 9 مصابين في حادث تصادم مروع بمركز إطسا بالفيوم    إخلاء سبيل النائبة السابقة منى جاب الله بكفالة 30 ألف جنيه في قضية دهس شاب    محافظ الدقهلية يتابع جهود السيطرة على حريق في سوق الخواجات بالمنصورة    نقيب الإعلاميين يستعرض رؤية تحليلية ونقدية لرواية "السرشجي" بنقابة الصحفيين    فيروز تتصدر تريند مواقع التواصل الاجتماعي.. والسبب غريب    تراث وسط البلد رؤية جديدة.. ندوة في صالون برسباي الثقافي 7 ديسمبر الجاري    1247 مستفيدًا من قوافل صحة دمياط بكفر المرابعين رغم سوء الطقس    بنك التعمير والإسكان يوقع مذكرة تفاهم مع مدرسة فرانكفورت    بابا الفاتيكان يعرب عن أمله في أن تكون رحلته الخارجية المقبلة إلى إفريقيا    «القومى للمرأة» ينظم الاجتماع التنسيقي لشركاء الدعم النفسي لبحث التعاون    أحمد فهمي يحسم الجدل حول ارتباطه بأسماء جلال    أجواء حماسية والمنافسة تشتعل يين المرشحين في انتخابات النواب بقنا    بعد فرض ارتدائها في بعض المدارس.. الصحة: الكمامات تقتصر على الطلاب المصابين بالفيروسات التنفسية    القطاع الخاص يعرض تجربته في تحقيق الاستدامة البيئية والحياد الكربوني    واشنطن تكثّف حربها على تهريب المخدرات: "بدأنا للتو"    غياب الكرتي ومروان.. قائمة بيراميدز لمواجهة كهرباء الإسماعيلية في الدوري    متسابقة بكاستنج تبكى من الاندماج فى المشهد واللجنة تصفق لها    وكيل الأوقاف: المسابقة العالمية للقرآن الكريم حدث فريد يجمع الروحانية والتميز العلمي    لميس الحديدي بعد واقعة "سيدز": لازم الكاميرات تُعمم على كل المدارس    القانون يحسم جواز بقاء الأيتام رغم بلوغهم السن القانونية.. تفاصيل    السعودية تتفوق على عمان 2-1 في افتتاح مشوارها بكأس العرب 2025    كارمن يمثل مصر في المسابقة الرسمية لمهرجان المسرح العربي 2026    تعرف على التفاصيل الكاملة لألبوم رامي جمال الجديد "مطر ودموع"    تشكيل أتلتيكو مدريد أمام برشلونة في الدوري الإسباني    ما حكم المراهنات الإلكترونية؟.. أمين الفتوى يجيب    مرموش على مقاعد بدلاء مانشستر سيتي أمام فولهام في البريميرليج    استثمارات فى الطريق مصانع إنجليزية لإنتاج الأسمدة والفواكه المُبردة    بشكل مفاجئ .. ترامب يصدر عفوا رئاسيا عن رئيس هندوراس السابق    وزير خارجية ألمانيا: كييف ستضطر إلى تقديم "تنازلات مؤلمة" من أجل السلام    نتائج المرحلة الثانية لانتخابات مجلس النواب 2025 في كفر الشيخ    إحلال وتجديد طريق ترعة الرشيدية بالمحمودية بتكلفة 2.7 مليون جنيه    مكتبة مصر العامة تنظم معرض بيع الكتب الشهري بأسعار رمزية يومي 5 و6 ديسمبر    وزير الري: تنسيق مستمر بين مصر والسنغال في مختلف فعاليات المياه والمناخ    الصحة: استراتيجية توطين اللقاحات تساهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي    رمضان عبدالمعز: الإيمان يرفع القدر ويجلب النصر ويثبت العبد في الدنيا والآخرة    موعد صلاه العشاء..... مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 2ديسمبر 2025 فى المنيا    صحة الوادى الجديد تنفذ عدد من القوافل الطبية المجانية.. اعرف الأماكن    بالصور.. الوطنية للانتخابات: المرحلة الثانية من انتخابات النواب أجريت وسط متابعة دقيقة لكشف أي مخالفة    الطقس غدا.. انخفاضات درجات الحرارة مستمرة وظاهرة خطيرة بالطرق    تركيا: خطوات لتفعيل وتوسيع اتفاقية التجارة التفضيلية