للسنة النبوية المطهرة- على صاحبها أفضل الصلاة والسلام- مكانتها فى التشريع، فهى المصدر الثانى للتشريع الإسلامى بعد القرآن الكريم، ولها منزلتها من القرآن الكريم، فهى المفضلة لمجمله، المقيدة لمطلقه، المخصصة العامة، الشارحة لأحكامه. وللسُنة النبوية دورها فى الاعتدال والوسطية من حيث البيان والتفصيل لما جاء فى القرآن الكريم، ومن حيث توضيح منهج الاعتدال والوسطية، من خلال الأحاديث النبوية، ومن تطبيقات الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لها فى المجتمع الإسلامي، ومع المسلمين، فكراً أو سلوكاً. وقد كان للتوجيهات النبوية أثرها فى إرساء أسس الاعتدال فى الأمور كلها. وكان للاعتدال والوسطية أعظم النتائج فى نشر الإسلام وفضائله، وحب الناس له، ودخولهم فى دين الله أفواجًا، بسبب اعتداله ووسطيته، وعظمته وسماحته. وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوجه المسلمين إلى منهج الاعتدال، عن أبى هريرة «رضى الله عنه» عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ) قال: دعونى ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».. رواه البخارى ومسلم. وكان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يوجه أصحابه إلى أن من أراد الاستمرار فى العبادة والعمل فعليه ألا يغالى أو يتشدد، عن عبدالله بن عمرو بن العاص «رضى الله عنهما» قال: قال لى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل». رواه البخارى ومسلم. أى: كان التشدد سببًا فى عدم استمراره على عبادته وقيامه الليل، بسبب ضعفه،فالأخذ بالاعتدال والوسطية فيه الاستمرار، والمحافظة على دوام العمل والعبادة. وكان- ( صلى الله عليه وسلم ) - ينهى عن التشدد، عن ابن مسعود- رضى الله عنه- عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ) قال: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثا. رواه مسلم. والمتنطعون هم الذين يتشددون فى غير موضع التشديد. وعن أبى هريرة - رضى الله عنه - عن النبي- ( صلى الله عليه وسلم ) - قال: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة». رواه البخاري. والمعنى: استعينوا على طاعة الله بأداء العبادة فى وقت النشاط، و «الغدوة» هى: أول النهار، و «الروحة» هىآخر النهار، و«الدلجة» هى: آخر الليل. وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا علم أن أحدا من الناس يتشدد أو يغالى حتى ولو كان فى العبادة ينهاه عن ذلك، ويوضح أن أحب الدّين إلى الله تعالى ما داوم عليه صاحبه. عن عائشة- رضى الله عنها - أن النبى - ( صلى الله عليه وسلم ) - دخل عليها وعندها امرأة قال: من هذه: قالت: هذه فلانة، تذكر من صلاتها قال: «مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا» وكان أحب الدين إليه ما دوام عليه صاحبه. رواه البخارى ومسلم. وعن أنس- رضى الله عنه- قال: دخل النبى- ( صلى الله عليه وسلم ) - المسجد، فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: «ما هذا الحبل»؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به. فقال النبي- ( صلى الله عليه وسلم ) -: «حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد» رواه البخارى ومسلم. وسطية الإسلام مفهوم الوسطية: يتحدد مفهوم الوسطية ببيان معناها اللغوى، ومعناها الاصطلاحى. فأما المعنى اللغوى: فوسط الشىء هو ما بين طرفيه. وأما المعنى الاصطلاحى: فالمراد بالوسطية : التوازن والتعادل بين الطرفين بحيث لا يطغى طرف على آخر،فلا إفراط وتفريط، ولاغلو ولا تقصير، إنما اتباع للأفضل والأعدل،و الأجود والأكمل، ولا نريد بالوسطية أن يكون الإنسان فى درجة المتوسط فى عبادته أو عمله أو سلوكه، ولا أن يكون متوسط العلم أو العمل أو السعى أو الخلق أو أنه لا يكون متقدمًا ممتازًا فى هذه الأمور، بل نريد بالوسطية الأجود والأفضل، والأكمل والأعدل، وخير الأمور أوسطها أي: أعدلها. قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً (آية143 سورة البقرة) أى عدولاً خياراً. قال تعالى: فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (آية 5 سورة العاديات) أى: تتوسط الصفوف فى المعركة. وقال سبحانه: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ (آية 89 سورة المائدة). وقال جل شأنه: قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (آية 28 سورة القلم) أى: قال أعدلهم وأصلحهم. وقال سبحانه: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (آية 238 سورة البقرة) وأرجح الآراء أنها صلاة العصر، لقوله- ( صلى الله عليه وسلم ) - فى يوم الأحزاب «شغلونا عن الصلاة الوسطي، صلاة العصر، ملأ الله قلوبهم وبيوتهم وقبورهم نارًا». وسطية الأمة لقد وصف القرآن الكريم الأمة الإسلامية بأنها الأمة الوسط قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (آية 143) سورة البقرة. والوسط: الخيار والأجود، ولما أنعم الله على هذه الامة بنعمة الوسطية فكانت خير الأمم، خصها سبحانه وتعالى بأكمل الروائع وأوضح المناهج وأيسر التكاليف وأوضحها، كما قال سبحانه وتعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ?(آية78 سورة البقرة). وفيما رواه الإمام أحمد بسنده عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) « يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه، فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ماأتانا من نذير، أو أتانا من أحد. فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، قال: فذلك قوله (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا) قال: الوسط العدل فتدعون فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم» رواه أحمد. وفيما رواه أحمد بسنده عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال: قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :يجىء النبى يوم القيامة ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال: هل بلغكم هذا، فيقولون: لا، فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيدعى محمد وأمته، فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما علمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا، فذلك قوله عز وجل: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطا رواه أحمد. والآية الكريمة تشير إلى أن الله تعالى حين حوّل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة قبلة إبراهيم عليه السلام واختارها لهم ليجعلهم خيار الأمم، ليكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم، لأن الجميع معترفون لهذه الأمة بالفضل. وواضح أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهل المدينة اليهود، فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بضعة عشر شهرًا، وكان قبلة إبراهيم، فكان يتوجه بالدعاء إلى ربه سبحانه وتعالىوينظر إلى السماء، فأنزل الله تعالى قوله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (آيه144 سورة البقرة). وكان ( صلى الله عليه وسلم ) قبل هجرته قد أمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس، فكان بمكه يصلى بين الركنين فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس. وكان الأمر باتجاهه إلى بيت المقدس من الله تعالى، وكان التحويل إلى الكعبة من الله، ووافق رغبة الرسول ( صلى الله عليه وسلم )، فقد شرع الله التوجه إلى بيت المقدس ثم شرع التحول إلى الكعبة، ليظهر من يتبع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ممن ينقلب على عقبيه، قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى (آية 143 سورة البقرة). عن البراء رضى الله عنه أن رسول الله( صلى الله عليه وسلم ) صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه، فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبى صلى اللٍه عليه وسلمٍ قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت،وكان الذى مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجالًا قُتلوا لم نذر ما نقول فيهم فأنزل الله: اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (آية 143 سورة البقرة).