كلما أقبل علينا شهر أكتوبر، عاد إلينا صوته العميق من بين صفحات التاريخ، يذكّرنا بأن الكرامة لا تُمنَح بل تُنتزع. أكتوبر ليس مجرّد شهر في التقويم، بل علامة فارقة في وجدان المصريين، رمزٌ للبطولة والشموخ، ولإرادةٍ كتبت بدمائها فصلًا جديدًا في سفر المجد. ومن بين كل تلك الوجوه التي صاغت النصر، يظل اسم محمد أنور السادات يسطع كالشمس في سماء الوطن. رجلٌ امتلك من الشجاعة ما جعله يتخذ القرار الأصعب في اللحظة التي حسبها الجميع مستحيلة، ومن البصيرة ما جعله يرى ما لم يره غيره. قال كلمته، ومضى بخطاه الواثقة ليقود مصر إلى نصرٍ غيّر وجه التاريخ، وأعاد للأمة صوتها العالي ومكانتها بين الأمم. عزيزي القارئ، وُلِد السادات في قريةٍ صغيرة تُدعى ميت أبو الكوم بمحافظة المنوفية في الخامس والعشرين من ديسمبر عام 1918م، لأبٍ مصري وأمٍ سودانية تُدعى ستّ سيرين. وسط بيتٍ يعجّ بثلاثة عشر أخًا وأختًا، كانت جدّته لأبيه هي اليد التي ربّته واحتضنته، وهي التي غرست فيه القيم الأولى للقرية: الصبر، والرضا، والاعتماد على النفس. وقد ظلّ يردد عنها في كل مراحل حياته: «تربّيت في حضن جدّتي التي علّمتني أن الحياة لا تُؤخذ بالشكوى، بل بالإصرار». كبر الطفل أنور، يحمل في عينيه لمعةً لا تخطئها العين، وكأنها تنبئ بما سيكون. دخل الكُتّاب في قريته فحفظ القرآن الكريم كاملًا وهو بعد في سن الصبا، وتعلّم القراءة والكتابة بين جدران بسيطة تفوح منها رائحة الطين والجهد. وحين انتقل إلى القاهرة مع أسرته، عرف لأول مرة معنى الزحام والمدينة الكبيرة، فالتحق بمدرسة الأقباط الابتدائية في شبرا، ثم انتقل إلى «الجمعية الخيرية الإسلامية»، وهناك بدأ وعيه يتفتح على عالمٍ جديد. لكن جذوة السياسة اشتعلت في قلبه مبكرًا. لم يكن تلميذًا عاديًا يجلس صامتًا في المقاعد الخلفية، بل كان يهرب من الحصص ليستمع إلى خطب سعد زغلول ومصطفى النحاس في الشوارع، كأنما يبحث عن معنى أكبر للحياة. كان يعود إلى قريته في الأعياد، فيجلس بين أصدقائه يقلد زعماء الأمة، فيضحكون ويصفقون له، حتى لُقِّب في بلدته ب«الزعيم الصغير». وفي يومٍ على كوبري القناطر، جلس مع أصدقائه يتسامرون، فاقترب منهم شيخٌ وقور، نظر إليه طويلًا ثم قال: «في وجهك ملامح الملوك، سيكون لك شأنٌ عظيم في مصر». ضحك أصدقاؤه يومها، لكنه لم يضحك، فقد ظلت تلك الجملة ترنّ في أذنه كأنها نبوءة تنتظر موعدها. التحق السادات بالكلية الحربية عام 1936م، وهناك تعرّف على الانضباط والصرامة، لكنه لم يفقد روحه الساخرة ولا حسه الشعبي. كان يقلّد أساتذته وضباطه في الليل، ويقف صباحًا في الطابور متين الملامح، صامتًا كجندي من البرونز. وعندما ارتدى بدلته العسكرية للمرة الأولى، نظر إلى المرآة