لمجموعة الثماني    أمن المنافذ يضبط 47 قضية متنوعة خلال 24 ساعة    ضبط قضايا اتجار غير مشروع بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة قيمتها 6 ملايين جنيه    وزير الصحة يبحث مع وزير المالية انتظام سلاسل توريد الأدوية والمستلزمات الطبية    الإحصاء: 37.1 مليار متر مكعب كمية المياه المستخدمة فى رى المحاصيل الزراعية 2024    يلا شوووت.. هنا القنوات الناقلة المفتوحة تشكيل المغرب المتوقع أمام جزر القمر في كأس العرب 2025.. هجوم ناري يقوده حمد الله    سامح حسين: لم يتم تعيينى عضوًا بهيئة تدريس جامعة حلوان    بث مباشر الآن.. متابعة لحظة بلحظة لمباراة السعودية وعُمان في افتتاح مواجهات كأس العرب 2025    أدعية الفجر.. اللهم اكتب لنا رزقًا يغنينا عن سؤال غيرك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تَحْوِيلُ القِبْلَة.. وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى
نشر في مصر الجديدة يوم 20 - 06 - 2013


فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين
رسالة من : أ.د. محمد بديع
المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد..
فإنَّ حادثة تحويل القبلة لم تكن حدثًا عاديًّا عَبَر بالأمَّة المسلمة، بل كان نقطة تحول كبيرة، اُختبِر فيها المؤمنون ومن حولهم من المنافقين واليهود الذين جاوروهم في المدينة بعد الهجرة..
لقد كانت الجماعة المؤمنة في مكة قبل الهجرة جماعةً مُنتقاة، اختارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فردًا فردًا، رجالاً ونساءً.. "الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا"، وأعطاهم قدرًا عاليًا من التربية والتهذيب، وسرى فيهم نور الوحي المنزَّل من السماء، وهَدْي الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم.
ورغم الكيد والمكر والسخرية والاستهزاء والاضطهاد والتعذيب.. الذي استمر ثلاثة عشر عامًا.. خرج أعظمُ جيلٍ عرفته البشرية خُلُقاً وعَزْمًا، طُهْرًا ونقاءً، صفاءَ عقيدة وسُموَّ سلوك.. صلةً بالله لا تنقطع، وامتثالاً لأمر الله بغير تردُّد، وثبات على دين الله مهما بلغ العنت والإرهاق.. "كيف ترى قلبك قال مطمئن بالإيمان" مصدر اطمئنانه هو الإيمان، والإيمان فقط.
اختلف الأمر في المدينة المنوَّرة بعد هجرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إليها، فرغم أنها –في مجموعها– استقبلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع استقبال وأحسنه، وأسلمت وحسن إسلامها وانقيادها لرسول الله واستجابت لأوامره، وقدم الأنصار أروع الأمثلة في الإيثار لم تعرف البشرية مثله مدحهم القرآن الكريم بثناء ربِّ العزة عليهم، وكان نشيدهم يدلُّ على ذلك..
أَيُّهَا المَبْعُوثُ فِينَا *** جِئْتَ بِالأَمْرِ المُطَاع
إلا أن المجتمع في المدينة كان متباينًا تباينًا شديدًا في مدى الإيمان والهدى والاستجابة والطاعة..
· كان هناك السابقون بالإيمان.. من أصحاب بيعة العقبة الأولى والثانية، وهؤلاء كان لهم فضلهم ومكانتهم؛ لِسَبْقِهم وسرعة استجابتهم، وحملهم أمانة الدعوة في بداياتها؛ ولهذا أخذوا هذا الوصف الكريم – مع إخوانهم المهاجرين {والسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ والأَنصَارِ والَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ وأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [التوبة: 100].
