بمناسبة شهر أكتوبر، دعوني أحدثكم عن شخصيةٍ ليست بطولية، ولا نُسب إليها يومٌ مجيد في تاريخها، بل عن امرأةٍ غرقت بدماء شعبها تحت وطأة عنادها وغرورها. امرأةٍ ظنت أن القسوة بطولة، وأن التحدي بلا وعيٍ شجاعة. إنها جولدا مائير، تلك التي قلبت موازين دولتها يوم السادس من أكتوبر، حين انهار غرورها على رأسها كما ينهار جدارٌ من الوهم. لم تكن إنسانةً تُدرك معنى الرحمة أو الضمير؛ كانت حجرًا باردًا لا ينبض إلا بحب الكرسي والشهرة، حتى لو احترق شعبها كله في أتون الحرب. ولعلّي أتحدث عنها اليوم لا بدافع الحكاية، بل لأني أتمنى أن يسمعني أحد من اليهود، ليعلم كيف تضحك عليهم حكوماتهم، وكيف تُتاجر قياداتهم بدمائهم طلبًا لرضا «الماما أمريكا» التي يهرولون إليها في كل أزمة، يستجدونها الحماية، ويبكون بين يديها النجدة! ولعلّنا ندرك في هذا الموضع أن جولدا مائير لم تكن مجرّد وجهٍ سياسي في تاريخ الحركة اليهودية، بل كانت تجسيدًا حقيقيًا لعقيدةٍ تغذّي روح العداء، وتُؤصّل للكراهية في الوجدان اليهودي. كانت – دون مواربة – من المدرسة التي آمنت بأن العنف هو لغة البقاء، وأن ما تُسمّيه "إسرائيل" لا يمكن أن يزدهر إلا على أنقاض الآخرين. لقد أسهمت جولدا مائير، ومعها جيلٌ كامل من القادة اليهود، في تشكيل وعيٍ جمعي يقوم على إقصاء الآخر وتقديس فكرة الاصطفاء، حتى غدت الكراهية عندهم عقيدةً لا موقفًا عابرًا، وغدا الصراع مع العرب – في تصورهم – ضرورة وجود لا خيار سياسة. وليس خافيًا أن القيادات اليهودية المتعاقبة حملت هذا الإرث المسموم وتوارثت فلسفة البغضاء كما لو كانت وصيّةً مقدّسة. ظل هدفهم الأوحد ثابتًا: تثبيت كيانٍ مصطنع يُدعى "إسرائيل"، ولو كان الثمن دمار الشعوب وسفك الدماء. كل ما يعنيهم هو بقاء الصورة المزيّفة أمام "الراعي الأمريكي" أو كما قلنا سابقًا "الماما أمريكا"، حتى وإن انطفأت قلوب شعوبهم خوفًا وارتباكًا تحت رماد الحروب. إن جولدا مائير لم تكن إذًا شخصيةً عابرة في تاريخ اليهود، بل عقلًا مريضًا أنجب جيلاً يعتنق الوهم باسم الوطن، ويصدّر المأساة للعالم في ثوب الضحية. فمنذ نشأتها وحتى رحيلها، كانت مشروعًا لتكريس الخداع، وتجسيدًا لامرأةٍ لم ترَ في الحياة سوى ساحة صراعٍ ومجدٍ زائل. وُلدت جولدا مائير في الثالث من مايو عام 1898م في أوكرانيا، وسط أسرةٍ يهودية فقيرة فقدت خمسة من أبنائها في طفولتهم. رأت والدها يصنع حاجزًا خشبيًا أمام باب المنزل ليتقي اعتداءات الكراهية، فشبّت على الخوف والصلابة معًا. درست في معهدٍ للمعلمين، ثم عملت مدرسةً وأمينة مكتبة في ولايةٍ أمريكية كانت يقطنها آلاف اليهود المنعزلين عن المجتمع، وهناك التحقت بالحركة الصهيونية الاشتراكية، واستمعَت لمحاضرات ديفيد بن غوريون، الذي أصبح لاحقًا أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني. كانت مستعدة للتضحية بكل شيء في سبيل "القضية اليهودية"، فجمعت التبرعات وساعدت المصابين في الحرب العالمية الأولى، وتزوجت من الرسام موريس مايرسون عام 1917م. وفي عام 1921م اشترطت عليه أن ينتقلا للعيش في فلسطين تحت الانتداب البريطاني آنذاك، حيث انضمت إلى أحد الكيبوتسات اليهودية، تعمل نهارًا في تسوية الأرض للزراعة، وتُدرّس ليلًا اللغتين العبرية والعربية. لكن زوجها لم يحتمل الحياة القاسية فعاد إلى تل أبيب، بينما واصلت جولدا طريقها بانضمامها إلى اتحاد النقابات الاشتراكية. وفي عام 1926م تم انتخابها في مجلس العمل للمرأة الفلسطينية، ثم أصبحت ممثلة للمجلس في مؤتمراتٍ دولية في أمريكا وبريطانيا، حتى صعدت لتكون عضوًا في المجلس التنفيذي للوكالة اليهودية. عام 1945م أرسلها بن غوريون إلى الولاياتالمتحدة لتجمع التبرعات، وهناك ألقت خطابها