وقال بصوتٍ خافت: «اليوم لم أعد أنور ابن ميت أبو الكوم... اليوم أنا ابن مصر كلها». كان السادات يملك كبرياء الفلاح المصري، يأنف المهانة مهما صغرت. في أحد أيام الكلية لم يكن معه ما يكفي لشراء طعام، فعاش يومين على رغيفٍ مدهون بالسمن البلدي جاء به من البيت، وحين عرض عليه زملاؤه أن يسلفوه، رفض قائلًا: «الجوع أهون من مدّ اليد». تخرّج ضابطًا شابًا يحمل حلمًا أكبر من رتبته. وبعد سنوات قليلة سيقوده القدر إلى سجون الاحتلال البريطاني بتهمة التعاون مع الألمان، لأنه كان يرى أن عدوّ الإنجليز هو صديق لمصر. وهناك، في المعتقل، تعلّم معنى الصبر والتأمل، فكان يقول بعد خروجه: «السجن كان مدرستي الأولى في الفلسفة، علّمني أن الحرية لا تُوهَب، بل تُنتزع بالوعي». وبين جدران السجن كتب رسائل سرّية بالحبر الخفي، قرأ الكتب واحدًا تلو الآخر، وتكوّنت في داخله رؤيةٌ جديدة لمصر، وللعالم، وللقدَر. وحين خرج، عاد إلى الجيش أكثر نضجًا، وأكثر تصميمًا على أن يكون جزءًا من التغيير القادم. انضم إلى تنظيم «الضباط الأحرار»، وكان صوته هو الذي أعلن للعالم فجر الثالث والعشرين من يوليو عام 1952م، بصوته الهادئ من إذاعة القاهرة: «أيها المواطنون... لقد اجتازت مصر فترة عصيبة...»، ومنذ تلك اللحظة بدأ فصلٌ جديد من حياته، فصلٌ كان يمهد لليوم الذي سيقف فيه في السادس من أكتوبر، يقول لقادته وجنوده: «نحن لا نحارب من أجل الأرض فقط... بل من أجل الكرامة». وفي مساء الخامس من أكتوبر 1973م، جلس إلى جوار زوجته جيهان، يحتسي الشاي بهدوءٍ غريب قبل العاصفة، وقال لها بابتسامةٍ واثقة: «بكرة اسم مصر هيُنَوَّر في الدنيا كلها». وفي الغد، كان الموعد مع التاريخ. عبرت قواتنا القناة، وتهاوى خط بارليف، ورفعت مصر رأسها من جديد. وقف السادات في غرفة العمليات، ينظر إلى الخريطة بعينين دامعتين، وقال: «النهارده رفعت راس مصر... حتى لو هموت بكرة». ورحل السادات في يومٍ اختار فيه القدر أن يكتبه بين الخالدين. سقط جسده في لحظةٍ غادرة، لكن بقيت روحه ترفرف فوق سماء مصر كالعَلَم الذي لا يُنكس. رحل في يوم النصر ذاته، كأنما أراد أن يودّع الدنيا على صدى المدافع التي ردّت للوطن هيبته وكرامته. لم يمت السادات، لأن من يوقظ أمة لا يموت، ومن يزرع في قلوب شعبه معنى الكرامة يظلّ حاضرًا في الذاكرة والضمير. يُذكَر اسمه فتنتفض القلوب فخرًا، وتغدو ابتسامته شهادة ميلادٍ جديدة لمصر التي أحبّها حتى آخر نفس. سيظل السادات حكايةً تروى في كل بيت، وصوتًا ينادي الأجيال بأن الحرية لا تُهدى، وأن الكرامة لا تُشترى. سيظلّ اسمه في وجدان الأمة كنبضٍ لا يهدأ، وكأن صوته ما زال يأتينا من بعيد يقول: «لقد رفعتُ رأس مصر... فاحفظوا أنتم بقاءها عالية».