· وكان هناك عموم أهل المدينة من الأوس والخزرج والذين دخل الإسلام كل بيت من بيوتهم، ووجدوا في الإسلام نعمة الهدى بعد الضلال، ونعمة الوحدة بعد الشقاق والخلاف، ونعمة الأمن بعد التنازع والحروب.. وهم الذين رَحَّبوا بإخوانهم المهاجرين واستضافوهم وآثروهم على أنفسهم {والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ والإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ ولا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
· وكان هناك اليهود وهم الذين تجمعوا في المدينة انتظارًا لبعثة نبيِّ آخر الزمان؛ لتأكدهم من كتبهم بيقين بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بصفاته الخلقية والخلقية، وأنهم (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وإنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة: 146).
وكانوا يظنون أنه سيأتي منهم لينصرهم على من خالفهم من المشركين، وكانوا يشعلون الحروب ويثيرون الجدل والخلاف بين الأوس والخزرج، فلما جاء النبي الخاتم من غيرهم أكل الحسد والحقد قلوبهم، رغم يقينهم أنه النبي الخاتم {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ولِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [البقرة: 90].
· وظهرت فئة رابعة من المنافقين من عرب المدينة، من الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، وامتلأت قلوبهم حقدًا لما فاتهم من المصالح المادية والمكانة الاجتماعية، فقد كانوا في صدارة أهل المدينة، وكان بعضهم يوشك أن يُنصَّب ملكًا عليهم، فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وتغيَّر الوضع صار حَربًا على رسول الله ورأسًا للنفاق...
وأمام هذا التنوع والاختلاف، كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجتمع المسلم الناشئ أن يتعامل مع كل طائفة بما يناسبها وبالحكمة والموعظة الحسنة، فاستمرت الدَّعوة المباركة تسمو بمجموع أهل المدينة وترتقي بهم، وتُنَظِّم الشريعة أحوالهم ومعيشتهم... وعُقِدت العهود مع كل قبائل اليهود للتعايش وحفظ الحقوق... وعومل المنافقون حسب ظواهرهم مع استمرار الوعظ والتبليغ {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وعِظْهُمْ وقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} [النساء: 63].
في مكة – حينما فُرِضَت الصلاة – كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي في الكعبة المشرفة بين الركنين مستقبلاً لبيت المقدس، فكان يجمع بين الكعبة قبلة أبويه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، واستقبال بيت المقدس – قبلة الأنبياء من قبله، فلما انتقل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أُمِرَ أن يُصلِّي إلى بيت المقدس في الشمال، ويدع الكعبة المشرفة – كان الأمر شاقًّا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين معه من العرب– مهاجرين وأنصار، ولكن لم يكن هناك غير الاستجابة لأمر الله تعالى ومخالفة هوى النفوس، حتى وإن كانت في الطاعة... تحقيقًا للعبودية الكاملة، والإخلاص والتجرد لله رب العالمين {ومَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وإن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143]، وظلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المؤمنون الصادقون يُصَلُّون إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا كاملة.. لم يسلموا فيها من تَهَكُّم اليهود الذين قالوا: "يخالف ديننا ويتبع قبلتنا"، وقالوا: "يوشك أن يترك دينه إلى ديننا، كما ترك قبلته إلى قبلتنا".
ثم جاء أمر الله تعالى بتحويل القبلة – بعد أن خلصت النفوس المؤمنة لله ربِّ العالمين، وتجرَّدت من هوى النفس ونزعات العصبية والقبلية، فنزل قول الله تعالى {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]... واستجاب الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون لهذا الأمر في التوِّ واللحظة، حتى إنهم حوَّلوا أنفسهم وهم في الصلاة – إلى الوجهة الجديدة والأصيلة.. إلى بيت الله الحرام وإلى الكعبة المشرفة..
وهذا يعني أنك إذا أخلصت النيَّة والتوجه إلى الله تعالى، وخلصت من حظِّ نفسك أعطاك الله سبحانه ما تُحِبُّ وترغب وزيادة بالأجر والثواب "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين".
وهنا اشتعلت قلوب اليهود غيظًا وحقدًا، وانطلقوا –ومعهم ضعاف النفوس من المنافقين– يُرجفون في المدينة، يثيرون الشبهات، ويشعلون الجدل {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا ولاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ المَشْرِقُ والْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142].