الشهير في شيكاغو قائلة: "ليس بأيديكم أن تحددوا إن كنا سندخل الحرب أم لا، لكن بأيديكم أن تحددوا إن كنا سنكسب أم نخسر!" – كلماتٌ تكشف عقلًا يؤمن بالدم أكثر مما يؤمن بالحياة. ثم توالت المناصب؛ فكانت من الموقّعين على إعلان قيام الكيان الصهيوني عام 1948م، وأول مبعوثةٍ دبلوماسية إلى موسكو، وأول وزيرةٍ للخارجية، ثم رئيسةً للوزراء حتى عام 1974م. لكن كل هذا الوهج انطفأ بعد هزيمة اليهود المدوية في حرب أكتوبر، حين خرجت المظاهرات تطالب برحيلها، فاعترفت بالعجز قائلة: "لا مفرّ". وبعد عامٍ واحد فقط، في ديسمبر 1978م، رحلت جولدا مائير عن ثمانين عامًا، بعدما أنهكها السرطان خمسة عشر عامًا كاملة. ويوم السادس من أكتوبر، حين جاءها خبر الهجوم المصري-السوري، جلست في غرفة العمليات تدخن بشراهةٍ حتى اصفرّ وجهها من الذعر. كانت تُخفي رعبها تحت ثوب الصلابة، تُعطي الأوامر بلا يقين، وتُخفي انهيارًا داخليًا لا يراه إلا من حولها. قبل الحرب بأيامٍ وصلها تحذيرٌ دبلوماسي بأن مصر تستعد للهجوم، لكنها تجاهلته بغرورٍ أعمى وقالت للموساد: "إنهم يهددون فقط لكسب الوقت في المفاوضات". كان هذا القرار كفيلًا بأن يجعل جيشها يفيق على صدمة العبور العظيم. وفي تلك الليلة السوداء، اتصلت بكيسنجر وهي شبه منهارة، وقالت له بصوتٍ مرتعش: "لو انتصر العرب، فلتقل على إسرائيل السلام". كتب كيسنجر لاحقًا أن نبرتها كانت تعكس رعبًا لم يعرفه الإسرائيليون من قبل. وبعد أيامٍ قليلة، كانت تقف على حافة الانهيار العصبي، تطلب جرعاتٍ من المهدئات، فيما ضباطها يناقشون احتمال اللجوء إلى السلاح النووي، قبل أن تتراجع تحت ضغط أمريكا. حتى بعد الحرب، حين واجهتها أمٌ يهودية في جنازة ابنها قائلة: "ابني مات بسبب غروركم!"، لم تجد جولدا مائير كلمةً ترد بها، فبكت صامتة أمام الناس – لحظةٌ طُمِست إعلاميًا حتى لا تُشوَّه صورة "المرأة الحديدية" التي لم تكن سوى امرأةٍ مهزوزةٍ تحت رماد الكبرياء. وحين نتأمل إرث جولدا مائير، ندرك أن ما خلّفته لم يكن سياسةً بقدر ما كان فكرًا مريضًا رسّخ العداء وأشعل الكراهية. فالذين يحكمون هذا الكيان لم يرثوا عنها فقط قسوة القلب، بل ورثوا الخديعة نفسها: تزويق الباطل بأسماء مقدسة. ومن هنا نفهم لماذا يُصرّون على أن يُسمّوا أنفسهم "إسرائيليين" لا "يهودًا". ف "إسرائيل" هو اسم نبيٍّ كريم، يعقوب عليه السلام، ومعناه في اللغة "عبد الله" أو "من جاهد مع الله". اسمٌ طاهرٌ لا يليق أن يُلطّخوه بدماء الأبرياء. لقد سرقوا الاسم ليُجمّلوا به وجهًا قبيحًا، وليتخفّوا وراء قداسةٍ زائفة تبرّر جرائمهم. أما "اليهودية" فهي دينٌ سماوي نُجلّه ونؤمن به كما نؤمن بكل الأنبياء، غير أن من يدّعون الانتماء إليه اليوم لا يمثلونه، بل شوَّهوا جوهره النقي، واستبدلوا الوصايا العشر بمبادئ الخداع والتسلّط. وأمّا "الصهيونية"، فهي ليست دينًا، ولا تمتّ بصلةٍ للسماء، بل حركةٌ سياسيةٌ عنصريةٌ استيطانية قامت على اغتصاب الأرض وتزييف الوعي. اشتُقّ اسمها من جبل "صهيون" في القدس، لكنهم جعلوه شعارًا لوطنٍ موهوم لا يقوم إلا على أنقاض الآخرين. ولهذا، حين نقول "الكيان الصهيوني"، فإننا نسمّي الأشياء بأسمائها دون تزيينٍ أو مداراة؛ فنحن لا نعادي ديانةً، بل نواجه فكرًا مسمومًا جعل من القتل رسالة، ومن الكذب شرفًا، ومن الخداع وسيلة بقاء. ومن هنا وجب علينا أن نحفظ للّفظ معناه، وللحقيقة نقاءها. فالمسمّى الصحيح هو اليهود لا "إسرائيليون" ولا "صهاينة"، لأننا لا نُكرِّم الباطل باسم نبيٍّ طاهر، ولا نمنح القتلة لقبًا سماويًّا سرقوه ليُغطّوا به قبحهم. فليظل الاسم الحقيقي واضحًا: اليهود، بلا تجميلٍ ولا تزييف، وليبقى وعيُنا حصنًا أمام خرافاتهم وأساطيرهم.