وها هي نوعيات من إشاعات وكذب وتضليل المرجفين في المدينة، فقالوا: إن تغيير القبلة يعني أن هذا الدين ليس من عند الله، بل هو من عند مُحَمَّدٍ يُغيِّر فيه كيف يشاء... وقالوا - وكأنهم حريصون على صحة صلاة المسلمين - : "لو كانت القبلة الأولى هي القبلة الصحيحة لفسدت الصلاة الحالية، ولو كانت خطأً فقد ضاع على المسلمين الذين ماتوا ثواب صلاتهم السابقة".
وردَّدوا هذا الإفك ومعهم المنافقون –لِبَلْبَلَة المؤمنين، فكان قول الله تعالى {ومَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ إنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 143] ... ثم بينَّ الله تعالى في محكم آياته أن العبرة ليست بشكل العبادة واتجاهها؛ وإنما بتَوَجُّه القلوب إلى الله تعالى {لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ والْمَغْرِبِ ولَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ والْمَلائِكَةِ والْكِتَابِ والنَّبِيِّينَ وآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى والْيَتَامَى والْمَسَاكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ والسَّائِلِينَ وفِي الرِّقَابِ وأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ والْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا والصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ وحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
وبيَّن سبحانه وتعالى أن بلبلة اليهود ومن تابعهم ليست غِيرةً على الدين، وإنما استغلالاً للفرص؛ للتشويه والتزييف وتفريق المؤمنين {وإنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ومَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * ولَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ومَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ومَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ولَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ إنَّكَ إذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وإنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ * ولِكُلٍّ وجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة: 144 -148].
كل هذه الآيات الكريمات نزلت في هذه الحادثة؛ لنستخلص منها العِبْرة، ونُصَحِّح المسار، ونتعلم كيف يكون التعامل مع كل طوائف المجتمع كلٌّ حسب موقعه ومواقفه... وقد يتغير الأسلوب حسب الظروف والأحوال والمواقف حتى من صفته الغدر ونقض العهد كان التوجيه (وإمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الخَائِنِينَ) (الأنفال: 58).
· مع المؤمنين دوام التذكير بوجوب الطاعة، والاستجابة في المنشط والمكره، وعدم اتباع الهوى، بل مقاومة الهوى "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به" {يَا دَاوُودُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]، (فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء: 65).
· مع المخالفين في العقيدة.. مقارعة الحُجَّة بالحُجَّة، مع أخذ الحذر منهم وتجنُّب أراجيفهم؛ لأنهم لن يرضوا عنا أبدًا {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ ولا يُحِبُّونَكُمْ وتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وإذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وإذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ} [آل عمران: 119]، {ودُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ومَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [ آل عمران: 118].
هذا مع العدل بينهم وعدم ظلمهم أو انتقاص حقوقهم {ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8]، ومَنْ تعامل بالحُسنى يُعامل بأحسن منها {وإذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، ولا ننسى أن هناك من تبيَّن له الحق واستجاب لدعوة الله عز وجل من كبار أحبارهم وعلمائهم ورهبانهم... {وإذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83]... {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ويَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [القصص: 54].
هكذا يكون تعامل المسلمين الصادقين أتباع الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم مع كل مواقف الحياة ومع كل طوائف البشر... بُغْيَة الهداية والإصلاح لكل الناس، نثبت على ديننا ومبادئنا ونتجرَّد عن الهوى، وفي الوقت نفسه لا نحمل حقدًا، ولا نجادل أحدًا إلا بالحسنى، ولا ننافس أحدًا في لُعَاعات الدنيا.. حتى ما قدَّر الله أن نتحمله من أعباء ومسئوليات هي ليست مغانم بل مغارم، فنحن نتحمل المسئولية نيابة عن الناس ونحمل الخير للناس، كما وصفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كالنَّحْلَة تتعب وتجمع الرحيق من كل الزهور، وتخرج عسلا غذاء وشفاء للناس، بل نبغي الهداية والخير لكل الناس {وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. وهذه هي مسئولية الدولة المسلمة عن جميع رعاياها مهما اختلفت توجهاتهم، عدلاً ورحمة للجميع .
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..
والله أكبر ولله الحمد،،


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.